لعلّ من أهم الحقوق التي ينادى بها للشعوب هو حقّها في تقرير مصيرها، هذا الحق الذي ضُمّن في ميثاق الأمم المتّحدة، حيث كان لصناعة هذا المفهوم العديد من المبرّرات التاريخية وغير التاريخية. وقد جرى تطبيقه في أكثر من واقعة، حيث كانت تختار الشعوب التي تمارس هذا الحقّ الإنفصال، وإقامة دولتها القوميّة الخاصّة بها.
السؤال المطروح هنا إنّه هل نستطيع القول إنّ هذا الحق هو قيمة مطلقة تتقدّم على بقيّة القيم بما فيها العدالة، أم إنّ هذا الحقّ ليس قيمة مطلقة، وإنّما يتبع للعديد من الظروف والمعطيات القائمة، التي قد تجعل من ممارسة هذا الحقّ قضيّة عادلة في ظلّ معطيات ونتائج محدّدة، لكنّها قد تجعل منها قضية غير عادلة في ظل معطيات ونتائج أخرى؟
في مورد الجواب لا بدّ من القول إنّ ممارسة هذا الحق، وإن كانت تستجيب للمشاعر القومية وغير القوميّة، وتعمل على استثارتها، لكنّها تحتاج إلى مستوى عالٍ جدّاً من العقلانيّة والواقعيّة، وعدم الانجرار خلف المشاعر القوميّة (الأنا الجماعيّة) بمعزل عن النّتائج والتّداعيات، أو السلبيّات التي يمكن أن تنجم عن ممارسة هذا الحقّ، والتي قد توصل الى اختيار الانفصال، وإقامة الدّولة المستقلّة.
لو أخذنا على سبيل المثال منطقة كمنطقة الشرق الأوسط، والتي تعجّ بالقوميات والطّائفيات والمذهبيّات، بل العصبيّات القومية والطائفية والمذهبيّة، وما أنتجته من حروبٍ ودمارٍ وفتن، وتبيّن لنا أن مجمل الظروف الراهنة في هذه المنطقة تقود إلى هذا الاستنتاج، بأنّ فتح هذا الباب (حق تقرير المصير) لقوميّة ما، أو لطائفة ما يعزّز نزعة الانفصال لدى العديد من القوميّات، أو الطوائف الأخرى. وهو ما سوف يقود إلى زعزعة استقرار المنطقة أكثر، وإيجاد الكثير من الاضطرابات فيها، وخلق بيئة مساعدة أكثر على إشعال الحروب بين القوميات، والطوائف، ومختلف الجماعات بسبب الاختلاف على الحدود، والأراضي، والموارد الطبيعية، بما فيها النفط، والماء...؛ ولو تبيّن أن ذلك يؤدي الى تهديد الدولة الوطنية في المنطقة، والمساعدة على فرط عقد هذه الدول، وتحويلها إلى دويلات أصغر حجماً، وما قد ينجم عن ذلك من مخاطر، ونتائج لا يمكن حسبانها بشكل ملموس. ولو أصبحت ممارسة هذا الحق تزيد من درجة المخاطر الوجودية على هذه الدول، واستقرارها. ولو كانت النّتيجة إن هذه المنطقة سوف تصبح أكثر ضعفاً أمام مخاطر الهيمنة الاستعماريّة، والتدخّلات الأجنبيّة، عندما تتحوّل إلى دويلات صغيرة وضعيفة متصارعة فيما بينها؛
ولو أسهم هذا الأمر في تعزيز المناخ العنصري، والفئويّات على اختلافها، ولو كان فتح هذا الباب يساعد أكثر على تقوية الطبيعة العنصرية والفئوية في المنطقة، وما قد يؤدي اليه ذلك من إضفاء المزيد من الشرعية (المدّعاة) على الكيان الاسرائيلي، ويعطيه المزيد من عناصر القوة الجيوسياسية، ويمنحه مزيداً من عوامل الاستمرار والقوة.

