ضجّت وسائل الإعلام الأميركيّة كلّها أخيراً بنشر تقرير المُحقّق الخاص، ميولر، في موضوع التدخّل الروسي (المُفترض) في الانتخابات الأميركيّة الرئاسيّة الأخيرة. وهذه الضجّة، كما التقرير، تأتي في سياق حملة عداء ضد روسيا، لا تختلف في ملامحها عن ملامح العداء الأميركي ضد الاتحاد السوفياتي في عزّه. وحاولت الحكومة الأميركيّة، كما وسائل الإعلام، تصنّع حالة من الاستفظاع حول الدور الروسي. روسيا تتدخّل في الانتخابات الأميركيّة؟ يا للهول.
مَن يفعل ذلك في عصر الديموقراطيّات المُسالِمة؟ أليس التدخّل في الانتخابات عملاً مُشيناً لا يتوافق مع الحريّات التي تنشدها دول الغرب في ربوعنا؟ ولهجة الوعظ الأخلاقي سمة من سمات الخطاب الأميركي حتى في عزّ نظام العنصريّة الصفيق وفي عصر النابالم فوق رؤوس أهل فييتنام. لأميركا القدرة التاريخيّة على الوعظ الأخلاقي في مواضيع لها فيها سجلّات غير باهرة على الإطلاق.
وفي الوقت الذي تتعاظم فيه لهجة الاحتجاج والاستفظاع الأميركيّة حول التدخّل الروسي المفترض في الانتخابات الأميركيّة، يبدر عن معظم الأميركيّين جهلٌ بتاريخ بلادهم الطويل في التدخّل في انتخابات الغير وفي إلغاء الإرادات الشعبيّة للغير. لا يمكن الحديث عن انتخابات ديموقراطيّة حرّة في دول العالم، الغربي وغير الغربي، بعد الحرب العالميّة الثانيّة. الولايات المتحدّة تدخّلت في كل انتخابات كانت فيها النتائج غير محسومة لصالح وكلائها وحلفائها وعملائها. درس الأكاديمي في جامعة كارنغي ملون، دوف لفين، حالات التدخّل المؤثّر من قبل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في انتخابات حول العالم بين سنوات ١٩٤٦ و٢٠٠٠ ووجد (معتمداً على مصادر منشورة متنوّعة) أن التدخّل حصل بمعدل في ١ من كل تسعة انتخابات وأن التدخّل كان له «تأثير كبير» على النتيجة (1). وهناك حالات تدخّل باتت معروفة مثل الانتخابات الإيطاليّة في عام ١٩٤٨ واللبنانيّة في عام ١٩٥٧ أو انتخابات ٢٠٠٩ في أفغانستان والتي قال وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غيتس، عنها في مذكّراته إنها كانت «انقلاباً أخرق وفاشلاً». ودراسة لفين تعتمد معايير حصريّة (ضيّقة) لطبيعة التدخّل ممّا يقلّص من عدد التدخّلات (الأميركيّة) التي يدرسها (هو مثلاً لم يعتبر أن دعوة مرشّحين مفضّلين لمؤتمرات أو زيارات أو صور مع زعماء في دول الغرب أو حتى تقديم العون الخارجي المالي أو رفض الاجتماع مع معارضين للمرشّح المفضّل أو تسريبات للصحافة للإيحاء أن العلاقة بين الداعم والمدعوم —وهي غير الشاطر والمشطور— ليست على ما يُرام) (2). أما معايير التدخّل التي يُدخلها في الحسبان فتشتمل على تقديم دعم مباشر للحملات الانتخابيّة للمرشّح أو الحزب المُفضَّل أو التهديد (أو الوعد) بالتدخّل المباشر من قبل الدولة المتدخّلة، أو تدريب محليّين على الحملات الانتخابيّة وزيادة عدد المقترعين وتسريب سرّي فضائحي ضد المرشحين المناوئين وتصميم مواد الحملة الانتخابيّة لدعم المرشح أو الحزب المفضّل أو تقديم عون مالي جديد زيادة عن دعم جارٍ، أو سحب الدعم المالي أو شروط التجارة المفضّلة أو القروض عن جهة معارضة للمرشح أو الحزب المفضّل. ويعتمد ليفن على كم هائل من الوثائق الأميركيّة (المُفرج عنها) وعلى مذكّرات لمسؤولين أميركيّين وعلى كتب مؤلّفين