لا شكّ أنّ جبران باسيل ناجح أيما نجاح في استفزاز خصومه واستثارتهم، وفي تعبئة جمهور أعدائه. قدرته على إغاظة فريق الحريري في لبنان دفعت بالأخير إلى تخصيص نائبيْن على الأقلّ، محمد قبّاني وغازي يوسف، للردّ على باسيل ولرصد أعمال وزارته ملفاً بملف. محمّد قبّاني يبدو للمشاهد أنّه مصاب بهاجس باسيل وأنّه يفقد أعصابه لمجرّد أن يُذكر اسمه، وقد حمّله مسؤوليّة ما لحق بلبنان من أضرار جرّاء العواصف لأنّ الأمطار الهاطلة تدخل في نطاق عمل وزارة الطاقة، على حدّ قوله. لكن لمحمد قبّاني مشكلته: لا ينام بوجود جبران باسيل في الحكم. غير أنّ تقييم عمل باسيل وخطابه، بعيداً عن هاجس فريق الحريري، يجب أن ينصفَه.لا شكّ أنّ الرجل يتمتّع بصفات لا يستطيع أن ينكرها عليه حتى خصومه. ذكي في وسط حكومة وطبقة سياسيّة يعمّ فيها الغباء، كما أنّه مثابر ومجتهد بمعنى أنّه يمسك بملفّات وزارته في سرعة قياسيّة، لا نعهدها بوزراء لبنان. هناك من يشغل وزارة لسنوات ولا يستطيع أن يتحدّث بعلم أو معرفة في شؤون وزارته (مثل محمد الصفدي، أو فايز غصن، أو محمد رحّال، أو نعمة طعمة، أو كلّ من يعيّنه ميشال سليمان في موقع وزاري). يدرس باسيل ملفّات وزارته بعناية ويبدو عليماً في شؤونها وتفاصيلها بعد أسابيع فقط من تسلّمه الوزارة. الحق يُقال. لكن عيوب باسيل تفوق ميّزاته أو مواهبه، التي يبالغ هو نفسُه في تقديرها في نفسِه.
طبعاً، لا علاقة للتقييم بانعدام خفّة الظلّ عند باسيل. هذا شأن الطبيعة. أما عن الصفات البارزة، فالرجل مُصاب بآفة ما اصطلح على تسميته باللاتينيّة «سوبرسليوس»، وهي من جذر يعني «الحاجب» (المرتفع) في إشارة إلى الاستعلاء الفكري والشخصي، أو إشارة إلى الذي يريد أن يتحدّث لمَن يَعتبر أنهم أدنى مستوى منه في الذكاء والمعرفة (أقرب وصف لـ«سوبرسليوس» هو في قول أبي نوّاس: «قل لمن يدّعي في العلم معرفة»). وباسيل في تصريحاته، وفي مؤتمراته الصحافيّة، يتحدّث إلى الإعلام وإلى العامّة على أساس فرضيّة لا يحيد عنها: أنّه على اقتناع راسخ بأنّه أكثر ذكاء من غيره، في الغرفة، أو القاعة، أو المدينة، أو القارّة، أو حتى في الكوكب كلّه. قد يقبل باسيل بوجود صنو له على كوكب آخر. هذا احتمال. وغرور باسيل غير مُبرّر وخصوصاً أنّه حصل على منصبه الوزاري بحكم القربى فقط، لا بحكم الموهبة أو التأييد الجماهيري. وقد فشل في الوصول إلى الندوة النيابيّة في حملتيْن انتخابيّتيْن متتاليتيْن بالرغم من حدّة المنافسة. ولكن هناك ما هو أسوأ في خطاب باسيل وفي شخصيّته. لقد تمرّس في إهانة الشعب السوري والفلسطيني.
وعندما يتحدّث باسيل في موضوع فلسطين، ينمّ عن جهل وعدم معرفة كبيريْن. وكان سبق له أن تحدّث بصورة عابرة (وجاهلة) عن بيع الشعب الفلسطيني لأرضه، مع أنّ أيّ كتاب عام عن القضيّة الفلسطينيّة يتضمّن بديهيّات عنها، مثل أنّ اليهود ابتاعوا أقلّ من 10% من مساحة أرض فلسطين بحلول عام 1948، كما أنّ بيع الأراضي تمّ من قبل عائلات لبنانيّة (مسلمة ومسيحيّة) كانت تملك أراضي في فلسطين (أي المّلاك الغائبون، كما يُسمّون). ولم يعتذر باسيل عن كلامه آنذاك لأنّ غروره يلتقي مع عناده في وصفة مزعجة. ولا يكترث باسيل لكيفيّة وقع كلامه ليس فقط على آذان الشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان، بل على وقع من يعلم بما يجهله باسيل عن القضيّة الفلسطينيّة.
