«وفي السياق نفسه، اليوم ما يجري في لبنان في كثير من المناطق، هذه الفوضى، هذا القتل الذريع، هذا الإفقار؟ أنا أقول هذا إفقار متعمد من حكام، كثير من هؤلاء الحكام أدوات صغيرة وحقيرة عند الأميركي، إفقار متعمد لأنه «ما ذهب الفقر إلى مكان إلا وقال له الكفر خذني معك»، إفقار متعمد حتى تبقى شعوبنا العربية والإسلامية تبحث عن لقمة العيش وعن الخبز». (السيد حسن نصر الله، تموز 2012)
«الرئيس الذي يؤمن بثلاثية السيادة والمقاومة وبناء الدولة هو الرئيس الذي سننتخبه وأظنكم تعرفونه جيداً».
(الشيخ نعيم قاسم، نيسان 2014)


تُغني هذه الاقتباسات أعلاه عن الاستدلال على أن حزب الله يدرك تماماً مخاطر الإفقار الممنهج والمستدام منذ اتفاق الطائف من خلال تكتل نخب طائفية تستخدم الزبائنية وريوع الفساد والتعبئة المذهبية للهيمنة داخل المجال المذهبي وللصعود في لعبة توازن القوى في المجال ما فوق المذهبي تحت سقف متعدد الطبقات محلي – إقليمي – دولي. وهذا الربط بين الفساد والاستعمار والهيمنة ليس ترفاً إيديولوجياً، فكما يحاجج جان زيغلر - (المقرر الخاص للأمم المتحدة بالحق في الغذاء من 2001 حتى 2008) في كتابه «الحقد على الغرب» – فالفساد هو من أبرز الآليات التي يهيمن الاستعمار من خلالها على دول العالم الثالث. لا تسيطر الولايات المتحدة من خلال العنف فقط، بل من خلال قوتها البنيوية داخل المؤسسات الدولية والاقتصاد الدولي والأسواق المالية ومجالات المعرفة والاستهلاك والثقافة والتي تفرض من خلالها معايير وشروط تقضم السيادات الوطنية. (وقد استفاض كل من سيف دعنا وعامر محسن وآخرون، عبر هذه الصحيفة، في شرح وتفكيك آليات الهيمنة الغربية على دول الجنوب).
يتفق المعادون للهيمنة الأميركية، كأنصار نظرية التبعية، على أن التناقض الأساسي في دول «الجنوب» هو مع قوى الاستعمار والهيمنة (الشمال)، وهذا الشمال «لديه تحالفاته القائمة واتفاقياته وعقوده، ويتشارك أعضاؤه في رؤية واحدة للعالم، ويسيطرون على أجهزة ومؤسسات الدولة في كل مكان، ويتحكمون في التجارة الدولية، وشبكات التمويل العالمية واستخراج المواد الأولية، وحتى إنهم يتحكمون في صناعة التسلية وتشكيل الذوق العام للإنسانية جمعاء، من الرياضة إلى الثقافة المعولمة» (سيف دعنا ، نموذج إيران: السلاح حياة، أيلول 2015). وثم هناك بنية اجتماعية داخلية للهيمنة (شمال داخل الجنوب) في كل دولة أو مجتمع معادٍ تؤدي دور «الوكيل». إلا أن أنصار نظرية التبعية تعرضوا للنقد على أساس أنهم لا يقدمون فعلياً أي حلول عملية وتعوزهم آليات لتحليل التغيير.
