لكي نفهم الدبلوماسية السعودية التي أخذت في عهد سلمان شكل «الهوليغانيسم»، فإن لزاماً على أي مراقب العودة إلى التاريخ من أجل عقد مقارنة بين ماضي الدبلوماسية السعودية وحاضرها. فنحن أمام مرحلة فاصلة تقطع مع ما سبق وتؤسس للاحق بدأت نذره المفزعة مع حركة تغييرات راديكالية في الرهط السياسي المعني بإدارة الشؤون الخارجية للمملكة السعودية.
تدنّي كفاءة وخبرة وتجربة الفريق الدبلوماسي السعودي الحالي، تآزر مع اعتداد مسرف بالذات مشفوعاً باحتقار الآخر بنكهة شوفينية غير مستورة، سبّبت وقوع صانع القرار في شر أعماله. في الجرد النهائي لحاصل النشاط الدبلوماسي السعودي على مدى ثلاث سنوات، جاءت النتيجة قاب قوسين من الصفر أو أدنى منه.
بفعل الهشاشة البنيوية للدولة السعودية والعائدة إلى الاختلال الفادح بين المساحة الشاسعة والموارد البشرية الكفيلة بتوفير الحماية بالمعنى المطلق، والانقسام المجتمعي، وحساسية الإقليم كمسرح لصراع القوى الصغرى والكبرى، لجأت القيادة السعودية إلى خيار الدبلوماسية الفاعلة المتعددة الوسائل (المال، الإيديولوجيا الدينية، الإقناع، الإعلام، القوة المجرّدة... إلخ)، للتعويض عن تلك الهشاشة وسترها. ولذلك، اختيرَت صفوة العناصر الكفوءة لإدارة ملف الدبلوماسية السعودية. وفي السنين الأولى من عمر المملكة، كان مؤسسها، الملك عبد العزيز، يتولى بنفسه الملف الدبلوماسي لكونه شأناً سيادياً من شؤون القصر. وفي مرحلة لاحقة فوّض أمره إلى أقرب أبنائه إلى تفكيره، أي فيصل، الذي أمسك بحقيبة الخارجية منذ عام 1930 حتى نهاية عهده مغدوراً في 25 آذار سنة 1975، باستثناء فترة قصيرة إبان الصراع على السلطة بينه وبين أخيه الملك سعود، حيث تولى وزارة الخارجية إبراهيم السويل في الفترة ما بين 22 كانون الأول 1960 ـ 11 كانون الأول 1961. وبصورة عامة، لم يتخلّ فيصل عن حقيبة الخارجية حتى بعد أن تولى العرش في الثاني من تشرين الثاني سنة 1964، وبقي متمسّكاً بها حتى نهاية حياته.
بعد مرحلة فيصل، كانت الدبلوماسية السعودية تستند إلى جهد جمعي، وتقوم على مبدأ تقاسم المهمات. فإلى جانب الأمير سعود الفيصل، الذي ورث حقيبة الخارجية من والده وحمل مسؤوليتها بجدارة فائقة حتى إعفائه في 29 نيسان 2015، برز من الجيل الثاني أمراء لعبوا دوراً حيوياً في مضمار الدبلوماسية السعودية مثل تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة خلفاً لخاله كمال أدهم، وبندر بن سلطان، حتى قبل أن يصبح سفيراً في واشنطن، فكانوا يضطلعون بمسؤوليات في العلاقات الخارجية والأمن الوطني. يضاف إلى هؤلاء شخصيات بارزة من خارج العائلة المالكة زاولت مهمات بالغة الحساسية في السياسة الخارجية، ولا سيما في ملف النفط مثل أحمد زكي يماني منذ عام 1965 وهشام ناظر وزير التخطيط ووزير النفط لاحقاً، وغازي القصيبي وزير الصناعة والكهرباء ووزير الصحة، ومحمد أبا الخيل وزير المالية والاقتصاد الوطني ومحمد عبده يماني وزير الإعلام...

في السنين الأولى
من عمر المملكة، كان مؤسسها يتولى بنفسه الملف الدبلوماسي

كان صنّاع القرار السياسي السعودي على دراية تامة بنقاط الضعف والقوة في المملكة. فكانت سريّة القرار، والغموض الذي يحيط به، ومواربته والهدوء الذي يسم الدبلوماسية السعودية كفيلة بتحقيق نتائج أفضل من الدبلوماسية المباشرة والمباغتة والاستفزازية. في حقيقة الأمر، كانت «الواقعية» خاصية أصيلة في الدبلوماسية السعودية، وكان الرهان على «الزمن» محورياً في إنتاج الحل الأمثل لكثير من المشاكل.
