بعد التطورات الخطيرة والتداخلات الإقليمية والدولية المتشابكة التي عصفت بالأزمة السورية، بات من شبه المستحيل توقّع أن يتم التوصل إلى حل لهذه الأزمة، بالغة التعقيد، من خلال عزلها عما يحيط بها من اشتراكات... لا سيما على صعيد الأزمة المخضرمة (الصراع العربي ــ الصهيوني) التي تعتبر الأساس والمصدر لكل الصراعات والنزاعات في المنطقة.
وقبل ذلك، الحاضنة الملائمة لتفريخ كل أشكال التطرف الذي اتسعت تهديداته الخطيرة لتشمل العالم بأسره!
في الحقيقة كانت الأزمة السورية منذ بدايتها متصلة بأزمة المنطقة، فقد كانت إسرائيل وحلفاؤها وأتباعهم يراهنون على أن هذه الأزمة ستنتهي بتدمير سوريا، بعدما جرى تدمير العراق، ومن ثم بعزل حزب الله في لبنان عن شريانه الحيوي في إيران، ما يتيح لتل أبيب أن تصفي حساباتها مع الجبهة الشمالية كلها، بعدما تمت التسوية سابقاً مع الجبهتين الجنوبية (مصر) والشرقية (الأردن). وهذا ما يخلق واقعاً جديداً تتسيّد فيه إسرائيل على المنطقة بكاملها، بحيث تملي على الورثة الخليجيين للقرار العربي الرسمي ما تراه من صيغ ملائمة لها من أجل تصفية القضية الفلسطينية... وقد شهدنا مقدمات لمثل هذا الاتجاه في فترة غرور القيادة السعودية وظنّها بأن كل شيء قد انتهى، وأن زمام القرار العربي الرسمي قد بات طوع بنانها، فبادرت إلى الانتقال بعمليات التواصل مع تل أبيب من تحت الطاولة إلى فوقها على أيدي الأمير تركي الفيصل والجنرال السابق أنور عشقي، وجرى طرح مشروع جديد لتنفيذ «المبادرة العربية» بشكل مقلوب رأساً على عقب، يتم معه التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج، قبل التعامل مع حل الموضوع الفلسطيني! بزعم أن ذلك سيشكل الطريق الأفضل لتحقيق السلام!
في أجواء هذا الطرح التسووي الجديد، بدا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أصبح رجل القرار في المنطقة بلا منازع! ولم يقتصر تعامله على هذا الأساس مع الأطراف والقوى الإقليمية، بل تعداه إلى التعامل مع الدول العظمى... وبشكل محدد مع البيت الأبيض والكرملين. والجميع يتذكر استخفافه بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في الفترة الأخيرة من ولايته وسعيه لتأليب الكونغرس عليه، وكذلك محاولاته الإيحاء بأنه قد أصبح صاحب القرار في موسكو!
غير أن المعطيات التي منحت رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا الانتفاخ، سرعان ما تغيرت بشكل جذري مع انقلاب موازين القوى في غير صالح السعودية وتوابعها في الخليج، الذين كان نتنياهو يراهن على استئثارهم بالقرار العربي في غياب القوى التي يتشكل منها المحور الآخر. فمع ازدياد غرق السعودية في رمال حرب اليمن الدموية، وانفجار النزاع مع قطر، وقبل هذا وذاك، مع تغير معطيات الميدان في الأزمة السورية وانقلابها جذرياً لصالح النظام وحلفائه وداعميه، وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه أمام مشهد مغاير كلياً أطاح بجميع مراهناته.
لقد أصبح وجهاً لوجه أمام نظام سوري يستعيد جيشه مساحات واسعة من الأراضي، التي كانت قد خرجت عن سيطرته في الفترات السابقة، وما يحيط به من حلفاء وداعمين محليين وإقليميين ودوليين يلوحون معه بشارات النصر ويؤكدون أنهم باتوا يشكلون وجوداً صلباً في مشهد المنطقة على مشارف نهاية الأزمة السورية، بكل الصور المتوقعة لهذه النهاية.