يواجه حزب الله ضغوطاً متزايدة نابعة من الأزمة المعيشية التي تعصف باللبنانيين


في الحالة اللبنانية وفي ما يتعلق بحزب الله، يرى بعض هؤلاء أن الصراع مع النظام السياسي (النضال الطبقي) وفي ظل الهيمنة ليس إلا صراعاً ثانوياً وعبثياً، ولذا لا يمكن أن تنخرط المقاومة في عملية إصلاحية نظراً إلى كلفتها الداخلية المرتفعة (خاصة بوجود بنى طائفية كرسّها المستعمر تاريخياً) على حساب تركيز مواردها على التناقض الأساسي. فيما يذهب آخرون إلى اعتبار أن العلاقة بين القوى الاستعمارية العالمية والكيان الصهيوني وبعض دول المنطقة هي واقعاً ليست علاقة قائمة بين الأنظمة، بل هي علاقة بين بنى اجتماعية قائمة في تلك الدول ينبغي تفكيكها. ولذا فإن مشروع المقاومة بحاجة إلى نموذج بديل ذي مضمون تاريخي – اقتصادي – اجتماعي يخلق ويحمي الحاضنة الشعبية لمشروع المقاومة، «وهذا لا يمكن أن يتم بدون نموذج اقتصادي يحمي حصّة هذه الشريحة من الدخل القومي»، يقول الدكتور سيف دعنا (من كلمة له في مؤتمر عقد في بيروت مؤخراً). فكيف يتحرك حزب الله في ما يخص الشأن المحلي بين هاتين المقاربتين؟

أولوية المقاومة ولكن

يواجه حزب الله ضغوطاً متزايدة نابعة من الأزمة المعيشية والاقتصادية المتمادية التي تعصف باللبنانيين، وذلك لأسباب متعددة. أولاً تتركّز البيئة الحاضنة للحزب في الطبقات الفقيرة والوسطى الدنيا. كشفت دراسة «الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015» الصادرة مؤخراً (كانون الأول 2017) عن «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» أن النسبة الأعلى من الأسر التي تقع تحت خط الفقر الأعلى هي في محافظات الجنوب (41.6%) ثم النبطية (40.3%) ثم البقاع (35%) فيما المعدل الوطني هو 33.6% (لن تكون طرابلس وعكار أفضل حالاً لو جرى تقييمها بمعزل عن كل محافظة الشمال، فالفجوة هي بين الريف والمركز وليست مذهبية أو طائفية بالأصل). وفي استطلاع للرأي (غير منشور) أجراه كل من «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» و«مركز بيروت للأبحاث والمعلومات» في تشرين الأول 2015، وشمل عيّنة من 600 مستطلع، تبيّن أن الذين فضلوا حزب الله (كما القوات اللبنانية) يتوزعون بين نصف صنفوا أنفسهم في فئة الفقراء فيما النصف الآخر توزع بين ميسور الحال ومتوسط الحال، وهو ما يجعل الحزب نسبياً الأكثر تمثيلاً داخل فئة الفقراء مقارنة بسائر القوى السياسية. ولذا تتركّز اهتمامات حزب الله الخدماتية والمالية على هذه الشريحة الأكثر فقراً من خلال مؤسسات كالإمداد وجهاد البناء والعمل الاجتماعي والقرض الحسن (قدم منذ عام 1983 حتى 2017 قروضاً صغيرة ميسرة بقيمة مليارين ونصف مليار دولار تقريباً).
ثانياً، لأن الحزب يتعرض لحملات ممنهجة كجزء من «استراتيجية القوة الناعمة» الأميركية ضده عبر أدوات محلية، وهذه الحملات تجد في الانتخابات فرصة لاختبار العمق الشعبي للحزب لا سيما بعد الحرب السورية. وهنا تركّز المنصات الإعلامية المعادية للحزب على تضخيم مسؤوليته في الأزمات المحلية، لدرجة يُخيّل للناظر من بعيد أن الحزب هو من كان ينهب موارد البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية. إن انتقاد الحزب من زاوية عجزه الإصلاحي، كما يرى البعض، ينبغي أن يختلف تماماً عن وضعه في مقام الناهبين.
وثالثاً، لأن الحزب هو محط آمال شريحة واسعة من اللبنانيين ممن يتطلعون للحزب كقوة سياسية لديها القدرة والنزاهة والثقة لتُمارس دوراً إصلاحياً ولتُسهم في بناء الدولة. بل إن أبناء مجتمع المقاومة يعتبرون أنفسهم وبشكل لا يُعبر عنه صراحة «رعايا» في «دولة» حزب الله، لا أنهم مجرد محازبين أو أنصار. وفي ظلّ الضغوط الاجتماعية والسلطوية داخل أغلب البيئات المذهبية التي تسد المجال العام أمام الاحتجاج، يصبح الحزب هدفاً ملائماً للتنفيس عن السخط والإحباط.