حول السياسية الخارجيّة الأميركيّة - أي على مصادر وافقت عليها الحكومة الأميركيّة. لكن في المقابل، يعتمد لرصد التدخّل السوفياتي على «أرشيف متروخين» الذي تشوبه الكثير من الضبابيّة واللبس وقصّة كتابة متروخين للأرشيف على مدى سنوات طويلة وتهريبها إلى الغرب قصّة يصعب قبولها بلا كيف خصوصاً مع ضلوع المخابرات البريطانيّة في العمليّة. لكن لفين دعم رصده للجانب السوفياتي بمراجع عن الوثائق الماليّة للحزب الشيوعي السوفياتي. وهو اعتمد أيضاً على مصادر المنشق السوفياتي، فلاديمير بوكورسكي، أي أن هناك عدم موازاة بين المراجع الأميركيّة (الرسميّة) والمراجع السوفياتيّة (المنشقّة). بكلام آخر، يمكن الافتراض أن السجلّ الأميركي أسوأ مما يرد في الدراسة، وأن السجلّ السوفياتي أقلّ سوءاً مما يرد في الدراسة.
وبناء على هذه المصادر فإن الكاتب رصد ١١٧ حالة من التدخّل المنحاز المباشر في الانتخابات حول العالم من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معاً، ووجد أن ٨١ تدخّلاً (أي ٦٩٪) كانت من قبل الحكومة الأميركيّة فيما كانت تدخّلات الاتحاد السوفياتي ٣٦ حالة (أي نسبة ٣١٪). لكن الأهم أن ١١,٣ ٪ من كل الانتخابات في تلك المرحلة من الحرب الباردة كانت عرضة للتدخّل المباشر المُوثَّق. أما الحالات غير الموُثّقة فهي ستزيد العدد حتماً.
لكن وسائل التدخّل الأميركي في الانتخابات حول العالم تغيّرت. كانت المخابرات هي التي تقوم بعمليّات التدخّل المباشر في الانتخابات، من نوع توزيع المال في حقائب على الموالين كما في انتخابات عام ١٩٥٧ في لبنان التي بتنا نعرف الكثير عن الدور الأميركي فيها بالتنسيق مع شركات النفط الأميركيّة (3). وتورّط شركات النفط في تمويل حلفاء كميل شمعون في انتخابات ١٩٥٧ دليل على أن أهداف التدخّل كانت دوماً لأهداف سياسيّة واقتصاديّة، مثل إقصاء الرئيس الغواتيمالي اليساري، جاكوبو أربنز، في عام ١٩٥٤ لأنه تجرّأ على تحدّي النفوذ الهائل لشركة «يونايتد فروت كو» الأميركيّة، ولأنه أراد إسعاف المزارعين بقوانين زراعيّة جديدة مُنصفة. ونصّبت المخابرات الأميركيّة مكانه سلسلة من الطغاة العسكريّين الذين عاثوا فساداً وتدميراً وقتلاً في البلاد لأكثر من نصف قرن.
والتدخّل الأميركي في الانتخابات اليابانيّة لم يتوقّف في كل حقبة الخمسينيّات والستينيّات لصالح الحزب الليبرالي الديموقراطي، فيما باشرت المخابرات الأميركيّة (وأحياناً بتمويل سعودي) في الإنفاق على الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا منذ ١٩٤٨ لمنع التحالف اليساري، وخصوصاً الحزب الشيوعي، من الفوز. ومن الأكيد أن الحكومة الأميركيّة تدخّلت في كل الانتخابات في أوروبا الغربيّة (التي كانت تتغنّى بانتمائها إلى المعسكر الحرّ) من أجل منع فوز الشيوعيّين في إيطاليا وفرنسا وفي غيرها أيضاً. ولم تكتف الحكومة الأميركيّة بالتدخّل عبر المال وحده، بل كانت تنشر وثائق مزوّرة عن فضائح جنسيّة مختلقة لتشويه سمعة القادة الشيوعيّين (4). وحثّت الحكومة الأميركيّة أميركيّين من أصل إيطالي لشن حملة مناشدة لأقاربهم وبني وطنهم الأصلي للتحذير من مؤامرة شيوعيّة. ويتذكّر عميل أميركي تلك الحقبة بالحنين قائلاً: «كنا نحمل أكياساً من المال ونسلّمها لسياسيّين مُنتقين لتسديد نفقات الحملات والملصقات والكتيّبات» (5).