لكن باسيل لم يكتفِ بإهانته للشعب الفلسطيني من قبل: لعلّه يظنّ أنّ التحالف (الطائفي والظرفي) مع حزب يتصدّر مقاومة العدوّ يحصّنه ضد أيّ اتهام بالترويج لدعاية العدوّ، وهو ما فعله باسيل من قبل في المسألة المذكورة أعلاه. وقد تنطّح مؤخراً للإدلاء بآرائه في موضوع اللجوء الموقّت لعائلات سوريّة وفلسطينيّة نزحت من سوريا. لم يفسّر باسيل سبب اهتمامه بالقضيّة وتنطّحه للبروز في التحليل وللتحذير من عواقبها. هو نفى أن يكون مغزى كلامه طائفيّاً وذكّر (كعادته مُفترضاً أنّه يعلم بما لا يعلمه الآخرون) أنّ هناك مسيحيّين بين النازحين من سوريا. لكن باسيل وزير الطاقة، وكان حريّاً به أن يفسّر سبب عدم وصول الطاقة إلى لبنان، بالرغم من تأكيداته على وصول البواخر في الصيف الماضي (الذي حلّ ورحل من دون بواخر). أي أنّ باسيل، لو كان يتمتّع بحس المسؤوليّة السياسيّة والأخلاقيّة، لكان عليه أن يصمت أو أن يستقيل بعدما فشل في تنفيذ جزء مهم من وعوده، خصوصاً أنّه طلب رصد الميزانيّة للبواخر على أساس الوعد الضائع. طبعاً، إن انتقاد فريق 14 آذار له، خصوصاً من قبل فريق فقيد عائلته، رفيق الحريري، لا معنى أو صدقيّة له لأنّ رفيق الحريري نفسه (وهو الذي وعد اللبنانيّين بـ«ربيع» الازدهار المبني على السلام مع العدوّ الإسرائيلي) هو المسؤول أكثر من غيره (وبالاشتراك مع مُتلقّي رشاواه في الدولة السوريّة واللبنانيّة) عن أزمات المعيشة والأخلاق والإعلام في لبنان. إنّ نقد فريق الحريري لباسيل هو بمثابة نقد أنطوان لحد لـ«أبو أرز».
لكن باسيل لم يشرح سبب انزعاجه من وطأة النازحين إلى لبنان ولا سبب دعوته الدول العربيّة لـ«المشاركة» في تحمّل «أعباء» (والكلمة الأخيرة هي لنايلة تويني في ما كُتب لها من بسيط الكلام في افتتاحيّة لجريدة «النهار» المُحتضرة) النازحين. وفكرة المشاركة في تحمّل أعباء النازحين فكرة كتائبيّة قديمة، وقد طرحها الحزب (وروّج لها بحماسة، السيئ الذكر، بشير الجميّل) بالنيابة عن العدوّ الإسرائيلي على الأرجح. وسامي الجميّل قال كلاماً في هذا الصدد لا يختلف أبداً عن كلام باسيل مع أنّ ردود الفعل على كلام الجميّل من فريق متصنّعي التعاطف مع الشعب السوري في فريق التحريض العنصري المحترف في 14 آذار لم توجدْ. ونفى باسيل أن يكون قد دعا إلى إقفال الحدود منبّهاً في الوقت نفسه إلى خطورة أعداد النازحين. لكنه ينسى أن سوريا استقبلت على مرّ سنوات الحرب الأهليّة مئات الآلاف من اللبنانيّين واللبنانيّات النازحين. ماذا كان سيكون ردّ فعل النازحين وأقربائهم في لبنان لو أنّ سوريا حاولت أن ترحّلهم بالقوّة عن لبنان، وذلك لمشاركة الدول العربيّة في تحمّل «أعباء» هؤلاء النازحين؟ ماذا كان سيكون ردّ فعل اللبنانيّين لو أنّ سوريا طالبت يومها بإقفال الحدود أمام النازحين مستخدمة حجج باسيل المُتفذلكة والمُتذاكية؟
تحمّل السوريّون والفلسطينيّون في لبنان الكثير من العنف ومن الظلم على مرّ العقود. لا يملك لبنان صلاحيّة تمنين الشعبين وخصوصاً أنّ وضع الشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان هو أسوأ من كل الدول العربيّة التي استضافت لاجئين بعد 1948. لكنّ لبنان بثقافته العنصريّة والاستعلائيّة (ضد العرب والسود وسكّان العالم الثالث، لأنّ تلك الثقافة تبجّل وتنحني أمام الرجل الأبيض) لا ينفكّ عن التذكير بتضحياته للشعب الفلسطيني. ويمكن مشاهد ومشاهدة الشاشات اللبنانيّة مثلاً أن يريا مسؤولاً كتائبيّاً أو قوّاتيّاً من الضالعين في مجازر ضد مخيّمات فلسطينيّة، أو من الذين تلقّوا تدريبات وأوامر من العدوّ الإسرائيلي في سنوات الحرب (فقط؟) وهو يذكّر الشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان بـ«التضحيات» الجمّة التي قدّمها الشعب اللبناني له. هذه هي صفاقة الثقافة اللبنانيّة العنصريّة.