وتفتح النقطة الأخيرة الباب على محاججة أساسية. أصبح من الواضح أن الحاضنة الاجتماعية لحزب الله لم تعد تنظر إليه باعتباره حركة مقاومة فقط، بل أيضاً حزباً سياسياً أصبح منذ عام 2005 مكوناً داخل السلطة التنفيذية. وهنا لا يعدّ مهماً فقط كيف يعرّف الحزب نفسه، بل كيف تتصوره بيئته وما توقعاتها منه، وهي بالمناسبة ليست تصورات وتوقعات نابعة تماماً من فراغ.
في خطاب له قبيل الانتخابات النيابية عام 2005 في مدينة بعلبك قال السيد نصرالله: «المسؤولية من خلال المرحلة الجديدة تُوجب على حزب الله ما يلي: «نحن في حزب الله مصممون على أن نتحمّل مسؤوليتنا كاملة في شراكة لبنانية كاملة في إعادة بناء لبنان... يعني أننا سننتقل إلى الداخل لنكون حاضرين بقوة وفاعلية في الحياة السياسية. في المرحلة الجديدة سنتحمل مسؤولية كاملة في كل الملفات الداخلية على مستوى الإصلاح السياسي والإداري والإنماء ومواجهة الأزمة المعيشية والاقتصادية وتطبيق بقية بنود اتفاق الطائف ومواجهة الفساد، سنكون حاضرين لأنّ الظرف الجديد يفرض علينا ذلك». يكشف هذا الخطاب عن أن حزب الله وإن دخل إلى السلطة لحماية المقاومة أولاً، إلا أنه كان متوثّباً ومتحفّزاً لدور إصلاحي عميق قبل أن تنجح «اللعبة اللبنانية» في دفعه نحو موقع أكثر حذراً تحت وطأة معادلة «المقاومة مقابل الفساد» التي فرضتها قوى السلطة بكافة أطيافها والتي تجمع نخبها «وحدة المصير».
بالمحصلة، أصبحت مشروعية الحزب بنظر بيئته ذات طبيعة «ثنائية متباينة»، المقاومة وبناء الدولة، حيث تبقى دعامة المقاومة هي الأصل إلا أنها ستكون عاجزة عن الوقوف وحيدة. وكلما ازدادت الأحوال المعيشية سوءاً سيصبح مطلب «بناء الدولة» أكثر مشروعية في تصوّر الجمهور، بل الخطر أن يتجاوز قضية المقاومة نفسها. تسهم أجواء الحرب والتوترات في دفع أصوات الاحتجاج المعيشي إلى «الزوايا المظلمة»، ثم تعود إلى صلب النقاشات وبزخم شديد في لحظات الانفراج. ويبدو أن الحزب متنبّه لهذا التحول كما يبرز من خطاب الشيخ نعيم قاسم خلال إطلاق الماكينة الانتخابية في «منطقة الجنوب الثانية» (ِشباط 2018): «إن أولوية المقاومة لا تعني على الإطلاق أننا بعيدون عن الاهتمام ببناء الدولة، فالمقاومة وبناء الدولة اهتمامان أساسيان في مسيرتنا وعملنا».

هل المقاومة والدولة نقيضان؟

إذاً ليست المشكلة في أن الحزب لا يدرك عمق المأزق الاقتصادي والتنموي الذي تعانيه البلاد، ولا يغيب عنه تأثيراته الخطرة على مشروع المقاومة نفسه، إلا أن الحزب يبدو متهيّباً الثمن الذي قد يُجبر على دفعه إن انخرط في مشروع مواجهة الفساد المتأصّل في بنية النظام. يذهب البعض إلى المساجلة أن الحزب يخشى ولا يريد بناء دولة قوية وذلك باعتبار أنه دور الحزب ونفوذه مرتبط بوجود دولة ضعيفة. لهذه الرأي جملة ردود مضادة: أولاً، عندما يكون حزب الله شريكاً أساسياً في بناء هذه الدولة وذلك من موقع وازن، يصبح ممكناً التوصل لصيغة تكامل أو بالحد الأدنى مساكنة تقوم على أرضية من التنازلات والاعترافات المتبادلة بين دولة قوية عادلة والمقاومة. فالدولة القوية لها صيغ متعدّدة وأشكال متعددة، ومنها ما يمكن أن يتجاور مع بل ويستفيد من وجود مقاومة قوية. ثانياً، كما أن بقاء الدولة على شكل تكتل مصالح بين «دويلات مذهبية» سيفرض على الحزب أن ينخرط في لعبة التحاصص لحفظ وتمثيل مصالح «الشيعة» بالمعنى الضيق وهو ما يتعارض تماماً مع هويته ودوره كحركة تحرّر وطني وعربي وإسلامي.