تحضّر الأجهزة الأميركيّة جيّداً لعمليّات التخريب وإشعال القلاقل
في دول عدوّة

والنشاط الأميركي التخريبي في تشيلي سبق اغتيال سلفادور الليندي في عام ١٩٧٣ بأعوام طويلة. لقد منعت الحكومة الأميركيّة الليندي من الفوز بالانتخابات في عام ١٩٦٤. وقد سرد تقرير لمجلس الشيوخ الأميركي في تحقيق في السبعينيّات عن عمليّات المخابرات الأميركيّة السريّة في تشيلي وأنها أنفقت ٤ ملايين دولار على ١٥ عمليّة سريّة (تتراوح بين تنظيم الفقراء لمصلحة المرشحين الرجعيّين والانفاق على الأحزاب السياسيّة). وهي اغتالت ببساطة شديدة الليندي عندما فشلت في منعه من الفوز في الانتخابات في عام ١٩٧٠. قد يقول قائل (أو قائلة) إن عمل المخابرات الأميركيّة في التخريب والتأثير على الانتخابات حول العالم قد توقّف بانتهاء الحرب الباردة، لكن على العكس من ذلك فإن عمل الحكومة الأميركيّة تغيّر وتشعّب واتسع. لكن أنماط التدخّل والتخريب تغيّرت، كما تغيّرت أجهزة التدخّل.
لم تعد المخابرات الأميركيّة هي التي تتولّى التدخّل في الانتخابات حول العالم من دون رقابة صارمة من الكونغرس. لقد أنشأ الأخير أجهزة وإدارات خاصّة تتولّى هي شؤون التدخّل في الحياة السياسيّة في بلدان العالم. و«الوقف الوطني للديموقراطيّة» هو الجهاز المركزي في تمويل ما تقرّر أميركا أنه «المجتمع المدني» أو أنه «مؤسّسات ديموقراطيّة» حول العالم. وهناك أيضاً ذراعان للحزبيْن للتدخّل في دول العالم، واحدة باسم «المؤسّسة الديموقراطيّة الوطنيّة» و«المؤسّسة الجمهوريّة الدوليّة» (كل واحدة تتبع لحزب من الحزبيْن). وألكسي نافالني، خصم بوتين، بدأ نشاطه السياسي بمنحة بقيمة ٢٣ ألف دولار من «الوقف الوطني للديموقراطيّة». لو أن حكومة روسيا موّلت خصماً سياسياً لرئيس أميركي لكانت التظاهرات عمّت هذه البلاد، ولكان الصراخ الأميركي المُستفظِع قد زلزل جدران قاعة مجلس الأمن. وفي عام ٢٠١٦ فقط، قدّم «الوقف» ١٠٨ منح ماليّة (بقيمة ٦,٩ مليون دولار) لمنظمّات روسيّة بحجّة «التفاعل مع النشطاء» و«تنشيط التفاعل المدني» في روسيا. وبعد انتهاء الحرب الباردة، أصبح التدخّل الأميركي أكثر صفاقة: يكفي أن تلقي بنظرة على غلاف مجلّة «تايم» في ١٥ تمّوز من عام ١٩٩٦. عنوان موضوع الغلاف عن بوريس يلستن (بالحرف): «اليانكيز (أي الأميركيّون) للإنقاذ: الرواية السريّة عن كيفيّة مساهمة المستشارين الأميركيّين في فوز يلستن». (وكانت الحكومة الأميركيّة قد هدّدت يومها أن قرضاً من صندوق النقد الدولي بقيمة ١٠ مليارات دولار سيُحجب عن روسيا في حال خسارة يلستن، الذي كان المسؤولون الأميركيون يتذمّرون سرّاً أنه كان مخموراً دائماً - لكنه كان يقوم بما يطلبه منه الأميركيّون).
