من الدروس الأولى التي يتلقاها طلاب الإعلام في جامعاتهم، شرح مطوّل لمعنى عبارة «لا يمكننا أن لا نتواصل». لذا، حين يكتب رمزي النجّار، في اعام 2016، عن أهمية التواصل في قطاع حيوي وأساسي مثل القضاء، فهو لا يقدّم جديداً. لكنه حين يكرّر صياغة هذه الفكرة بعبارات مختلفة، وصولاً إلى القول «خرج المارد من القمقم» في إشارة إلى الإعلام، فهو يبدو كمن يحذّر العاملين في القضاء من خطورة الاستمرار في الصمت الذي لطالما اعتبروه سياسة ناجحة لهم. قد يكون خيار الصمت (أو السكون، كما يسميه النجّار) أثبت نجاحه على مدى القرون الماضية. لكن مع السرعة (أو الحركة) التي تطوّر فيها الإعلام، صار من الواجب إعادة النظر في السياسة الاتصالية التي يتبعها القضاة لإدارة قطاعهم. هذه السياسة مرّت في مراحل متعدّدة يعرضها النجّار بإسهاب في كتابه الجديد «الحركة والسكون: الإعلام والقضاء» الصادر عن «دار نوفل». فيعود بنا المؤلّف إلى الحضارة الصينية التي يسجّل لها إنجازات قانونية منذ ما يقارب الـ2500 ق.م. وقد طوّرت هذه الحضارة قوانينها، لتصل مع «قاون تشن» إلى وقت يفرض فيه حكام الصين نشر تعاليمه وإيصالها إلى كلّ أفراد الشعب. وهذا ما فعله حمورابي لاحقاً، إذ حرص على تعميم قانونه بكل تفاصيله على الشعب من دون استثناء. بدوره، أمر الحاكم الفارسي داريوس بتدوين دليل القوانين وتوزيعه على شعوب الامبراطورية الفارسية كافة. وكما استخدم الحكام «الإعلام» لنشر القوانين، استخدموه أيضاً لنشر العقوبات. يسرد النجّار كيف كان المدانون بالجرائم يوضعون على ظهور الحمير ويجري الطواف بهم في الساحات العامة لكي يعلم المواطنون أن العقاب قد وقع.
ومع تطوّر التشريع، والالتفات إلى أهمية التواصل في عصرنا الحالي، أوصى «اللورد ماكاي» في انكلترا بمنح القضاة حق إعطاء المقابلات أو المقالات في الصحف أو الراديو أو التلفزيون أو حجبها، كما اقترح إنشاء مكتب قضائي إعلامي يعمل 24 ساعة على 24، وسبعة أيام في الاسبوع، وتكون مهمته تأمين المعلومات، الإجابات عن أسئلة الصحافة والإعلام في كلّ مكان من المملكة المتحدة بلا استثناء.
مرتكبو الجرائم التفتوا أيضاً إلى أهمية وسائل الإعلام، فيذكر النجّار أن القاتل المتسلسل الشهير «جاك السفّاح» بعث برسائل إلى وسائل الإعلام. وقد حاول المحققون الاستفادة منها للتوصل إلى هوية المجرم من خلال خطه لكن من دون جدوى.
في كلّ هذه الحالات، كان الإعلام في خدمة القضاء. يستخدمه، ليعلن عن قانون أو عن عقوبة. لكن الأمر لم يستمرّ طويلاً على هذا المنوال. رواج الصحافة في العالم أجبرها على متابعة كلّ القضايا المثيرة لاهتمام الجماهير العريضة، وأبرزها الجرائم. هكذا صار يمكن لجريمة أن تتحوّل إلى «قضية رأي عام» بمجرد إيلائها تغطية إعلامية واسعة. وفي هذا الإطار، يسرد النجّار عدداً من الجرائم التي أسّست لوعي اجتماعي مختلف عن السائد. في قضية «جاك السفاح» مثلاً، أثير النقاش عن حق المومسات في التعامل معهن بإنسانية، وأضاءت قضية «لورينا بوبيت» على التعنيف الزوجي، وتحوّل «الموت الرحيم» إلى مادة سجال على خلفية قضية «جاك كيفوركيان»... كما أسّست قضايا أخرى لمصطلحات جديدة لا نزال نعاني من آثارها إلى اليوم: «معاداة السامية» مع قضية درايفوس، «العدالة الدولية» الناجمة عن محاكمات نورمبرغ التي تلت الحرب العالمية الثانية. (والتي أبرزت منذ ولادتها سياسة الكيل بمكيالين، إذ حوكم المهزوم فقط، وكأن المنتصر لم يرتكب أي جريمة حرب).