لكن كلام جبران باسيل ليس خارج السياق بتاتاً. هناك سيادة في لبنان للمنطق الطائفي والعنصري وهو ينخر في جسم الفريقيْن المتنازعيْن في لبنان. لكن لا يمكن تقبّل استفظاع عنصريّة باسيل من قبل فريق يضم أمثال «إم.تي.في» أو «إل.بي.سي»، أو غيرهما ممن امتهنوا على مرّ العقود ضخّ العنصريّة ضد الشعب السوري. لكن موسم استغلال الحرب في سوريا لأهداف انتخابيّة أو ارتزاقيّة جارٍ على قدم وساق. التنافس على الصوت المسيحي على أشدّه، والطرفان، العوني والقوّاتي ــ الكتائبي، سيرجّحان الكفّة، وهما يعملان على فرضيّة أنّ ذمّ الشعب السوري والفلسطيني يحقّق مزيداً من التأييد الشعبي، وفي هذا طبعاً إهانة للمسيحيّين في لبنان.
وقد أثارت تصريحات جبران باسيل ردود فعل، وقامت زمرة من كتّاب في إعلام الحريري وإعلام آل سعود بإصدار عريضة استفظاع لعنصريّة جبران باسيل. إنّ موسم التعاطف مع الشعب السوري قد بدأ بمجرّد أن قرّر آل سعود خوض المعركة ضد النظام السوري، بعدما تريّث إعلام الحريري في لبنان لأشهر بانتظار القرار السعودي حول الحرب في سوريا (من المعلوم أنّ جريدة «المستقبل» تمنّعت عن تغطية الانتفاضة الشعبيّة في سوريا عند انطلاقتها، وتبارز أقطاب 14 آذار في الإصرار على عدم التدخّل في الشأن السوري، فيما كتب للّو المرّ ــ صاحب إنجاز استيراد الطائرات الروسيّة المُقاتلة ــ في تأييد النظام السوري ضد منتفضيه ومعارضيه مُبكّراً في جريدته «الجمهوريّة». وعليك أن تصدّق الآن أنّ محطتي «إم.تي.في» و«إل.بي.سي» وجريدة «النهار»، ذوات التاريخ العريق في العنصريّة الصارخة ضد الشعب السوري برمّته، باتت متعاطفة مع معاناة الشعب السوري.