والحكومة الأميركيّة متورّطة في الانقلاب العسكري الذي جرى في هندوراس في عام ٢٠٠٩. وتسريبات رسائل هيلاري كلينتون الالكترونيّة تظهر مدى تورّط الحكومة الأميركيّة في منع الرئيس المنخب ديموقراطيّاً من العودة إلى السلطة. لكن الطريف أن «نيويورك تايمز» اعترفت أخيراً في مقالة لكاتبها المختصّ في شؤون المخابرات، سكوت شيْن، بأن الحكومة الأميركيّة، كما الروسيّة، تتدخّل في انتخابات الدول حول العالم. لكنها ميّزت بين التدخّل الأميركي والروسي بالقول إن التدخّل الأميركي كان لصالح «دعم تحدّي مرشّحين غير تسلطيين لطغاة أو للترويج للديموقراطيّة» فيما زعمت أن التدخّل الروسي كان لصالح أنظمة تسلطيّة (وهل أن اليمين في لبنان والملك حسين والملك المغربي هم من مُروِّجي الديموقراطيّة؟). والحكومة الأميركيّة تاريخيّاً كانت لا تتورّع عن اغتيال المرشّحين الذين لا يروقون لها، كما أنها تعطّل الانتخابات النيابيّة إذا لم تأتِ في صالحها (وهي ألحّت عهد بوش لإجراء انتخابات فلسطينيّة «تشريعيّة» — كأن التشريع يستقيم في ظل الاحتلال — لكنها عمدت إلى تعطيلها وتخريبها بعد فوز «حماس).
يعيش النظام الأميركي حالة غير عاديّة، وهناك نزاع بين الرئيس الأميركي وبين أجهزة الاستخبارات. ووزير الدفاع الأميركي هو حاكم الظلّ الفعلي في شؤون السياسة الخارجيّة والدفاع، فيما يقبل وزير الخارجيّة بدور الظلّ الذي لا يمانع في تلقّي الإهانات من رئيسه على «تويتر». وبعد أكثر من سنة من حكم ترامب، يمكن تجاهل أهميّة تغريداته التي سرعان ما تناقضها سياسات وأفعال للحكومة (مثل التواصل المباشر والسرّي بين الحكومة الأميركيّة والكوريّة الشماليّة). والمخابرات الأميركيّة تعيش حالة انتعاش ليس فقط بسبب زيادة في الإنفاق بل لأن الرئيس يرى جدوى في الحروب السريّة التي يفضّلها على الحروب المباشرة.
وحالة الاحتجاجات في إيران تأتي في سياق الحرب الأميركيّة السريّة. طبعاً، هناك ألف سبب وسبب للاحتجاج في إيران، كما في كل الدول العربيّة. والثورة الإيرانيّة شاخت وفقدت الكثير من بريقها وسحرها وشرعيّتها. لكن إسرائيل باتت تشكو ليل نهار من إيران ومن حزب الله اللذيْن يشكلان الخطر الأكبر على دولة الاحتلال، باعترافها هي. والحكومة الأميركيّة تدرك أن الحرب المباشرة مستحيلة بسبب قوّة إيران العسكريّة وتمنّع أي رئيس أميركي عن تكرار مغامرة غزو العراق. لكن ترامب لمّح إلى حروب بطرق أخرى ضد أعدائه. وقد تعود المخابرات الأميركيّة إلى سابق عهدها الذهبي في الخمسينيات لأن ترامب مولع بأعمال تلك الحقبة ولأن الرقابة على أنشطتها قلّت جدّاً في العهد الجديد. وقد مرّر الكونغرس الأميركي بعد ١١ أيلول قانوناً يتيح للسلطة التنفيذيّة شنّ حروب مطلقة حول العالم تحت عنوان محاربة الإرهاب، وهذا القانون — الذي لم يعارضه إلّا النائبة بربارة لي — هو الذي يغطّي نشر القوّات الأميركيّة في مناطق مثل النيجر والصومال وجيبوتي ومالي بالإضافة إلى كل الشرق الأوسط والمغرب العربي. وتحت هذا النشاط، ستتركّز الحملة ضد إيران ونظام الحكم فيها.