لقد بات واضحاً أن أي تسوية للصراع العربي ــ الإسرائيلي باتت ملزمة بأخذ المعطيات الجديدة بالاعتبار.. ليس فقط أن سوريا وحزب الله لم يصبحا خارج الصورة، كما كان يحلم نتنياهو، بل على العكس تماماً، أصبحا ومعهما إيران في صلب المشهد الجديد. وعليه لا بد من التعامل معهم في إطار أية مساع لتحقيق التسوية، سواء على الصعيد السوري الداخلي أو على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه اليوم أمام مشهد مغاير أطاح جميع مراهناته


لقد كان تخلي الولايات المتحدة العلني والعملي عن مشروع قطع طريق دمشق بغداد، اعترافاً أميركياً صريحاً بأن التواصل الإيراني مع البحر الأبيض المتوسط سيكون من حقائق التسوية السورية والإقليمية القادمة. تماماً كما كان التفاهم العلني والعملي بين واشنطن وموسكو على اتفاق تخفيض التوتر في الجبهة الجنوبية نوعاً من وضع الحد عملياً لطموح نتنياهو إلى دور إسرائيلي مشارك بحجم كبير في رسم الخريطة السورية والإقليمية في ظل التسوية القادمة! بل أكثر من ذلك باتت المسودات المتوقعة لهذه الخريطة تتضمن تفاهماً روسياً ــ أميركياً على أن حل المسألة الفلسطينية هو الشرط الضروري لضمان السلم والاستقرار في هذه المنطقة التي يراهن الطرفان الدوليان الكبيران وشركاتهما الكبرى على أنها يجب أن تتحول إلى ورشة بناء دولية هائلة يحتاجها الاقتصاد العالمي بصورة ماسة. فخطوط البترول والغاز من إيران والخليج إلى المتوسط التي سيتم بناؤها بمشاركة (وإلى حد ما سيطرة) يفرضها الوجود الروسي الممتد إلى عشرات السنوات في سوريا، ستكون مجرد قمة جبل الجليد المنظورة من عشرات بل مئات مشايع الإعمار وإعادة الإعمار العملاقة التي ستنشأ في المنطقة امتداداً من إيران والخليج إلى العراق وسوريا وتركيا والمتوسط! وما البيان الصادر قبل أيام عن اجتماع قمة «البريكس» في الصين، الذي يعرب فيه زعماء هذه المجموعة الدولية المهمة عن استعدادهم للمشاركة في إعادة بناء سوريا، إلا مؤشر صريح لهذا المستقبل المتوقع.
مع هذا الانقلاب الجذري في معطيات المشهد، أصيب نتنياهو بالهلع، فبادر إلى إرسال وفد رفيع المستوى على الصعيدين السياسي والأمني (يضم رئيسي «الموساد» و«أمان») إلى واشنطن لبحث الموضوع مع الإدارة الأميركية معلناً بشكل صريح أنه يطالب بأخذ مصالح إسرائيل في اتفاق التفاهم على الجبهة السورية الجنوبية. وعندما عاد وفده بخفي حنين من واشنطن توجه هو شخصياً إلى سوتشي للقاء مع الرئيس بوتين من أجل الغرض نفسه. لكن نتائج تلك الزيارة كانت كارثية بالنسبة له فقد نشرت الصحافة الإسرائيلية أنه لم يصب بالخيبة فحسب، بل أصابته حالة هستيريا في حضرة الرئيس الروسي الذي «صفعه» بالقول كما نقل موقع «البرافد»: «من أنت حتى تملي على روسيا سياستها في سوريا؟».
وقد كتب المعلق الإسرائيلي ناحوم برنباع في «يديعوت أحرونوت» مقالاً بتاريخ 31/08/2017 حول حالة الهستيريا التي تعتري نتنياهو هذه الأيام: «وهو الغارق حتى الرقبة في ذاته ومشاكله العائلية وتحقيقاته»، وما يعبر عنه من غضب ونقمة تجاه أجهزة الإعلام، خاصة بعدما نقل «شمعون شيفر في «يديعوت أحرونوت» عن موقع «برافدا» على الإنترنت وصف لقاء نتنياهو مع بوتين بأنه «فشل تام». وأن الرئيس الروسي قد أوضح له بصريح العبارة أن تحالف روسيا مع إيران هو قرار استراتيجي، الأمر الذي أصابه بحال من الهستيريا.