لتقريب الصورة، فقد بدأ ربيع الدبلوماسية السعودية بعد حرب 1967 والوقائع المتسلسلة اللاحقة وما آلت إليه من انحسارات سياسية وإيديولوجية، ثم رحيل الرئيس عبد الناصر 1970 ووصول شخصية حليفة للسعودية، أي أنور السادات، وتالياً انسحاب القوات السوفياتية من مصر سنة 1971 وحرب أكتوبر 1973 ومتوالياتها، وأوّلياتها الطفرة النفطية وإطلاق برنامج التحديث في الداخل و«الحقبة السعودية» في الخارج.
في النتائج، ألقت السعودية عن كاهلها أثقالاً من الهواجس التي تراكمت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، بسبب كثافة حضور الحركة الناصرية وكوكبة التنظيمات القومية واليسارية التي كانت تسبح في فلكها، والتي مثّلت مصدر تهديد وجودي للنظام السعودي، والأنظمة الملكية في غرب آسيا بوجه عام. لم تكن جملة التغييرات تلك صناعة سعودية، ولكنها الخاتمة الموضوعية لحركة فكرية وسياسية سادت المنطقة لنحو عقدين من الزمن.
ومن وحي التجربة الدبلوماسية السعودية، كان اتخاذ القرار يتّسم بالبطء، وهو أقرب إلى رد الفعل منه إلى الفعل، والمداورة وليس المباشرة. بكلمات أخرى، هو أسلوب ينسجم مع التقييم الاجمالي لدى صانع القرار لعناصر قوته وضعفه، ولكنه يحقّق نتيجة مضمونة، لكونه يضفي على الدبلوماسية وقاراً وهيبة، ويصيب الآخر بحيرة تدفعه إلى المبالغة في قوة الطرف السعودي ودوره، وفي الوقت نفسه حرمان هذا الآخر القدرة على التنبؤ بالنتائج.
ولعل أهم ما يميّز الدبلوماسية السعودية في الماضي، هو التعويل على «الجهد الجمعي» والحؤول من دون الوقع في فخ «الانعزالية». فكانت القيادة السعودية تصدر في الفلسفة الدبلوماسية التي تعتنقها عن رؤية تفيد بأن مصالحها ضمن الإطار العربي مكفولة من خلال التضامن حول القضية الفلسطينية. ولذلك، سعت نحو خلق إجماع عربي حول حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي من خلال مبادرة فهد 1981 ومبادرة عبد الله 2002، وكان الهدف الجوهري منهما أن السعودية لا تريد السير في طريق السلام وحيدة كما فعل السادات، وأن الحل الآمن يكمن في حشد أكبر عدد من الدول العربية للسير بالسلام بصورة جماعية...
كان التردد والحذر قد سبّب انقطاعات في السياسة الخارجية السعودية، وكان الزمن كفيلاً بحلها. وحين اختارت القيادة السعودية الحالية سياسة المباشرة والحزم، لم توفّر شروطها، إذ بقيت عوامل الضعف البنيوية على حالها، وهذا ما ظهر في كل المبادرات التي تبنتها الرياض في الملفات الإقليمية: الحرب في اليمن، توتر العلاقة مع العراق على خلفية تصريحات السبهان، الأزمة مع قطر، أزمة الحريري، عقابيل إعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، ولا سيما التوتر في العلاقة مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والملك الأردني عبد الله الثاني، إلى جانب سلسلة توتّرات جانبية مع تركيا على خلفية الأزمة الخليجية، والجزائر والكويت، وسلطنة عمان...
إن تهديد القيادة السعودية، في عهد سلمان، باستخدام العضلات المالية والعسكرية ضد الخصوم القريبين والبعيدين، لم يكن مبنياً على عناصر قوة حقيقية، وهذا ما سرّع في انكشاف أسرار ضعفها. في الأيام الغابرة، كانت السياسة السعودية تلوذ بالتناقض بين المعلن والمستور، وقد تتبنى موقفاً معتدلاً في العلن وتمارس عكسه في السر، والعكس صحيح. وكان صنّاع القرار واقعيين الى حد كبير، وإن أفصحوا عن تطلعات بعيدة وخارج الممكن، فيما يظهر الآن أن صانع القرار يبالغ في القوة ويتحدث علناً عن طموحات غير واقعية.