وكان بيان زمرة الليبراليّة الحريريّة ــ السعوديّة صاحبة العريضة واضحة في مراميها من حيث التركيز في نقدها على «التيّار» العوني، الذي يبدو من خلال برامجه مؤخّراً على الشاشة العونيّة أنّه أصبح الملاذ الطبيعي لفلول «حرّاس الأرز»، كما أنّ زياد نجيم في برنامج «محامي الشيطان» يعيد إنتاج الرواية الإسرائيليّة للحرب الأهليّة بحذافيرها، وعليه تصبح مجزرة عين الرمّانة (والتي سمتها جريدة «النهار» في اليوم الذي أعقب حدوثها عام 1975 بـ«الحادث») مجرّد ردّ فعل طبيعي من أشاوس «الكتائب»، ويصبح مدنيّو ومدنيّات المخيّمات الفلسطينيّة إرهابيّين يستحقون القتل والتعذيب. والطريف أنّ أحداً من هؤلاء لم يتفوّه بكلمة عن حملات العنصريّة القاتلة التي رعاها فريق 14 آذار منذ عام 2005، والتي أودت بحياة العشرات من الأبرياء من العمّال السوريّين، والتي أدّت إلى فقدان المئات من العمّال وتعرّض عدد مماثل منهم للضرب والتعذيب. وقد نشر إعلام الحريري مقالات تتهم باعة العكك الأبرياء بشتّى التهم، وهي تتحمّل مسؤوليّة أخلاقيّة وقانونونيّة ــ لو أنّ في لبنان سيادة للأخلاق وللقانون ــ عن طعن بعضهم بالسكّاكين أثناء همروجات الطائفيّة في حفلات 14 آذار الشعبيّة. وتنظيم عاليه في الحزب التقدمي الاشتراكي (والذي بات اسمه يشكّل إهانة للفكر التقدّمي والاشتراكي على حدّ سواء) مسؤول عن عدد من الاعتداءات ضد العمّال السوريّين هناك بالرغم من أنّ أكرم شهيّب (المُبتسم دائماً عندما يلفّ شال «ثورة (حرّاس) الأرز» عنقه) لم ينم منذ تعرّض شبلي العيسمي للخطف لأنّه أصبح ــ مثل معلّمه ــ محبّاً للشعب السوري.
والزمرة الليبراليّة تلك لم تتذكّر أن تندّد بالعنصريّة ضد الشعب الفلسطيني إلا بعد تصريحات جبران باسيل فقط، وتجاهلت المقالة العنصريّة المقيتة لنايلة تويني في «النهار» عن «العبء» الفلسطيني، لأن كتّاب الحريري ــ آل سعود يدورون في الأفلاك ذاتها، وكلّهم أحبّة. وقد حظيت مجزرة نهر البارد بتأييد تلك الزمرة نفسها، كما أنّ وضع الفلسطينيّين المزري في لبنان لم يحظ باهتمامهم من قبل. لم ينطق هؤلاء بإدانة العنصريّة الصريحة من قبل أقطاب 14 آذار وإعلامه. كما أنّ كوميديا 14 آذار مارست على مرّ سنوات الجنازة المستمرّة لرفيق الحريري أشنع أنواع البغضاء العنصريّة ضد كلّ الشعب السوري وثقافته، ولكنته، وعاداته. والذين تحالفوا مع جزّاري صبرا وشاتيلا أو مع جزّاري «حرب المخيّمات» لا يحقّ لهم تصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني، وكأنّ جبران باسيل هو الوحيد الذي جاهر بالعداء للشعب السوري والفلسطيني في مسخ الوطن.
ومتصنّعو ومتصنّعات محبّة الشعب السوري في لبنان (وفي خارجه) سكتوا عن خبر قطع رأس مواطن سوري هذا الأسبوع من قبل نظام آل سعود، الذي استقبل السنة الجديدة بموسم جديد من قطع الرؤوس اليانعة. لكن محبّة الزمرة الليبراليّة وحرصها على مصالح دول النفط كانا صريحين في العريضة الـ«فايسبوكيّة»، إذ جاء فيها: «كما سيؤدي الخطاب القصير النظر هذا إلى الحاق الأذى بمصالح مئات الآلاف من اللبنانيين المقيمين والعاملين في الخارج». أوّاه، ثم أوّاه، ثم أوّاه. هنا تكاد الدموع تنفر من المآقي، وتكاد الحناجر تهتف تأثّراً بهذا الحرص على مصالح أنظمة القمع الملكيّة. يريد الليبراليّون هؤلاء أن يقولوا أنّ مئات الآلاف من اللبنانيّين المقيمين في دول الخليج ما هم إلا رهائن، وعلى الرهينة احترام الخاطفين (أي السلالات الحاكمة) وتبجيلهم، كما تفعل محطات 14 آذار بالنسبة للخاطف الثائر، أبو إبراهيم، والذي سحر عشّاق «الثورة» بين اللبنانيّين بأعمال خطفه وإجرامه وسرقاته. أي أنّ قلق هؤلاء ليس من سوء كلام باسيل بحدّ عينه، وإنما من قصر نظره، إذ إنه يعود بعدم المنفعة الماديّة على مصالح اللبنانيّين المنتشرين في دول الخليج. أي أنّ الأخلاق عند هؤلاء لا تُقاس إلا بمعيار الدنانير. هذه هي الليبراليّة على المنوال الوهّابي العربي. لكن لم توضّح الزمرة الليبراليّة ما عنته: هل قصدتْ أنّ سلالات النفط تمتعض أيما امتعاض من أي تعبير عنصري في أي مكان في العالم العربي؟ هل قصدوا أن يقولوا أن شيوخ النفط وأمراءه وملوكه لا يتقبّلون أي كلام عنصري؟ هذا ما عنوه بالتأكيد.
