حسناً فعلت «السفير» عندما وضعت صورة تخريب قافلة السفيرة الأميركية لآثار صور على صفحتها الأولى. الخبر سيمرّ مرور الكرام. وميشال سليمان (الزائر الرئاسي الذي يحار بين إرضاء السلالة القطرية وإرضاء السلالة السعودية) سيقدّم درع الرئاسة لمورا كونيلي عندما تنتهي ولايتها، كما فعل مع سلفها. يكفي أن تكون مندوبة أميركا كي تحظى بهذا التكريم والتقدير الرئاسي _ بالرغم من أنّ ميشال سليمان تلقّى تجاهلاً وتهميشاً عندما زار أميركا، وحرد بعدها في لبنان لمدّة أيّام معدودة فقط، قبل أن يستقبل جيفري فيلتمان بالطبل والمزمار في منزله العمشيتي. لكن السفير الأميركي في لبنان ليس سفيراً: إنّه أو إنّها مندوب سامٍ في عهد الاستعمار البائد (والمُتجدّد بصور مختلفة في منطقتنا). لا، لنقل إنّ لبنان يصرّ على إبقاء الاستعمار. ألم تقل مي الشدياق أخيراً إنّ على الشعب اللبناني عدم الاعتراض على احتجاز جورج عبدالله امتناناً منّا لاستعمار فرنسا لنا؟ يا مُستعمِرنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ الوطن.ولكن للتمهيد لغزوة السفيرة الأميركية في صور، من الضروري الاستشهاد بفقرة أخيرة من تقرير مفصّل كتبه جيفري فيلتمان عام 2007 وتسرّب في «ويكيليكس». يقول فيلتمان: «إنّ ما حققناه على امتداد السنتين الماضيتين ونيّف في لبنان مثير للإعجاب: خروج القوات السورية من لبنان، إغلاق مكاتب الاستخبارات العسكرية السورية، الانتخابات البرلمانية دون سيطرة سورية، تشكيل حكومة «صنعت في لبنان» برئاسة فؤاد السنيورة، زيادة عدد اليونيفيل، نشر الجيش اللبناني في الجنوب، وإنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، الخ». هذا ما صنعته يدا فيلتمان، وهذه ثمار الاستعمار. لكن تقرير إنجازات فيلتمان يحتاج إلى بعض الشروح التي قد تعصى على غير الراسخين في علم الإمبريالية: إذا كانت حكومة السنيورة هي من صنع لبنان فلماذا تزهو بها كإنجاز أميركي يا سيّد فيلتمان؟ إما هي من صنع لبنان وإما هي من صنع أميركا، إلا إذا كان فيلتمان يقصد أنّ ما يُصنع في أميركا يجب أن يحظى بختم الجمهورية اللبنانية لأنّ الرجل الأبيض أدرى بمصالح العبيد (يُستعمل في الإنكليزية تعبير تحقير للعرب بالمزج بين الرمال وصفة التحقير التي لازمت السود في التاريخ الأميركي). وتعداد إنجازات أميركا في تقرير فيلتمان يؤكّد ويجزم بأنّ كل ما أورده، بما فيه نشر الجيش اللبناني في الجنوب وإنشاء المحكمة الدولية وزيادة عدد اليونيفيل، كان لهدف محض إسرائيلي، ولا جدال في ذلك أبداً. إنّ هذه الفقرة من تقرير فيلتمان تلخّص وصف المرحلة التي تلت اغتيال فقيد عائلته، رفيق الحريري، كما أنها تعرّي الدور الحقيقي للحكومة الأميركية في لبنان.
على الصعيد الشكلي، لا تبدو السفيرة الأميركية أنّها بعنجهية السفير فيلتمان في سنوات خدمته _ أو حكمه _ في لبنان. الرجل كان المُسيِّر الوحيد لفريق التبعية في 14 آذار، ولهذا لم يتوقّف وليد جنبلاط عن إرسال صناديق النبيذ الجنبلاطي له. أليس من الرقيّ أن يبعث زعيم جبلي بالخمر المُعتّق للرجل الأبيض؟ لكن السفيرة الأميركية تعلم أنها ليست كغيرها. تهاتف قائد الجيش بعد الاعتداء في عرسال وتبعث بتعليماتها وبتقديرها للموقف في عرسال. وعندما تلتقي مسؤولين في لبنان، لا تمرّ عبر الأقنية الرسمية المعتمدة وفق معاهدة فيينا. لا، هي فوق المعاهدات وفوق المراسم وفوق الاتفاقات. إنها كيان في داخل الدولة اللبنانية تفعل ما يحلو لها لأنها تعلم أنها في بلد تمرّس في احتقار الذات وتمرّس زعماؤه في الارتماء تحت أقدام مبعوث الولايات المتحدة. إن وثائق «ويكيليكس» أظهرت الطاقم السياسي اللبناني _ بضفّتيْه _ على حقيقته: صغار يتطوّعون ويستميتون في خدمة المُستعمِر الجديد. مروان حمادة كان يقدّم أوراقاً رسمية وخرائط للسفارة الأميركية _ بينما كان يصول ويجول في خطب عن السيادة والاستقلال. بلغت الاستماتة عند بعض السياسيّين في لبنان _ وخصوصاً بطرس حرب وإلياس المرّ ومروان حمادة ووليد جنبلاط _ درجة التنافس في التعاطف مع العدوان الإسرائيلي كي يحظوا بمزيد من الرضى الأميركي. وواحد من «المثقّفين» (المعتدلين طبعاً، لأن كلّ من سار على الصراط الأميركي يصبح معتدلاً، حتى لو كان من قاطعي الرؤوس في المملكة الوهّابيّة المُبجّلة) حاول أن ينال إعجاب السفيرة عبر التعبير عن شوقه للقاء ممثّلين عن العدوّ الإسرائيلي (في لبنان ما بعد اغتيال الحريري تحوّل التعاطف مع العدوّ الإسرائيلي إلى حق يقع ضمن حقوق التعبير الديموقراطي، مع أنّ الحريّات الديموقراطية الغربية لا تغطّي التعاطف أو حتى التأييد اللفظي للعدوّ بالتعريف القانوني).