في الشدائد السياسية تكشف الدبلوماسية السعودية أسرارها، إذ تتقلّص مساحة المناورة وتتناقص خيارات صانع القرار وتصبح الاستعانة بالخارج حتمياً. ففي الأزمات المنذرة بالحروب يصاب صانع القرار السعودي بالفزع، ويشعر بالعجز عن تحمّل النتائج منفرداً، فالأزمات تسبّب ردّ فعل يفشي سرّ هشاشة البنية. لجأت القيادة السعودية إلى الولايات المتحدة في كل الصدامات العسكرية في المنطقة، بدءاً من حرب اليمن 1962، ثم الصدام الحدودي بين اليمنين الجنوبي والشمالي بداية عام 1979، وخلال الحرب بين العراق وإيران (1980 ـ 1988)، وفي الغزو العراقي للكويت 1990/91، وأخيراً في الحرب على اليمن في 2015 التي أُعلن بدء عملياتها من واشنطن.
في حقيقة الأمر، إن العامل الأميركي كان قدرياً في تحصين الدولة السعودية من الاختراقات الداخلية والخارجية، عبر بعثة التدريب العسكري الأميركية (USMTM)، وعبر المستشارين والخبراء الاقتصاديين والسياسيين الذين بلغ عددهم في مطلع الثمانينيات قرابة 40 ألف أميركي منبثين في كل مفاصل النظام ويديرون دفّته ويشرفون على أمنه، تحقيقاً للمبدأ المتكرر على ألسنة الرؤساء الأميركيين من روزفلت إلى ترامب (أمن المملكة من أمن الولايات المتحدة).
وإذا كانت مرحلة الستينيات بكامل حمولتها الإيديولوجية والسياسية قد فرضت نفسها على القادة السعوديين، ولا سيما فريق السياسة الخارجية في مرحلة السبعينيات، وكان عليها أن تحصد أرباح أفول الحركة الناصرية ومتوالياتها، فإن مرحلة الثمانينيات فرضت نفسها على جيل من القادة الذين شهدوا ذروة التجابه الدولي بين قطبي الحرب الباردة، والثورة الإيرانية في 1979، التي طبعت سياسة السعودية منذ مطلع الثمانينيات، والحرب العراقية الإيرانية، ولاحقاً نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي 1989، والغزو العراقي للكويت 1991، وبروز تيار الصحوة في الداخل واشتقاقاتها اللاحقة التي أرست معالم مواجهة مستقبلية مفتوحة.
كانت الدبلوماسية السعودية حاضرة بكثافة في كل الوقائع الفارقة في المنطقة والعالم إبان الحرب الباردة. وفي النتائج، كانت بحق دبلوماسية مربحة، وهذا ربما ما أغاظ شخصاً مثل دونالد ترمب حين يتحدّث عن الكلفة العالية التي دفعتها الولايات المتحدة لحماية حلفائها في المنطقة ولم تجنِ سوى القليل من ثمارها. للجانب السعودي بطبيعة الحال رأي آخر، وبحسب رأي الأمير بندر بن سلطان، السمسار البارع في العلاقات بين الرياض وواشنطن، للكاتب إدوارد ابستين: «لو علمتَ ما كنّا نعمل حقاً من أجل أميركا فلن تمنحنا الأواكس فقط، بل سوف تعطينا أسلحة نووية» (إدوارد ابستين 1987).
على المستوى الخليجي، الذي يشهد خضّات مباغتة هذه الأيام في العلاقات السعودية القطرية/ العمانية/ الكويتية، بفعل عبثية زملاء الدراسة لولي العهد محمد بن سلمان (من أمثال تركي آل الشيخ، وثامر السبهان، وسعود القحطاني)، وهو الذي يقود الدبلوماسية السعودية في الوقت الراهن. يقدّم هذا الفريق نموذجاً مدقعاً في العمل الدبلوماسي ضمن الدائرتين الخليجية والعربية، إذ لا يكاد تنطفئ نار في خيمة خليجية إلا وتشتعل في أخرى، بفعل تصريحات هذا الفريق الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة وأخلاقيات التعاطي مع الأشقاء المفترضين. لقد أذهل هذا الفريق وشريكه الإماراتي الخاضع تحت إشراف ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد (من أمثال حمد المزروعي، عبد الخالق عبد الله، ضاحي خلفان...) المتابعين لأداء الدبلوماسية السعودية والإماراتية لنوع المواقف وطريقة تفصيحها في كلمات نابية، أقل ما يقال عنها أنها لسان حال «أولاد الشوارع».