ثالثاً، القدر المتيقن أن وجود «دولة فاشلة» ينتج الأزمات الحالية التي ترتد على الحزب في المقام الأول، وليس فقط اقتصادياً بل وأمنياً بما يحطم مجتمع المقاومة من داخله بحيث ستجد نفسها مضطرة لتحمّل ممارسة الوظيفة «الزجرية» للدولة. رابعاً، الدور المتزايد لحزب الله نتيجة الظروف الإقليمية وما يرتبه ذلك من أعباء على بيئته، يضغط على الحزب بشكل كبير لتحسين ظروف مجتمعه الاقتصادية، لتشعر أن ثمار إنجازات الحزب تتساقط عليها، وأيضاً لتمتين عناصر قوة مجتمع المقاومة ليكون قادراً على حمل أعباء دورها المتصاعد. وخامساً، إن التقديمات الاجتماعية لحزب الله، وبعدما تحول الحزب إلى مجتمع كامل خلال العقد الأخير، لا يمكن فعلياً إلا أن تلبي جزءاً قليلاً من الاحتياجات الملحّة لبيئته الحاضنة. فالأزمة اللبنانية هي اقتصادية في عمقها وليست «تنموية» (بالمعنى الضيق للكلمة)، هي أزمة مرتبطة ببنية الاقتصاد ذات الطابع الريعي وتحطيم القطاعات الإنتاجية وانفجار الدين العام وتركّز الثروة والهدر وانعدام الكفاءة وتالياً البطالة وانخفاض المداخيل وتفاوتها وضعف الإنفاق الاستثماري... إلخ، وهذه الأزمة لا تُحل أبداً بتحسين التقديمات التنموية والخدماتية.
وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الكتابات الأجنبية في ما يخص الخدمات الاجتماعية لحزب الله تعاني من عيبين جوهريين في العموم. الأول، المبالغة في تقدير كمّ هذه الخدمات، كالقول إن مستشفى الرسول الأعظم في الضاحية الجنوبية يقدم الاستشفاء المجاني لبيئة المقاومة. ثانياً المبالغة في تقدير تأثير الخدمات على التأييد الشعبي للحزب، فمن ناحية يتجاوز تأييد الحزب مستوى ومدى ونطاق خدماته الاجتماعية وبفارق كبير، ومن ناحية أخرى يرتبط التأييد في المقام الأول بشعور التمكين والاقتدار الذي يوّلده حزب الله لأنصاره ومجتمعه وهذا أمر تنبّه له بعض الدراسات الأجنبية في السنوات الأخيرة.
من كل ما تقدّم يتضح أن حزب الله يصبح بشكل متزايد أمام معضلة الاإصلاح السياسي وبناء الدولة. ويظهر من خطاب الحزب ومواقفه وبعض سياساته أنه بدأ يتلمّس في السنوات الأخيرة أن ثمن انهيار الدولة بدأ يعادل وربما يتجاوز ثمن الانخراط الجدي في «مواجهات إصلاحية». وهذا تحوّل يمكن تلمّسه في خوض الحزب معركة الانتخابات الرئاسية (حيث كان من جملة أهداف الحزب من وصول العماد عون للرئاسة خلخلة بنية النظام التقليدية وفسح المجال لخطاب إصلاحي من داخل السلطة)، ومعركة قانون الانتخاب، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وقانون الإيرادات الأخير، وفتح ملفي الليطاني والاتصالات.