لا، لم تكن تلك الزيارة لتمرّ مرور الكرام. ليس لأنّ مدينة صور مسقط رأس أجدادي. ليس لأني تعلّمت السباحة في مياهها، أو لمست التاريخ في آثارها، أو لأن بيت جدّي التاريخي لا يزال صامداً هناك (مع أنه تعرّض للتدمير من قصف العدوّ الإسرائيلي أكثر من ثلاث مرّات، إلى درجة أنه أصبح آيلاً للانهيار) أمام البحر. لا، ليس لأسباب شخصية بل لأسباب وطنية وسياسية. أما آن للبنان أن يقف وقفة عزّ ولو واحدة ويتيمة، للتاريخ؟ كعبرة لمن لا يعتبر؟ كمثال لجيل جديد شاهد تمرّس مسخ الوطن بالذل أمام براميل النفط وأمام مندوبي الرجل الأبيض. أما آن الأوان كي ينتفض لبنان ولو شكلياً، ولو لتسجيل موقف أمام التاريخ السحيق والمعاصر؟ لعلها تكون فرصة للتمرن على الكرامة التي لم يعهدها مسخ الوطن وساسته.
كيف تمرّ الزيارة مرور الكرام وهي كانت أشبه بالغزوة، كالغزوات الإفرنجية التي تعرّضت لها المدينة. قافلة من سيارات السفيرة الأميركية التي لا تحظى بتفتيش ولا تحظى حتى بتوقيف شكلي على الحواجز. يقف السفير اللبناني في أميركا بالصف في المطارات والموانئ ويخلع حذاءه مثل غيره من المسافرين ويبلغ موظّفاً متدنّي الرتبة في وزارة الخارجية الأميركية بكل تحرّكاته، وينتظر بالصف مثل غيره من موظّفي سفارات أجنبية (أقل من مرتبة سفير) ليحظى باستدعاء من موظّف في قسم الشرق الأوسط في السفارة. إن السفيرة الأميركية في مطار بيروت لا تتعرّض هي وكل من يعمل في السفارة لأيّ إجراء أمني أو تفتيشي ممّا يخضع له سائر اللبنانيّين.
غزت السفيرة الأميركية موقع آثار صور ثم رمت بضعة دولارات من الاعتذار. لمَ لا. إذا كانت الحكومة الأميركية تدفع حفنة دولارات للتعويض عن قتل المدنيّين في أفغانستان، فلماذا لا تدفع السفارة حفنة من القروش للتعويض عن الأضرار التي لحقت بآثار صور. وبلغت الوقاحة بالسفيرة الأميركية أنها «أوضحت» في بيان رسمي أنّ الضرر لحق «سوراً حديثاً» مع أنّ حجارته لم تظهر في الصور حديثة إطلاقاً، وكأنّه يحق للسفيرة أن تخرّب الحجارة والأسوار والجدران إذا لم تكن من العهد الفينيقي. ولم يكذّب أيّ من مسؤولي الحكومة أو من بلدية صور بيان السفيرة الأميركية. لعل طاقم البلدية لا يزال يقف على رصيف المرفأ ينتظر زيارة أخرى من حضرة السفيرة لتبريك المدينة في عملية تحقير وإهانة ثانية. وتضمّن بيان السفيرة الوقح تذكيراً بأنّ زيارتها كانت بهدف التبادل والتعاون الثقافي. التبادل؟ والتعاون؟
لنجرِ مقارنة، مع أنّ المُقارنة صعبة لأنّ أميركا لا تحتوي على آثار قديمة قدم آثار مدينة صور (والموضوع لا يتعلّق بالآثار بحدّ ذاتها، بقدر ما يتعلّق بحفظ الكرامة الوطنية). هناك آثار تمتّ بصلة إلى السكان الأصليّين، لكنها إما دُمّرت على يد الرجل الأبيض، وإمّا تعرّضت للتهميش. في أميركا حرص على المواقع «الأثرية»، بمعنى أن مبنى من العام 1920 يحظى بعناية ولوحة تذكارية ومتحف لصيق. أما آثار مدينة صور فهي موغلة في العمق التاريخي إلى زمن لم يكن الرجل الأبيض فيه قد وصل إلى أميركا، ولم يكن قد اكتشف بعد أن الأرض ليست مسطّحة. ماذا لو أن السفير اللبناني في واشنطن ذهب في قافلة من السيارات إلى مدينة «ماونت فرنون»، التي تحتوي على منزل مؤسّس الجمهورية جورج واشنطن (الذي ترك وراءه أكبر ثروة أراض، بالإضافة إلى ما اقتناه من العبيد)، واقتحم المنزل وأمعن فيه تخريباً بعجلات سياراته؟ كان هذا السفير سيتعرّض للتشهير الإعلامي، وكان عمدة المدينة سيعمد الى طرده من المدينة. قد يقبع هذا السفير _ لو فعل ما فعلته السفيرة الأميركية _ في زنزانة صغيرة في غوانتنامو. لا، لا يجرؤ سفير لبنان في واشنطن على فعل أيّ من هذا. لا يجرؤ على رمي ورقة في الطريق كي لا يتعرّض للتحقير من مندوب من وزارة الخارجية.
