يعيش اليمين المسيحي اللبناني عقدة الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل. النوستالجيا لعهده البائد تعالج رومانسياً ربما، إهمالاً كبيراً في هياكل التوقعات، لكنّها لا تسدّ وحشة وضمور الواقع الممتلئ بتحولات قوى صاعدة لها فاعليتها وحضورها وبدائلها وخياراتها الوطنية. استقبل اليمين عهد بشير مهللاً باعتباره «نهاية التاريخ» و«نهاية الأيديولوجيات»، ولم يكن «صدام الحضارات اللبنانية» بين بعضها البعض إلا النتيجة المطلوبة التي كان ينتظرها بشير ويمينه لتثبيت مدّعاهما حول الصيغة النهائية للبنان الجديد.
لم يكن اليمين، الذي مثّله بشير على أساسٍ من التعالي والتطرف، يشعر بالاضطهاد والتهميش والقمع والمظلومية، ولكن العصر آنذاك كان أميركياً ــ إسرائيلياً، ونظرية «الدولة المسيحية» مستحكمة في أوساط نخبه السياسية والدينية. وهذان عاملان حاسمان للاستحواذ على نصيب أوفر من الجغرافيا والتاريخ والسياسة. الشعور بالتفوق والقوة شكّلا فرصة نادرة لتحقيق «الرسالة التاريخية» التي تطلّبت سيطرة دون منازع على المجتمع والدولة. الموقف الأيديولوجي والتنظيم وبناء هياكل بديلة كانت تُقدّم بزيٍّ تقدّميٍّ، خلاصي، لاهوتي، راديكالي وكلها تشترك في تفاؤلٍ بأنّ التاريخ يتطور كما يشتهي اليمين وقادته. كان بشير ضنيناً بالسيطرة على آلة الدولة باعتبارها مفتاح التغلّب على النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي للطبقة التقليدية صاحبة الامتيازات، ومنعها من تقييده وباقي الأجهزة والمؤسسات العميقة من تحيّزات سياسية لا يرغب فيها، وخيارات، لا يرتضيها، تريد ضمان مصالح المجموعات الطائفية وإدامتها.
على المستوى المسيحي، توخّى بشير إبراز «قوته الضامّة» التي من شأنها تيسير عملية الدمج والانضواء لمختلف التيارات والأحزاب والشخصيات الفاعلة تحت إرادته الواحدة المطلقة، وعلى المستوى الإسلامي كان المطلوب إبراز «قوته الطاردة» والتعامل مع الطرف المناهض لوجوده في السلطة براديكالية حادة. وكان يفترض أنّ تفكيك شبكة العلاقات والتحالفات التقليدية بجناحيها المسيحي والإسلامي نتيجة حتمية لموازين القوى التي تصبّ لمصلحته، وخصوصاً أنّ الاحتلال الإسرائيلي الذي رهن لديه كل أوراقه بات واقعاً جيو ــ سياسياً مهيمناً يمكن الاستناد إليه في عملية بناء «الإمبريالية البشيرية».

يظن اليمين أنّ دعماً خارجياً أو حرباً أو ظرفاً دولياً يمكن أن يعوّمه من جديد

مع محاكمة حبيب الشرتوني، كان هناك من يستعيد زعماً يمينياً قديماً بأن «التاريخ معنا». ظنّت مجموعة متحمسة من الكوادر والأنصار أنّ النظرية تعرّضت مع اغتيال بشير لانتكاسة، وأنّ الفرصة متاحة اليوم لإعادة إحيائها بتنشيط البروليتاريا المسيحية وإثارة عواطفها من جديد. فات على هؤلاء أنّ هذه «النظرية» بصياغاتها المتطرفة والمخففة على حدّ سواء أصبحت جزءاً من الماضي بحيث لا يمكن تذكّرها إلا في سياق الخيال المجنون الذي سيطر على نخبة حاولت أن تجمع بين تهويمات الأساطير الدينية، وما استقر في الأشواق، وما ارتفع إلى مستوى المطالب السياسية الداخلية إيماناً بتطور التاريخ ومساره الصاعد، وما فرضته طبيعة التحولات الاستراتيجية على لبنان والمنطقة. فيما شعار «بشير حي فينا» الذي يتمّ إسقاطه وتداوله بين حين وآخر كتعبير عن حالة صراع البقاء وتطلعات المشاركة في السلطة، لا يشكل سوى جنبة من جنبات الأعراض النفسية التي تحوّلت إلى سياقات حادة في التفريغ والتعويض السياسي.