لم تعد الاستعانة بالإعلام في القضاء خياراً بل باتت قراراً حتمياً

لكن هذه الأمثلة لا تعني وجود علاقة سوية بين القضاء والإعلام. إذ يعرف كلّ عامل في واحد من هذين القطاعين حجم المشكلات التي يثيرها تدخل الصحافي في قضية ما، أو تحفظ القاضي عن التحدّث في شأنها. وفي هذا الإطار، يحمّل النجّار المسؤولية إلى القضاء الذي يتمسّك بالصمت بوصفه السياسة الأنجح لمعالجة القضايا التي ينظر فيها. فيخصّص الفصل الخامس من كتابه ليشرح سبب حاجة السلطة القضائية إلى التواصل، إذ «لم يعد خياراً ضرورة الاستعانة بالإعلام والتواصل في القضاء بل باتت قراراً حتمياً». ويعدّد مجموعة من الأهداف التي يفترض بالقضاء تحقيقها، مثل «بناء السمعة وتعزيزها، ترسيخ مكانة القضاء، إطلاع المواطنين على تفاصيل القضايا التي تخرج إلى الضوء...». ومن أبرز المبادئ التي يقترحها لإقامة علاقة مثلى بين القضاء والإعلام «تحديد ضوابط أخلاقية وسلوكيات مهنة تؤمن للقضاء حماية مساره، بقدر ما تبادل الإعلام بشفافية دنيا كافية لاستنباط الترياق الشافي لضبط التواصل شرط ألا يسبب قمعه، ولتواصل القضاء بلا تعريض حصافته وسعيه لإحقاق الحق والعدالة». ثم يقترح في الفصل السادس استراتيجية تواصلية للقضاء، يصفها بـ «اختراق نوعي ومحاولة لإنجاز بكر في اقتراح احتراف القضاء للإعلام والتواصل». ويعرض في نموذج مفصّل خطة تواصلية متكاملة يمكن السلطة القضائية الافادة منها.
أما الفصل السابع والأخير من الكتاب، فيبدو خارج السياق بعض الشيء. إذ يدخلنا في عالم الخيال بعدما يستعيد المؤلّف 17 جريمة رسخت في الذاكرة عبر التاريخ، ويختار منها سبعاً ليحاكمها مجدداً بناء على التطوّرات العلمية التي شهدناها، مؤكداً أنها كانت ستختم بنهايات سعيدة (قضائياً). فينطلق في إعادة قراءة هذه الجرائم من ثلاثة معايير: دور الإعلام وتكنولوجيا الاتصال اليوم، دور الطب المعاصر وعلم الأدلة الجنائية، دور الوعي الجماعي وتبدلات المفاهيم والتقاليد. هكذا، يسأل عما كان يمكن للتحقيق في تلك الجرائم أن يؤدي في حال وجود صحافة استقصائية، خبراء الخطوط، الحمض النووي، داتا الاتصالات، كاميرات المراقبة، الوعي الاجتماعي، إلخ.
محاولة استشرافية مسلية نخوضها مع النجّار لكنها لا تبدو مقنعة كثيراً، خصوصاً في الشق المتعلق بدور الإعلام. ذلك أن التطوّرات العلمية والاجتماعية التي يحكي عنها هي أيضاً في متناول المجرمين الذين يحسنون استخدامها، وهذا ما تثبته الجرائم المستمرة في الحصول إلى اليوم. كما أن التعويل على دور وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها أدوات ضغط على الشرطة، سلاح ذو حدين.
قد يكون هذا الأمر أحد عناوين نقاش مفتوح دعا إليه النجار في خاتمة كتابه، الذي أغفل لاعباً أساسياً يحكم بطليه، وهو السلطة السياسية.