اتصل بي دكروب الحبيب قبل أسابيع. وكالعادة عاتبني لأنّني لم أزره منذ مدة. سألني عن المناظرة الشهيرة التي أدارها سهيل إدريس بين رئيف خوري وطه حسين، متى نشرت، وأين؟ قلت: «يا لحسن حظّك! المناظرة أمامي لأنني أعكف على كتابة مداخلة عن رئيف في مؤتمر سيُعقد قريباً. المناظرة، كما جاء في كتاب «الأدب المسؤول» نشرتْها مجلة «الآداب»، وعقدت في نوّار 1955». ضحك، وسألني إن كنت أعرف ما نوّار؟ وقبل أن أجيب قال إنّه سيأتيني فوراً.
دخل دكروب معتمراً قبّعة رياضية. بدا لي في ذروة شيخوخته وصباه معاً. كان جسمه متهدماً، لكنّ القبعة كانت تظْهره ابنَ 16 ربيعاً. نزع قبعته ووضعها إلى جانب بورتريه لسهيل. قبل كل شيء طلبتُ إليه أن يشرح سبب ضحكته على التلفون. ردّ: «أتعرف ما نوّار؟». أعتقدُ أنّ نوّار هو اللفظ العربي لأيّار بالسرياني، أجبتُ. أكمل: «صحّ، ولكن بعض أبناء جيلنا، لفرط تهذيبهم، لم يستسيغوا لفظ أيّار لشبهه بـ... (عضو الرجل)، ففضّلوا نوّار، الدالّ على نور الربيع».
ككلّ جلساتي مع دكروب، المرح هو سيّد الموقف، ولو في عزّ الكلام الرصين. قضينا ثلاث ساعات، هي من أغنى ساعات عمري بالذكريات وتحليل الماضي والشخصيّات. كنتُ أعلم أنها لحظاتي الأخيرة مع صديقي العزيز، وربما كان يدرك أنّها لحظاته الأخيرة معي، فلم يفكّر أيّ منا في أن يختصر الجلسة. كان دكروب بالنسبة إليّ أباً ثقافياً، ومعلّماً، وصديقاً، ورفيقاً. وكانت جلساتنا، كلّها، مزيجاً مفعماً من الأبوّة والبنوّة والصداقة والروح الرفاقيّة. وبدءاً من العام 1992 أضيفَ إلى كلّ هذه الأبعاد بعدٌ فريدٌ في العلاقات الإنسانيّة، هو بعدُ الشراكة في مهنة رئاسة التحرير (هو في «الطريق» وأنا في «الآداب»). وإنّها لمهنةٌ أحسبُ أنّها أكثر أبعاد حياتيْنا عذاباً وجمالاً.
تحدثنا عن رواية سحر خليفة الجديدة التي محورُها أنطون سعادة. لم يكن، وهو الشيوعيّ، معجباً بأفكار الزعيم، لكنه لا ينسى تأثيره القوي في أوساط مؤيديه، ولا ينسى ــ بشكل خاص ــ أنه حضر ندوةً كان سعادة يتحدث فيها بفصحى متماسكة طليقة، وباعتداد بالنفس يقارب اعتداد الأنبياء. ثمّ عرّجنا إلى الأدباء والشعراء، فأبدى إعجاباً قويّاً بمحمود درويش، لا بشعره فقط، بل بجنونه وإخلاصه لعروبته كذلك، لكنه ركّز على «نقائه» الإنسانيّ منذ أن تعرّف إليه قبل عقود. لم يكن محمود «كذّاباً»، «مقطّعاً موصّلاً» شأنَ شاعر فلسطينيّ آخر هو... (الحذفُ منّي طبعاً). كما تحدّث عن غسان كنفاني، مشيداً بدوره في تقديم شعراء الأرض المحتلة إلينا، وخصوصاً عبر كتابه «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة». وتحدثنا باستفاضة عن الصراع الناصري ــ الشيوعي. دكروب يرى، باختصار، أنه صراع كان يمكن تفاديه، ويحمّل الطرفين مسؤوليّة اندلاعه وتفاقمه. وهو يعتبر أنّ هذا الصراع كان من أكبر أسباب هزيمة المشروع التقدمي العربي.
لكنّ جزءاً غير قليل من جلستنا تمحور حول شخصيات «شيوعية سابقة». دكروب إنسان رقيق لا يحقد على أحد، ونقدُه لهذه الشخصيات أرفق من النقد الذي يوجّهه إليها شيوعيون حاليون بالتأكيد. غير أنّ اللافت أنّه لم يعتبرها خائنة أو مرتدّة، بل يشتبه في أنها لم تكن مخلصة في شيوعيتها أصلاً. المشكلة في رأيه ليست في حاضرها، بل ماضيها. هذه الشخصيات لم تكن شيوعية في الأصل، وحقيقتها هي ما عليه اليوم، لا ما انحرفتْ عنه بالأمس! وطبعاً تحدّثنا عن سوريا ومصر و«الربيع العربي». دكروب لا يشك في أنّ الأنظمة المهترئة (كلّها كذلك كما يرى) ينبغي أن تزول. بيد أنه لا يشك أيضاً في أنّ الثورات الحاليّة ناقصة ومبتورة، ولا تشكّل ــ بنسختها الأصولية المخلجنة ــ أملًا للشعب العربي المعذب. كثيرون هم السياسيون والأدباء الذين تطرّقنا إليهم في هذه الجلسة الممتعة. ثم استأذن مولانا بالعودة إلى منزله. أوصيتُ يوسف بأن يوصله إلى باب بيته. غادرني مولاي. عدتُ إلى غرفتي، فألفيتُ قبّعته إلى جانب بورتريه سهيل. وفي تلك اللحظة تحديداً، عرفتُ أنني لن أرى مولاي بعد اليوم.
* رئيس تحرير مجلة «الآداب» التي ستصدر إلكترونياً خلال شهور.