هذه القضية لو حصلت في أي دولة تتمتّع بالاحترام القليل للذات لرفعت القضية إلى أعلى المستويات وجُعلت أزمة دبلوماسية. لا يجرؤ أيّ من مسؤولي الدولة في لبنان على الاعتراض. للسفيرة الأميركية السمع والطاعة. الصحافة الكينية اعترضت أخيراً على تدخّل الحكومة الأميركية في الانتخابات الرئاسيّة هناك. أما في لبنان، فالسفيرة تزور نقولا فتّوش وتحاول أن تحثّه على البقاء في 14 آذار، ولها آراء في أصغر انتخابات بلدية. لكن الملامة ليست عليها إذا كان الضحية يستجدي الإذلال والمهانة من ممثلات الرجل الأبيض وممثليه. ستعيد السفيرة الأميركية الكرّة، ولن يعترض معترض أو معترضة. هي مُكرّمة ومُعزّزة ولو طلبت أشجار الأرز لصنع كراسي حمّام، أو لو طلبت حجارة أعمدة بعلبك لتبليط حمّامات السفارة الأميركية.
ولكن في غياب المحاسبة في لبنان، يمكن الركون إلى المحاسبة الشعبية، على ندرتها. وجب أن ندعو إلى استقالة رئيس بلدية صور، حسن دبوق. الرجل رافق السفيرة وقابلها بالترحاب وعرض خدماته كدليل سياحي، وهذا شأنه. لكنه بدا فاقد المسؤولية عندما قال للصحافة عرضاً إن حرّاس السفيرة أوقفوه وسألوه عن اسمه وصفته قبل السماح له بالمرور، في مدينة يترأس هو بلديّتها. لقد رأس جدّي لأبي، محمد أسعد أبو خليل، بلدية صور في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضي، ولو فعل ما فعله حسن دبوق لكنت طالبته هو بالاستقالة. كيف يقبل حسن دبوق أن يهان على أيدي حراس سفيرة أجنبية في مدينته هو؟ وكيف لم يعترض؟ وكيف لم يعقد مؤتمراً صحافياً للاحتجاج باسمي وباسم كل من ينتمي إلى هذه المدينة العريقة التي حفرت موقعاً قديماً في التاريخ من خلال صمودها بوجه الإسكندر: كان ذلك «يوم غضبت صور»، كما يقول عنوان كتاب نضال أبو حبيب. ولكن، هل هناك من سيطالب بتسجيل موقف نيابةً عن عزّة صور وكرامة أهلها، الأحياء منهم والأموات؟ إن رئيس البلدية هو المؤتمن على وجه صور وتاريخها وعلى عدم المسّ بتراث صور الذي لا يُقدّر بثمن عطايا السفارة الأميركية.
مرّت قافلة السفيرة على آثار صور. ولو أرادت، لتطوّع بعض ساسة لبنان كي تمرّ قافلتها فوق أقفاصهم الصدرية. هو التكريم على الطريقة اللبنانية التقليدية. لكن هذا مسخ وطن رأى فيه بعضه الغزو الإسرائيلي عام 1982 مفيداً للبنان، وواحد من أصحاب هذا الرأي (سعيد عقل) حظي بطابع تذكاري خاص وأجاد في مديحه مَن يُسمّى عندنا «وزير الثقافة». هذا هو لبنان، على حقيقته، فلتمعن قافلة سيّارات السفيرة الأميركية في لبنان في اقتحام كل مواقعه الأثرية وتخريبها.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)