ملامح المقاربة الإصلاحية

إن تتبع خطاب حزب الله وسياساته المحلية يمكن أن يفيدنا بفهم ملامح الاتجاه الإصلاحي للحزب، ولن نقول «الرؤية الإصلاحية» قبل أن يقدمها الحزب نفسه مكتملة الأركان. يجد الحزب أن طبيعة النظام السياسي اللبناني لا تحتمل قيام إصلاح ثوري، ويعود ذلك لعدة أسباب: أولاً، النظام السياسي اللبناني بجوهره الطائفي يحرف أيّ مواجهة سياسية إلى توتر وصدام طائفي ومذهبي. ثانياً، الزبائنية والفساد لا يمثلان انحرافاً سياسياً للنظام بل أحد أبرز آلياته لإدارة التوازن بين النخب الطائفية. ثالثاً، الفساد في لبنان له حواضن اجتماعية تعتاش منه وتعتمد عليه، وبالتالي مستعدة للمواجهة لحماية «مصدر رزقها»، فريوع الفساد لا تحدّد فقط نفوذ النخبة بل أيضاً قوة الجماعات الملحقة بها. بهذا المعنى فإن المواجهة الإصلاحية الشاملة لن تكون هادئة أبداً وستضع الاستقرار الأهلي على حافة الهاوية.
الطرح البديل الذي يبدو أن الحزب يتلمّسه، أصفه بأنه «إصلاح متدرج متعدد المسارات»، وهو إصلاح يركّز على «القنوات» التي يمر عبرها الفساد بدل أن يتصادم مباشرة مع الفاسدين إلا استثناء، وهو إصلاح يستغرق وقتاً، لا أعلم إن كنا نملكه، إلّا أنه يمنح البلاد الوقت الكافي لتتكيف معه من دون انهيار النظام القائم، بل يميت بعض أجزائه ويستبدلها ثم ينتقل لأجزاء أخرى وهكذا. وهو نهج يتحرك من «هوامش النظام»، وليس من نواته الصلبة. هذه المحاولة الإصلاحية لا تبغي تغيير النظام بشكل شامل ولا أن تتجاوز «الميثاقية»، بل أن تقلص تكاليفه في المرحلة الأولى، وتؤسس تالياً لجعله قابلاً للاختراق من قوى جديدة ربما تتمكن لاحقاً من تنقيحه ليصبح نظاماً كفؤاً.
باختصار، يدرك الحزب أن «المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه بشكل مستمر هي الطائفية السياسية» (الوثيقة السياسية 2009)، إلا أن ثمن تفكيك هذه الطائفية باهظ جداً، فلا يبقى إلا خيار الالتفاف عليها ضمن مسار أطول وأبطأ ولكن لا يفجر صراعات أهلية في بلد للخارج فيه ألف يد وغاية. إن التدرج في الإصلاح انطلاقاً من «هوامش النظام» يقارنه الدكتور عبد الحليم فضل الله، رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، بما جرى اختباره في ظلّ التجربة الشهابية التي عملت في ظلّ النسخة الأردأ للنظام نفسه (الأخبار 2012). يمكن من خلال المراقبة والمتابعة تلمس أن هذا النهج الإصلاحي يتضمن جملة مسارات، بدأ حزب الله العمل على العديد منها:
1- تعزيز صوت المواطنين وقدرتهم على التأثير في العملية السياسية ومخرجاتها، بما يجبر القوى السياسية على رفع كفاءتها وتطوير ممارساتها وسياساتها. ويتجلى هذا الأمر بشكل أساسي بجهد حزب الله الذي امتد لسنوات لإقرار قانون نسبي للانتخابات النيابية يعيد إنتاج سلطة أكثر تمثيلاً والأهم أكثر قلقاً من صوت الناس وآلامهم، وأيضاً أكثر تشتتاً بما يخلق فرصة لصعود قوى جديدة. فالنظام الانتخابي الأكثري «يحرم الثقافات السياسية التي تنطوي عليها الطوائف من التعبير عن نفسها، بينما يتيح النظام النسبي ذلك»، يقول فضل الله (مقاربة بديلة: الإصلاح بدءاً من هوامش النظام، 22 أيار 2010). كما ينادي الحزب بمطلب تعزيز اللامركزية الإدارية لجعل السلطة أقرب إلى نظر الناس ورقابتهم وإضعاف سيطرة النخب الطائفية عليها. فالمركزية الإدارية «تمكن الزعامات التقليدية من الإمساك بزمام مجموعاتها، وتحوّل السلطة إلى آلة عملاقة لتجميع الموارد وإعادة توزيعها على نحو يخالف غالباً الوظائف الأصلية للدولة». (فضل الله: 2010)
2- إغلاق المسارب الأساسية للفساد، وهما التوظيف والصفقات الحكومية. لذا يتشدّد حزب الله بالإصرار على حصر التوظيف بمجلس الخدمة المدنية، وجعل كل التلزيمات خاضعة حكماً لإدارة المناقصات. وتحضر في هذا المجال الخطوة التي أنجزها الوزير محمد فنيش عام 2010 في اقتراح آلية لإجراء التعيينات الإدارية في مجلس الوزراء والتي وإن لم تتجاوز المحاصصة إلا أنها منحت الهيئات الرقابية دوراً واسعاً في عملية التعيين وتعزيز عملها اللاحق للتعيين. وعلى صعيد المناقصات، يظهر موقف الحزب الحاسم بضرورة أن يسلك ملف شراء الطاقة من البواخر طريق إدارة المناقصات.