يضيق لبنان بالنازحين العرب، من سوريّين ومن فلسطينيّين، ولا يضيق بعشرات الآلاف من جنود العدوّ الإسرائيلي الذين كانوا يغزون لبنان دوريّاً، قبل ظهور ردع المقاومة، وكانوا أحياناً يُستقبلون بالأرز والورود. ويضيق لبنان بالفقراء من كلّ الجنسيّات ولا يضيق بأثرياء التلوّث النفطي العربي، والذين يتلذّذ اللبناني واللبنانيّة بالانحناء أمامهم. ضاق لبنان بآلاف من النازحين، ولم يضق بآلاف من جنود الـ«يونيفيل» الذين قدموا إلى لبنان لحماية العدوّ الإسرائيلي من لبنان، وللتجسّس على مقاومته فيها. ليست استضافة النازحين، سوريّين أو فلسطينيّين، من قبل لبنان مكرمة تستحق الشكر. هو واجب بحكم ما فعله لبنان من استضافة لكلّ المؤامرات التي حيكت ضد سوريا (البلد، وليس النظام هنا) وبحكم التقصير الذي أبداه لبنان منذ 1948 تجاه القضيّة الفلسطينيّة والقضايا العربيّة. إذا كان الشعب السوري ضحيّة لنظام الأسد ــ وهو كذلك ــ فعلى الفريقيْن المتنازعيْن في لبنان إبداء نخوة وعاطفة نحو شعب قام بواجب الضيافة حيال لبنان في كلّ سنوات محنه. ضاق لبنان بوفود النازحين المؤقّتين، ولم يضق بأمراء سلالات النفط المتعدّدي الزوجات الذين حوّلوا قسماً كبيراً من صناعة السياحة في لبنان إلى سياحة دعارة. ضاق لبنان بفقير مات جوعاً وبرداً في شارع الحمراء ولم يضق بعائلة الحريري التي لم تعط لبنان إلا فساداً، ومؤامرات، وفتناً، وارتهاناً لأعداء لبنان.
ستطول الحرب في سوريا والمؤشّرات لا تدلّ على إرادة وقف النزاع من الأطراف الإقليميّة والدوليّة، التي تسيّر فريقي النزاع في سوريا. وليس غريباً على مسخ الوطن أن يتنكّر لواجباته الإنسانيّة البديهيّة في استضافة أخوة من بلد أقرب إلى لبنان من أي بلد آخر (باستثناء فلسطين قبل احتلالها). ليس غريباً على ساسة لبنان أن يُظهروا بشاعة شخصيّاتهم وقسوة قلوبهم نحو المستظلّين في العراء. لو كان الوافدون من سوريا من حملة الدنانير الخليجيّة لهتف جبران باسيل وسامي الجميّل ونايلة تويني بحياتهم، صبحاً ومساءً. لو أن الوافدين من سوريا كانوا من الأوروبيّين البيض، لاصطفّ الصف السياسي اللبناني برمّته ترحيباً بالضيوف. لو أنّ الوافدين من سوريا أتوا في زمن سيطرة النظام السوري على لبنان، لفتح ساسة لبنان، وأولّهم وليد جنبلاط، قصورهم ومنازلهم ترحيباً بالقادمين. لكن الشعب السوري متروك اليوم. الأنظمة والدول تتنافس في تصنّع محبّته، فيما هي تغذّي حربه الأهليّة على أمل ألا تنتهي. لكن لبنان له همومه: حربه الأهليّة إما تستعر وإمّا تدخل في مرحلة الحرب الباردة. ولبنان منكوب أيضاً بأمثال جبران باسيل ونايلة تويني وسامي الجميّل وفؤاد السنيورة، ومنكوب أن لكل منهم جمهوره ومؤيّديه. الحرب اللبنانيّة تمتد وتتسع.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)