ففي تقرير مفصل نشرته «يديعوت أحرونوت» في عددها الصادر بتاريخ 29/08/2017، أعده معلقها السياسي شيفر استناداً إلى مصدر روسي حضر اللقاء، أكد أن نتنياهو كاد يفقد السيطرة على أعصابه خلال اللقاء، وبدا مرتبكاً عندما فوجئ بردود الرئيس بوتين على طلبه العمل لتقليص وجود إيران في سوريا، في حين حافظ الرئيس الروسي على هدوئه. ونوهت الصحيفة إلى أن كابوس نتنياهو قد تحقق حيث أن بوتين قد تجاهل تهديداته المبطنة بشن عمليات عسكرية في سوريا «ما لم تستجب موسكو لطلبه إخراج القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية من سوريا، ولم يبد أي تأثر بها».
وأضافت الصحيفة نقلاً عن المصدر الروسي أن بوتين واصل «صعق» نتنياهو، عندما أخبره «أن روسيا ستواصل تعزيز مكانة إيران في المنطقة».
وحسب المصدر نفسه فقد أهان بوتين ضيفه واستخف به عندما قال: «ليس بوسع إسرائيل أن تلقن الكرملين الدروس حول الكيفية التي تحقق بها مصالحها في منطقة الشرق الأوسط». (المقتطفات منقولة عن الترجمة التي نشرها موقع «عربي 21»).
إن قراءة دقيقة لهذا المشهد الإسرائيلي الداخلي ومعه المشهد السوري المجاور، وما يحيط بهما من معطيات إقليمية ودولية، توحي بكثير من اليقين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو قد أصبح على عتبة مغادرة الصورة، سواء عن طريق تطورات التحقيق القضائي في ملفات الفساد المتورط فيها، هو وأفراد عائلته، فيكون مصيره كمصير سلفه إيهود أولمرت، أو عن طريق تفكك ائتلافه الحكومي وفشله في بناء توليفة قادرة على توفير الفوز له في انتخابات نيابية مبكرة باتت متوقعة في مستقبل قريب، كما جرى لسلفه الآخر إيهود باراك.
وفي هذا المجال تحديداً، ينظر المراقبون باهتمام إلى دور انقلابي قد تلعبه الجالية الروسية في إسرائيل وزعيمها المتطرف أفيغدور ليبرمان، باعتبار أن هذه الجالية تشكل كتلة حزبية هامة ومتجانسة وذات دور انتخابي فاعل في تشكيل أي ائتلاف حكومي جديد في إسرائيل.
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن يهود إسرائيل الروس كانوا في السابق معادين للاتحاد السوفياتي وعقيدته الشيوعية، في حين يختلف حالياً بصورة جذرية موقفهم من وطنهم الأم، حيث باتوا يشكلون جسراً بالغ الأهمية في العلاقات السياسة والاقتصادية (والمالية بشكل خاص) ما بين إسرائيل وروسيا.
وفي ختام هذه المطالعة لا يستبعد البعض أن يلعب ليبرمان في تسوية إسرائيلية ــ فلسطينية – عربية يرعاها توافق روسي – أميركي، الدور نفسه الذي لعبه مناحيم بيغن في الوصول إلى اتفاقيات «كامب ديفيد» مع مصر. فقد أثبتت التجارب أن اتفاقات التسوية في إسرائيل كانت تحتاج دائماً إلى زعيم متطرف لتمريرها.
وإذا كانت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ونظامه في سوريا ستشكل الشرط اللازم لتحقيق السلام في المنطقة وفقاً لرؤية نتنياهو، فهل سيكون هذا السلام وفقاً لرؤية بوتين مشروطاً بإسقاط رئيس الوزراء الإسرائيلي؟
* كاتب سوري