هل نستطيع القول
إنّ حق الانفصال هو قيمة مطلقة تتقدّم على بقيّة القيم؟

هذا فضلاً عن زيادة الحدود السياسيّة بين الشعوب والمجتمعات، وما يؤدّي إليه ذلك من مزيد من الحواجز السياسيّة والاقتصاديّة، بل وأيضاً الثقافيّة وغيرها، فيما بين تلك الشعوب والمجتمعات؛
لو كانت النتيجة إن ممارسة حقّ تقرير المصير، سوف تؤدّي إلى زيادة احتمالات الحروب القوميّة، والطائفيّة، والمذهبيّة في المنطقة بشكلٍ كبير، وما يؤدّي إليه ذلك من قتلٍ، وسفكٍ للدماء، ودمارٍ، بل وتشجيع لمنطق الحركات التكفيريّة والإجرامية، وإيجاد مناخٍ ملائم لها؛
لو كنّا أمام هذه النتائج وغيرها، هل يبقى أن نقول إنّ حقّ تقرير المصير لهذه القوميّة أو تلك هو قضيّة عادلة؟ عندما يصبح حقّ تقرير المصير مضرّاً بحقوق أخرى أكثر أهميّة، كحقّ الشعوب والمجتمعات بالحياة المستقرّة والأمن، وما يعنيه ذلك من استثارة أسباب تؤدّي إلى مفاقمة التّهديد بالحروب، والنّزاعات وما يترتّب عليها من نتائج مدمّرة على أكثر من مستوى؛ هل يكون من الصّحيح الذّهاب إلى ممارسة هذا الحقّ؟
لو فرضنا مثلاً أن شخصاً يريد أن يمارس حريّته في التّنقّل، لكنّه كان يعلم -مثلاً- أنّه لو أراد أن يستقلّ طائرة ما، فإنّ ركوبه في هذه الطّائرة - ولأسباب معيّنة - سوف يؤدّي إلى إيجاد مخاطر تتعلّق بسلامة وحياة جميع الركّاب؛ هل يمكن القول عندها إنّ حريّته هذه تتقدّم على سلامة الركّاب وحياتهم؟
وعليه، عندما تؤدّي ممارسة حقّ تقرير المصير إلى الإضرار بحقوقٍ أخرى قد تكون أكثر أهمية، وخصوصاً عندما يرتبط الأمر بحقوق الآخرين، والى كمٍ من النّتائج السلبيّة، والمخاطر، يفوق أياً من الإيجابيّات المنتظرة؛ هنا لن يكون مشروعاً ممارسة هذا الحقّ.
إنّ ما نريد قوله هو إنّ ممارسة هذا الحقّ ليست دائماً قضيّة عادلة، بل ربّما تكون قضيّة غير عادلة، إذا ما كانت على حساب قيمٍ، وحقوق أكثر أهميّة. لن يكون من العدالة بمكان أن يذهب مجتمعٌ ما، أو شعبٌ ما إلى ممارسة خيار الانفصال إذا كان لذلك نتائج، وأضرار كبيرة على الشعوب، والمجتمعات الأخرى. وخصوصاً إذا ما التفتنا إلى إنّ ممارسة هذا الحقّ ليست شأناً محلّيّاً من جميع الجهات، بل هي شأن يتجاوز من بعض الجهات البعد المحلّي والذاتي إلى البعد الإقليمي، وما هو أوسع من ذلك.
وعندما نقول إنّ حقّ تقرير المصير ليس قضيّة مطلقة، تتقدّم على جميع القيم والقضايا الأخرى؛ فهذا يتطلّب أن تدرس أيّة واقعة تقرير مصير بعقلانيّة متناهية، وبمستوى عالٍ من الموضوعيّة (في قبال الذاتيّة)، وبشكل علمي بعيداً عن الشعبوية، وبدرجةٍ عالية من البعد القيمي والأخلاقي بعيداً عن العصبيات الفئوية.
ويجب أن تدرس تلك الواقعة بلحاظ قيمٍ أخرى، ربما تكون أكثر أهمية، وهي حقوق الشعوب والمجتمعات في الأمن والحياة المستقرّة، وإبعاد عوامل الفرقة، وفتائل الحروب والنزاعات، وأسباب التوتر والاضطرابات، والمشاعر الفئوية والعنصرية؛ بل وحقوقها في إرساء مزيد من قيم التعاون الخيّر، وفي تعزيز المزيد من القيم الإنسانية، التي تسقط الحواجز المصطنعة فيما بينها؛ وحقوقها في مزيد من التواصل والتقارب، والعلاقات الإيجابية والبنّاءة، التي تعود بالخير، والفائدة على جميع الشعوب والمجتمعات.
إن دراسة موضوعية لمنطقتنا، ربما تفضي الى هذه النتيجة وهي إن شعوب ومجتمعات هذه المنطقة، هي أحوج ما تكون الى حقوقها في الوعي، وفي نبذ أية مشاعر عنصرية، وفي الحصانة أمام أي مشروع فئوي، أو خطاب مذهبي، وفي التعاون، والتقارب، والتواصل، والتصالح على أساس من تلك القيم الوطنية، والإنسانية . وهو ما يساعدها على تحقيق مصالحها بشكل أفضل، ويوفّر لها مزيداً من المناعة أمام تلك المحاولات، التي تقوم بها قوى الهيمنة، والاستعمار، والاحتلال، والتي تهدف الى مزيد من تقسيم المنطقة وشرذمتها، وتحويلها إلى بؤر فتن، وحروب، وعنصرية خدمة للمشروع الإسرائيلي، وتسيّده، ودوام بقائه في المنطقة.
* أستاذ جامعي