■ الجيوسياسة حاضرة في أغلبية دراساتك، هل يمكنك تحديدها لنا؟الجيوسياسة كلمة مركبة تعني مقاربة لأوضاع نزاعية الطابع في غالب الأحيان، لها علاقة بالموقع الجغرافي لدولة ما وبجوهر كيانها السياسي، فنجمع هنا بين مقاربة جغرافية نزاعية وبين مقاربة سياسية.

■ ماذا يمكن أن تضيف هذه المقاربة إلى فهم العالم العربي وإشكالياته؟
أنا رأيت أنّ مصير المجتمعات العربية هو في نهاية الأمر مرتبط بالوضع الجغرافي للمنطقة العربية، بالإضافة إلى كل من إيران وتركيا، إذا اعتمدنا مفهوم الشرق الأوسط. فللمنطقة ثلاث ميزات تستجلب التدخل الخارجي. فهي منبع الديانات التوحيدية الثلاث التي انتشرت عالمياً، وهي موقع جغرافي استراتيجي. وأخيراً هناك وجود النفط الذي جلب أطماع الدول الاستعمارية الكبرى والغنية. هذه الميزات الثلاث لا تزال موجودة، وتضاف إليها مشكلة أخرى عند العرب: فهم على خلاف الأتراك والإيرانيين، بعد أفول الخلافة العباسية، خرجوا من التاريخ السياسي للعالم، وأصبح الفرس والأتراك هم أسياد المنطقة. فعندما انهارت السلطنة العثمانية، وجدت المجتمعات العربية نفسها يتيمة، هي التي تعودت العيش في ظل الخلافة الإسلامية. وكانت تنقص هذه المجتمعات أيّة خبرة لإدارة نفسها بنفسها. هذا بالإضافة إلى تمزّق المجتمعات العربية بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، وزرع الكيان الصهيوني في وسط المنطقة العربية فصلاً بين المشرق والمغرب العربي. وبعد المرحلة الناصرية التي جمعت العرب في مرحلة ما، تشتت العرب وتشرذموا، وأصبحت كل دولة عربية تتحالف مع جهة خارجية بدلاً من أن تتحالف الأنظمة العربية في ما بينها. لذلك سميت المنطقة العربية في شكل خاص منطقة فراغ القوة الذي جذب حينها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، برزت إيران كقوة إقليمية مهمة ومعادية للولايات المتحدة، فاستمر الانقسام بين الأنظمة العربية. والآن نشهد صعود القوى التركية، ومن غير الواضح إن كان هذا الصعود بالاتفاق مع الولايات المتحدة لتتصرف تركيا كوكيل للمصالح الأميركية، أو إذا كانت هي حركة ذاتية للمجتمع التركي.

■ هل من رابط ما للفلسفة أو للمنهجية الفلسفية بالجيوسياسة؟
الرابط مباشر وأساسي، إنما لسوء الحظ، معظم الاختصاصيين بأمور السياسة الدولية والعلاقات الدولية قليلاً ما يعطون لعامل الإدراك الفلسفي للعالم، في صياغة سياسات الدول الكبرى، الأهمية التي يستحقها. ففي معظم الأحيان، تأتي عمليات الاستيطان والاستعمار لتختبئ وراء أهداف نبيلة فلسفية الطابع. فعندما غزا الأوروبيون العالم كان باسم تنوير الشعوب دينياً لكي تتعرف إلى المسيحية. وفي القرن التاسع عشر، كان الغزو باسم الحضارة ليساعدوا شعوباً متأخرة حضارياً. وساهم أيضاً الفكر الفلسفي الماركسي في تأييد هذا النوع من الحجج الفلسفية الطابع، لأنّ كارل ماركس كان يرى ضرورة أن تنفتح الدول «المتخلفة» للرأسمالية الحديثة، لكي تتسرع عملية التحوّل من النظام الرأسمالي البورجوازي إلى نظام اشتراكي بروليتاري. لدينا منبعان فلسفيان: فلسفة هيغل وفلسفة كارل ماركس. فقد تشابكا ليبررا كل الحملات الاستعمارية، ومن ثمّ لدينا في الفترة الأخيرة، المحافظون الجدد الأميركيون، مثل ريغان وبوش، الذي باسم الديموقراطية، غزا العراق. يجب تفكيك الحجج الفلسفية التي يحملها أي غاز أو أية دولة تقوم بشن الحروب، فذلك يتطلب باستمرار نوعاً من الشرعية الفلسفية أو الدينية.