في المستوى الهابط للمناكفة البينية، يتقدّم السجال القطري الإماراتي حول خرق الأجواء، وتهديد سلامة الطيران، متزامناً مع شطب قطر من الخريطة الخليجية. الخطأ غير المقصود، المتكرّر دائماً سعودياً وإماراتياً، تكرّر أيضاً مع سلطنة عمان التي ظهرت في خريطة متحف «اللوفر أبو ظبي» منقوصة السيادة، بعد إلحاق محافظة مسندم العمانية بالإمارات. تلك لم تكن مجرد عثرات دبلوماسية عابرة، فالسعودي والإماراتي يتآزران لجهة تنفيذ أجندة سياسية موحّدة. ومن غير المعقول تطابق مواقف البلدين في الملفات ذاتها، وارتكاب الأخطاء أيضاً ذاتها وبحذافيرها.
سعودياً، لا يمكن أن تكون «عبثية» السبهان بنتائجها الكارثية، ولا سيما في الملفين العراقي واللبناني مفصولة عن «عبثية» تركي آل الشيخ، المستشار في الديوان الملكي ورئيس اللجنة الأولمبية العربية السعودية، كما تعكسها تغريدة له على حسابه في «تويتر» المسيئة إلى وزير التجارة والصناعة ووزير الدولة لشؤون الشباب في دولة الكويت خالد الروضان ونعته بـ«المرتزق»، في رد فعل على لقاء الروضان بأمير قطر، تميم بن حمد، وتصريحاته الإيجابية حول دعم قطر للرياضة الكويتية ومساندتها أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا». تغريدة آل الشيخ لم تكن نتوءاً نافراً، بل جاءت في سياق حملة تعرّضت لها الكويت في الأشهر الثلاثة الأخيرة، سيّلت في هيئة مقالات نشرت في الصحف السعودية، تتّهم الكويت بـ«المجاملة» تارة، و«الانحياز» إلى قطر تارةً أخرى، و«الصمت» عن المخططات القطرية ثالثة. وأسوأ ما في «مهزلة» الدبلوماسية السعودية أن ينبري فنانون غنائيون لإعادة نشر تغريدة آل الشيخ، في مشهد يبدو مستهجناً، ويذكّر بالقصيدة الهجائية التي كتبها آل الشيخ ضد قطر وغنّاها الفنانون ذاتهم.
في النتائج، ما بين دبلوماسية الأمس واليوم فارق فلكي. إن المبادرات التي قام بها محمد بن سلمان، بصفته مهندس الدبلوماسية السعودية حالياً، بدءاً من الحرب على اليمن في 2015، وأزمة السفير ثامر السبهان في العراق في آب 2016، وسلسلة وقائع 2017: الأزمة الخليجية مع قطر في حزيران، و«أزمة الحريري» في تشرين الثاني، وملف «مجزرة الأمراء» بتداعياته الدولية في الشهر نفسه، وقضية القدس في كانون الأول بسلسلة الحوادث المصاحبة لها (قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول في 13 كانون الأول، وغياب الملك سلمان ونجله، واستدعاء محمود عباس في 6 تشرين الثاني وإبلاغه رسالة شديدة اللهجة بـ«قبول أي عرض يطرحه ترامب أو يستقيل» بحسب صحيفة «التايمز» في 14 تشرين الثاني، وتالياً اعتقال الملياردير الأردني الفلسطيني صبيح المصري فور وصوله الرياض في 13 كانون الأول للضغط على عباس وعبد الله الثاني بعدم المشاركة في قمة إسطنبول... إلخ)، توصل إلى خلاصة، أن الدبلوماسية السعودية تعمل بلا أرشيف.
إن كثافة الوقائع المتقاربة زمنياً تختزل العقل الدبلوماسي الذي يدير الملفات الإقليمية والدولية على طريقة «الهوليغانز». باختصار، إن الفريق الدبلوماسي بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان يفتقر إلى الكفاءة بالمعنى العلمي، والخبرة، والمواكبة المستندة إلى الموروث الدبلوماسي الغزير.