الكتابات الأجنبية تبالغ في تقدير تأثير الخدمات على التأييد الشعبي للحزب


3- إقرار إصلاحات مالية وضريبية تحدّ من تركّز عوائد النمو لدى شرائح وقطاعات محددة، أي محاولة تقليص الفجوة الاجتماعية وحماية الطبقة الوسطى. في هذا الإطار يمكن فهم معركة حزب الله لإقرار سلسلة الرتب والرواتب والإصلاحات التي ضغط لإقرارها في قانون الإيرادات الأخير والتي شملت زيادة الضرائب على أرباح المصارف والريوع العقارية ومخالفات الأملاك البحرية، بالرغم من كلّ محاولات التهويل التي قادها المتضرّرون بدعم من نخب سياسية كرئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. كما رفض الحزب وحاول منع إقرار زيادة الـ1% على الضريبة المضافة. كما اشترط السيد نصر الله إجراء إصلاحات ومكافحة الفساد للموافقة على فرض ضرائب تطال محدودي الدخل. هذه الإجراءات تسهم في «إعادة بناء طبقة وسطى تعتمد على الإنتاج لا على الريوع، وعلى الموارد المحلية لا على المساعدات الخارجية» (فضل الله: 2010). سابقاً كان يكتفي الحزب بتعطيل الضرائب غير المباشرة والخصخصة الشاملة، فيما مؤخراً تحول نحو المبادرة أيضاً.
4- تركيز الضغط الإصلاحي في القطاعات الحيوية التي تستنزف خزينة الدولة وتمسّ بالحاجات الضرورية اليومية للمواطنين. حتى الفساد قابل للتنظيم والترشيد، فبدل أن تكون هذه القطاعات، كما الحال اليوم، مستباحة بالكامل ويجري تمزيقها بما يدفع نحو انهيارها، يمكن أن يجري رسم حدود للمحاصصة والهدر داخل هذه القطاعات بالتحديد. هنا يبدو الحزب مركزاً على قطاعات الكهرباء والمياه (ملف الليطاني) والاتصالات (ملف التخابر غير الشرعي). في المرحلة المقبلة ينبغي التركيز أيضاً على ملفات معالجة النفايات والمواصلات.
تسهم جملة من الظروف التي تقوض بنية النظام السياسي ونخبه في حث حزب الله على تبني هذا «الاصلاح المتدرج المتعدد المسارات»، ومن أبرزها: (أ) النزف الشديد في موارد وريوع الزبائنية والهيمنة لدى النخب الطائفية. (ب) الوهن في مشروعية النظام السياسي وفقدان الثقة به وعجزه عن تلبية الخدمات الأساسية لأغلبية اللبنانيين. (ج) بروز مزيد من القوى التي تنافس وتنجح بدرجة أو أخرى للدخول إلى لعبة السلطة والمحاصصة وتشتيت الصيغة «الاحتكارية» التي حكمت بعد الطائف، وبعض هذه القوى معادية لمشروع المقاومة لكن بأداء سياسي أكثر رشاقة وصورة ملتبسة (د) ظهور ملامح العجز والترهل على القوى التقليدية سواء في تلبية احتياجات كتلها الاجتماعية أو في قدرتها على «الهيمنة الايديولوجية» أو في تماسك بنيتها الداخلية وهي تطوي حقبة «الآباء المؤسسيين». وعليه إن تطوير حزب الله لهذا النهج الإصلاحي سيمنحه فرصة المشاركة في صياغة وتشكيل لحظة التحول التي يمر بها النظام السياسي للأسباب التي ذكرناها.