■ ما هي المكوّنات الأساسية لفكرك؟
أنا أردت أن أعالج شيئين متكاملين. أولاً شعرت منذ دراستي في باريس بالادعاء الأوروبي في امتلاكهم الحكمة والفلسفة والانسانوية، على خلاف الشعوب الأخرى. فصدمت بنوع من النرجسية عند الدول الأوروبية، وهذا مسار طويل أدى في نهاية الأمر إلى وضعي كتاب «تاريخ أوروبا وأسطورة الغرب». ثانياً، كلما تعمقت بالثقافة العربية المعاصرة تبيّن لي مدى ارتباطها بشكل تابع إلى الفكر الغربي، وعدم اطلاعنا على الفكر الصيني والفكر الهندي وفكر الحضارات والمدنيات الأخرى. نحن أصبحنا في نوع من اللقاء وجهاً لوجه مع الغرب الأوروبي والأميركي. لقاء يضعنا في نوع من السجن، غوانتنامو فكري، لأنّ فكرة الاستقلال الفلسفي ضعيفة للغاية عندنا، وقد دعا إليها صديقنا ناصيف نصار. فشعرت بأنّ حتى الحركات الاسلامية الأكثر تشدداً هي في نهاية الأمر نتاج علاقة مرضية مع الفلسفة الغربية والنظرة الغربية إلى العالم. وبالفعل، ماذا نرى عند النخبة العربية المثقفة؟ إما انبطاحاً شاملاً أمام النظام الإدراكي الغربي للعالم، أو نوعاً من الرفض الهستيري له. وذلك في طبيعة الحال تبعية للمنظومة الفكرية الغربية. فأصبحت أدعو إلى الخروج من هذه التبعية، لتأسيس نظام إدراكي معرفي عربي، أي نظام يأخذ بالحساب حقيقة تاريخنا، ويبني هذه المنظومة المعرفية على ذلك. مثلاً، أهم سؤال لم يبحث به أحد هو: لماذا خرج العرب من الحكم؟ما دمنا لا توجد عندنا إجابة عن هذا السؤال، لا يمكننا بناء مستقبل أفضل. كيف انتهت الفتوحات العربية التي أسست للحضارة الإسلامية إلى العرب بالخروج من التاريخ. بالإضافة إلى ذلك طبعاً هناك التخبط بمسائل الهوية عند العرب، منذ زعزعة كيان السلطنة العثمانية في القرن الماضي، والتخبط بشكل خاص بين التمسك برابط ديني أو الدخول إلى التاريخ الوضعي. وإلى الآن المعركة دائرة بشكل كبير في الثورات العربية الأخيرة التي تتلخص في التنافس بين مفهوم الدولة المدنية العلمانية، ومفهوم دولة مرجعيتها أساساً الدين.

■ بما أنّنا تطرقنا إلى ذلك، كيف تقرأ إشكالية العلمانية والطائفية في لبنان؟
أعتقد أنّ لبنان كان له دور طليعي في القرن التاسع عشر، خاصة بعد المجازر الطائفية التي أيقظت العقل اللبناني. لكن نظام المتصرفية أسس لأول مرة في تاريخ لبنان لطائفية سياسية، ثم كرس عهد الانتداب في القانون العام وجود الطوائف كهيئة وسيطة بين المواطن وبين الدولة. وبعدها سعت وثيقة الوفاق الوطني إلى تهذيب الطائفية، وإعادة تكريسها بنحو أكثر توازناً بين الطوائف. نحن لا نزال أسرى الثقافة الطائفية، وهي ثقافة كارثية لأنّها تجعل من الإنسان العربي ينظر إلى أمور الدنيا من خلال المنظار الديني والمذهبي والطائفي، فلا يترقى إلى النظرة الوضعية. عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في 1975، كان المحور الأساسي القضية الفلسطينية، وما كان يجب أن تتحول إلى صدام بين المسلمين والمسيحيين. فلو طرحت بالشكل الصحيح، لما استدعت استنفار الشعور المذهبي، لأنّ القضية في لبنان كانت حول الوجود الفلسطيني المسلح. ويؤسفني أيضاً أنّ الجهات التي أعلنت الحرب على المنظمات الفلسطينية المسلحة هي اليوم مستعدة للتوطين، ولكل المقاربة الغربية السعودية، أو «العربية المعتدلة» للقضية الفلسطينية. وأنا اقول دائماً إنّنا في كثير من الأحيان نخسر ما نكسبه في المقاومات عندما تصبح المقاومة لها طابع ديني. فالقضية الفلسطينية ليست قضية دين، بل قضية احتلال شعب واستيطان. لو كان البوذيون أتوا واستوطنوا فلسطين، لجوبهوا بمقاومة شرسة. حتى لو أتى مسلمون أتراك أو إيرانيون واحتلوا فلسطين، أعتقد أنّ الفلسطينيين كانوا انتفضوا. جعل قضية فلسطين مجرد صراع أديان يقلل في نهاية الأمر من الإنجازات التي حققناها أخيراً في المقاومة.