تحضّر الأجهزة الأميركيّة جيّداً لعمليّات التخريب وإشعال القلاقل في دول عدوّة. وقد اعترف مسؤولون في وكالة المخابرات الأميركيّة لعميد المختصّين الأكاديميّين في شؤونها، لوك جونسون، في الثمانينيّات، إن «دسّ» معلومات (حقيقيّة ومفبركة) في الإعلام العالمي يجري بوتيرة ٧٠ إلى ٨٠ معلومة في اليوم الواحد من قبل المخابرات الأميركيّة. وقد زرعت المخابرات الأميركيّة في عام ١٩٩٠ أثناء الانتخابات في نيكاراغوا قصصاً عن الفساد في الحكومة اليساريّة (وفازت المعارضة في تلك الانتخابات). ماذا فعلت أميركا في إيران؟ لم يأتِ زمن تسريب الوثائق لكن هناك حملة مركّزة ضد إيران، والبلاد — خلافاً لكوريا الشمالية — ليست مغلقة جغرافيّاً. وقبل أيّام فقط من بدء الاحتجاجات في إيران اختارت جيزيل خوري في برنامجها الأسبوعي استضافة ابن شاه إيران المخلوع. لكن معالم المؤامرة الأميركيّة تبيّنت في الساعات الأولى لبدء الاحتجاجات.

هناك فصائل في كل دولة تبيع نفسها للخارج مستفيدة من الولاء بالمال والسلاح والمناصب

ليس الشعب الإيراني عميلاً للخارج، وليس الشعب السوري عميلاً للخارج. لكن هناك فصائل في كل دولة تبيع نفسها للخارج وتوالي أنظمة خارجيّة مستفيدة من الولاء بالمال والسلاح والمناصب. لكن مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت في وقت واحد وبلغات متعدّدة عن الاحتجاجات في إيران، من دون أن تكون التغطية منسجمة مع حجم الاحتجاجات. وجريدة «الحياة»، التي لم يرق لها عدم انتقال الاحتجاجات إلى طهران، نشرت على صفحتها الأولى صورة لمشاة في شارع في طهران، تحت عنوان الاحتجاجات المستمرّة، بعد أن كانت قد توقّفت. وكل الصحافيّين الغربيّين، المختصّين بالشؤون الخارجيّة والداخليّة على حدّ سواء، شاركوا في النشاط المحموم لنشر صورة بلاد تهتز من أقصاها إلى أقصاها. والمبالغة في قراءة الاحتجاجات بدأت مبكراً، عندما بدأت استضافة ابن شاه إيران تعمّ في الإعلام العربي والغربي.
واشتعال مواقع التواصل الاجتماعي، بشدّة ووتيرة تفوق كثيراً ما قيل عن تغريدات لحسابات روسيّة في الانتخابات الأميركيّة، لا يغطّي الحدث بل هو يساهم في صنعه ويؤجّج فيه. «ثورة الأرز (والبطاطا)» اللبنانيّة في عام ٢٠٠٥ سبقت ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي لكن التغطية الإعلاميّة الغربيّة للحدث عززّته وزادت من عدد المشاركين الذين واللواتي شعروا أن العالم كلّه معهم (واشنطن تختصر العالم عند عَبَدة الرجل الأبيض). وكل خبراء مراكز الأبحاث ساهموا في التغطية على مدار الساعة وفي نشر شرائط فيديو لا يعلم أحد مصدرها أو طبيعة تصويرها. وهذا يعطي المتظاهر أسباباً إضافيّة للاستمرار خصوصاً وأن التغطية بلغت حدّاً نعى فيه البعض النظام.