مشكلة اليمين الذي يستدعي ماضي «بشير»، عدم تصديقه أنّ الواقع بات خارج يديه تماماً، وأنّه ما عاد بالإمكان استدرار الكذب كما كان، وبالثقة ذاتها. إحدى العواقب غير السارّة داخل البيئة المسيحية، ليس الخوف من تجربة جديدة لا يقين فيها، بل الرفض التام لفكرةٍ تم استغلالها بمجون وإفراط، وشكّلت نقيضاً لوجود المسيحيين ومصالحهم الأساسية. ظنّ هذا اليمين أنّ التحالف مع العدو الإسرائيلي منخفض التكلفة على المجتمع المسيحي، بل ربما توهمّ إمكانية تحميل التكلفة للغير بلا أضرار تُصيبه، وإذا بنفسه يُسدد التكلفة في معقله وبيئته وحضوره وامتيازاته وابتعاده من مركز القرار في الدولة بعدما كان جزءاً أصيلاً فيها!
أمّا اليوم، فكل محاولات إعادة النظام إلى مرحلة بشير أو حتى إلى توازنات مرضية لم تعد مجدية بفعل معادلات القوة القائمة ودخول الوطن في مرحلة التحوّل النظامي بعد الطائف عام 1989 وبعد الأزمة السورية عام 2011 اللتين كرّستا سياسة انتزاع المزايا وسحبت من يد اليمين القدرة على صياغة استراتيجيات داخلية أو خارجية. بقايا اليمين بنسخته المسيحية وحتى بصيغته الجديدة التي أُطلق عليها قوى 14 آذار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005 يواجه ارتباكاً أيديولوجياً وقصوراً تحليلياً في فهم طبيعة المتغيرات والتوازنات. نعم يُمكنه المشاركة في الفوضى العامة وتقديم العروض الخدّاعة واستدعاء الشياطين، كما هي التوقعات مع استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وأجواء الحرب المرتقبة على حزب الله، لكنّه لا يملك يقيناً في المآلات التي تحتمل النتيجة المخيبة نفسها عندما وفّر الصهاينة «الوهم الضروري» لغزوهم لبنان وتنصيب بشير الجميل رئيساً. الصراع اليوم على أوجّه بين من يرغب في بناء نظام يتميز نسبياً بالديموقراطية والعدالة والمنطق والقوة الداخلية، وبين من يعمل وهو مقيّد بشتى أنواع القيود الخارجية، فهو لا يستطيع التصرّف في إطار المصلحة الوطنية ومعادلات الداخل، ومع ذلك يتوقع الاستمرار في السلطة ويفترض نجاحه في خيارات ثبت إخفاقها التاريخي. إحدى الحكم الصينية تقول: «الحشرة الواقفة على مرآة ترى نفسها أكبر من الفيل الذي يقف خلفها». هذه حقيقة اليمين الآن الذي يظنّ أنّ دعماً خارجياً سعودياً، أو حرباً إسرائيلية، أو ظرفاً دولياً وإقليمياً، يمكن أن يعوّمه من جديد، فنراه ينظر إلى صورته الحاضرة بمرآة الماضي للتغلّب على أزمة ارتيابه في ذاته وتراجع دوره ومشروعه التاريخي!
* كاتب وأستاذ جامعي