■ ما هي آفاق الربيع العربي برأيك؟
لا شك في أنّ أحداثاً تاريخية حصلت، فيها ذاتية كبيرة. لم تثر الشعوب العربية نتيجة مؤامرة خارجية كما يحلو للبعض اعتقاده. لكن بطبيعة الحال، بسرعة كبيرة جداً دخلت الدول الغربية الكبرى في حمّى استعمارية جديدة، ولازمتها القوى المحافظة المعادية للحداثة السياسية ولحرية الإنسان التي كانت تسمى بالرجعية العربية في الماضي. كذلك دخل العنصر التركي على الخط وابرز نموذجاً إسلامياً كوجهة سير للثورات العربية. هذا طبعاً سيغرّب الثورات العربية ونرى نتائج مؤلمة سواء في ليبيا أو في سوريا أو في اليمن. ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستذهب الثورات في مصر وفي تونس. وعلى كل حال، إنّ الثورات تأتي في حلقات، وقد انفتحت حلقة ثورية في العالم العربي. لكن من الصعب التنبؤ إلى أين ستذهب. أنا دائماً أقول إنّ الثورة الفرنسية انفجرت في 1789 وأعطت نتائجها النهائية فقط بعد قرن، أي عند تنظيم الجمهورية الثالثة، وإبعاد النظام الملكي عن فرنسا، وتثبيت المبادئ الجمهورية. فالحلقة الثورية تأخذ وقتاً طويلاً للغاية، وهي ليست ضربة سحرية تغيّر الأوضاع. وأنا أتصور أنّنا فقط في بداية مسار. وبطبيعة الحال، انزلاقنا إلى مناقشة قضايا دينية ومذهبية باستمرار هو نوع من الاشهار للثورة: فالنظر إلى ما حصل في البحرين وسوريا واليمن من منظار مذهبي هو خطأ. التحليل في غياب المنظومة الفكرية المستقلة والفلسفية هو مرض، فنحن نحلل حسب أدوات وأساليب الدعاية الغربية والأكاديميات الغربية والإعلام الغربي، ونحلل كل شيء بالمنظور المذهبي والطائفي. الولايات المتحدة بدأت قبل بضعة أشهر من غزو العراق بنشر وجهة نظر حول بلاد بين النهرين تقضي بأنّ المسألة تتعلق بأقلية سنية اضهدت أغلبية شيعية. طبعاً هذا النوع من التبسيط الذي نراه اليوم في تحديد الوضع في سوريا أيضاً هو مؤسف للغاية، وهو يؤدي إلى الهلاك وإلى الكارثة. يجب أن نخرج من التحليل المبني فقط على النظر إلى الشعوب العربية كشعوب دينية ومذهبية الطابع، لنرى حقيقة المعطيات الوضعية على الأرض: قضايا الفساد، والعدالة الاجتماعية، والاقتصاد الريعي الذي يؤبد أنظمة استبدادية. فكل مسار الديموقراطية يدل على أنّ الديموقراطية تقوم على تدمير الاقتصاد الريعي. ولسوء الحظ، إنّ الاقتصاد العربي إلى حد كبير اقتصاد ريعي.



تعريف

جورج قرم (1940) خبير اقتصادي ومالي لبناني، اختصاصي في شؤون الشرق الأوسط ودول حوض البحر الأبيض المتوسط. درس القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية في جامعة باريس، وتخرج من معهد العلوم السياسية في باريس. شغل منصب وزير المال في حكومة سليم الحص من 1998 إلى 2000. هو أستاذ محاضر في الجامعة اليسوعية، وقد علّم سابقاً في الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية. له دراسات عديدة، وقد وضع عدداً كبيراً من الكتب والمقالات المتخصصة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، منها: «شرق وغرب: الشرخ الأسطوري»؛ و«لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع»؛ و«المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» (نال عنه جائزة «فينيكس»)؛ و«تاريخ الشرق الأوسط ــ من الأزمنة القديمة إلى اليوم».


تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ | 25 كانون الثاني 2012