وهناك عناوين أصرّت التغطية عليها وقد تساعد على فهم الدور التخريبي الأميركي. في بداية الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، قرّرت مجموعة صغيرة من المتظاهرين الهتاف ضد حزب الله. ولم يكن هناك من أي دور لحزب الله في سوريا، ولم يكن هناك حديث حتى عن حماية مزارات دينيّة. لماذا قرّر هؤلاء المحتجّون الذين لديهم أسباب وأسباب للاحتجاج ضد قمع وفساد وجوْر النظام تحوير الأنظار ضد حزب الله؟ هل كان هؤلاء عفويّين في شعاراتهم التي تحوّلت إلى عناوين في صحافة العدوّ والصحافة الغربيّة والعربيّة على حدّ سواء. وهل كانت المقابلة مع برهان غليون في جريدة «وول ستريت جورنال» في ٢٠١١ عن وعده بقطع دعم «حماس» و«حزب الله» بعد أن يتولّى هو قيادة سوريا الجديدة تلقائيّة؟
أصبح الهتاف من قبل قلّة ضد دعم حزب الله والتدخل في سوريا هو عنوان التغطية عن احتجاجات إيران. يمكن أن يكون هذا عفوياً لكن سرعة استغلاله في الاعلام الأميركي (وفي مراكز أبحاث واشنطن التي تتوزّع في الولاءات بين قطر والإمارات والسعوديّة ودولة العدوّ الإسرائيلي) وحتى من قبل الحكومة الأميركيّة يوحي بالعكس. كيف قرّر متظاهرون أن الشكوى الكبرى من النظام في إيران هو في ذلك الحيّز الذي يزعج أعداءه؟ وكيف لخصّ الهتاف عند المسؤولين الأميركيّين كل الأزمة الداخليّة الإيرانيّة؟ وتأجيج التظاهرات والاحتجاجات على مواقع التواصل كان يمكن أن يوحي بالبراءة والأمانة الصحافيّة لو أن تغطية التظاهرات في بلدان موالية للتحالف الأميركي ــ الإسرائيلي (مثل الأردن أو المغرب مثلاً) تحظى بتغطية وحماسة مماثلة (والاحتجاجات في المغرب على مدى أشهر طويلة لا تلقى أي تغطية تذكر في وسائل إعلام الغرب). يكفي أن يقوم متظاهر واحد بتصوير نفسه وهو يهتف بشعار مؤات لمصالح أعداء إيران كي ينتشر الفيديو ويصبح عنواناً لكل التظاهرات. وهناك مَن هتف بمباركة نظام الشاه، وتستطيع أن تجول على «غوغل» لترى كم حظي هتاف للشاه بتغطية، تزيد من تعظيمها التعامل مع ابن الشاه المخلوع على أنه في طريقه على أوّل طائرة إلى طهران.
لا يستحقّ أي نظام عربي أن يتمسَّك المواطن به. ولا يستحق النظام الإيراني أن يتمسّك به المواطن والمواطنة (وإن كانت قاعدة النظام الإيراني الشعبيّة حقيقية وإن تضاءلت). لكن دراسة التاريخ المعاصر للانقلابات والقلاقل والتخريب الأميركي في أنظمة الحكم حول العالم يصل بك إلى قناعة لا استثناء فيها: تضمن أميركا في تدخّلاتها المباشرة وغير المباشرة، عندما تغيّر نظام حكم ما، نجاحَها في استبدال أيَّ نظام سيّئ - مهما بلغت درجة سوئه - بنظامٍ أكثر سوءاً منه. هذه مهارة أميركيّة فريدة للغاية.

مراجع

(1) راجع دوف لفين، «التدخلات الانتخابيّة المنحازة من قبل الدول العظمى»، مجلّة «كونفلكت منجمنت اند بيس سينس»، أيلول ٢٠١٦.
(2) راجع ص. ٤ من دراسة لفين.
(3) راجع كتاب أيرين غندزير، «ملاحظات من حقل الألغام: التدخّل الأميركي في لبنان والشرق الأوسط، ١٩٤٥-١٩٥٨»، ص. ٢١٥. وراجع اعترافات العميل الأميركي ويلبر كرين إيفلاند في «حبال من الرمال: الفشل الأميركي في الشرق الأوسط»، ص. ٢٤٨-٢٥٨.
(4) ويليام بلوم، «قتل الأمل: التدخل العسكري والمخابراتي الأميركي منذ الحرب العالميّة الثانيّة»، الموقع ٩٢٤ من النسخة الالكترونيّة على «كندِل».
(5) روى مارك وايت ذلك في فيلم وثائقي عن «الحرب الباردة»، وبثّته سي. إن. إن. وذكرته «نيويورك تايمز» في عدد ٦ تمّوز ٢٠٠٦، بمناسبة وفاة وايت.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)