خاتمة

إن أياً من هذه المسارات ليس كافياً لوحده في تحقيق الإصلاح السياسي، بل مجتمعة ومع مرور الوقت وتفشي «العدوى» الإصلاحية إلى مسارات وقضايا جديدة يمكن أن تؤدي إلى خلق كتلة مصالح قادرة على دفع مشروع بناء الدولة إلى الأمام بعد أن تُضعِف النخب الطائفية وتقلص الحاجة لها وتكسُر احتكارها للخدمات والتوظيف والتمثيل، وهي في الحد الأدنى قد تضبط الانهيار الحالي.
وهذه المقاربة الإصلاحية التي تعمل وفق آلية «بقعة الزيت» يمكن أن تعزل «أسباب الحياة» عن جذور الفساد بدرجة أو أخرى، وتمنح حيزاً لقوى وسياسات حميدة للصعود، وبالتالي تتيح لنا إمكانية الاستفادة من جملة فرص كإعادة الإعمار في سوريا أو اكتشافات الثروة النفطية، للحصول على فوائض لمعالجة معضلة الدين العام والاستثمار والإنفاق على البنى التحتية والقطاعات الإنتاجية والمجالات التنموية.
إلا أن حاجة هذا النهج للوقت والاستدامة، توجب تأمين الزخم المستمر له ومواجهة إغراءات وتهديدات «الثورة المضادة» ومحاولاتها امتصاص الصدمة أو كسب الوقت والمماطلة. ويمكن القول إن النهج الإصلاحي الذي يبلوره حزب الله يتحرك بحذر نحو المقاربة التي تولي اهتماماً للنضال الاجتماعي المحلي في سياق مواجهة الهيمنة (المقاربة الثانية الواردة في المقدمة)، إلا أن المحدد الرئيسي لسرعة وزخم هذا التحول مرتبط بظروف المواجهة الكبرى.
إنه نهج يتحرك من خلال التوافق متى كان ممكناً ثم الضغط والكباش عند الضرورة، لكنه ليس نهج مواجهة وصدام، وهذا ما يجعله بطيئاً ولكن «آمناً» ولا يهز التوازنات المذهبية والطائفية الداخلية بشكل خطر. هذا النهج يتشكل بالاختبار والممارسة وهذا انعكاس لواقعيته، ويستثمر في التناقضات والوهن داخل النظام السياسي، ويراهن على خلق وتشجيع ثقافة سياسية جديدة في التعاطي مع الصالح العام وكيفية النظر إليه من النخب والمواطنين. وهذا النهج لا يتجاهل الحاجة لتغيير الفلسفة والرؤية والنهج الاقتصادي في البلد، ولا يغفل عن «التناقض الأساسي» مع الهيمنة ودوره في المأزق اللبناني الحالي.
يبقى أن نجاح حزب الله في تطوير مقاربته الإصلاحية وتحفيزها مرهون بشرط محوري يتمثل في إنجاز توافق حولها داخل تحالف قوى 8 آذار. بالمناسبة، إن استقراءً سريعاً للإشكالات التي يطرحها منتمون إلى بيئة حزب الله بخصوص سياسته المحلية يظهر أنها تنصب على تحالفاته المحلية، أكثر مما توجه للحزب نفسه. إن حزب الله بحاجة لخوض حوار عميق خلف أبواب مغلقة مع قوى 8 آذار، يقوم على أن التحالف الاستراتيجي والوجودي لا يستقيم من دون اتفاق حد أدنى في مسألة بناء الدولة والقضية الاجتماعية الاقتصادية. إن هذا التحالف ينادي بتحقيق «كرامة اللبنانيين»، وهي قضية لا تتجزأ، وهذا التحالف يبغي حماية المقاومة وهي أيضاً قضية لا تتجزأ. ولذا لا بد من تطوير هذا التحالف ليكون قادراً على الاستجابة للتحديات الجديدة وفي صلبها الأمن الاجتماعي والاقتصادي للبنانيين، لا سيما مع دخول المواجهة الاستراتيجية مراحل متقدمة بعد ما حصل في سوريا، حيث تحتاج المقاومة إلى بنية اجتماعية صلبة ومكتفية وصاعدة وقادرة على مجاراة مشروع المقاومة، وإلى دولة لا تكون رهينة اقتصادية ومالية وتالياً سياسية بيد واشنطن ونظامها الدولي.