■ ما هي الفلسفة؟ـــــ تعريف الفلسفة هو إحدى مشكلات الفلسفة، فهي تبحث عن تعريفها منذ وجودها، والمسألة مطروحة على فلاسفة اليوم كما كانت مطروحة على جملة الفلاسفة عبر العصور. فمفهوم الفلسفة يتغيّر ويتخذ اتجاهات بحسب تطور الفكر الفلسفي، وبحسب تفاعل الفلسفة مع قطاعات التفكير الأخرى وأنماطها، في الدين، في العلم، في الايديولوجيات وغيرها. لكن في نظري يمكننا أن نعتمد تعريفاً عاماً يصلح لكي نرتكز عليه في عصرنا اليوم وفي عالمنا العربي: الفلسفة هي تفكير عقلي نظامي في مبادئ المعرفة والوجود والعمل. ذلك التعريف العام يميّز التفكير الفلسفي عن التفكير الديني أو العلمي أو الايديولوجي أو الاسطوري أو الطوباوي أو الأدبي...

ويكفي لكي نستنبط منه مشاريع للبحث وقضايا تهمنا في العالم العربي، وفي كل العالم، لأنّ الفلسفة كونيّة الطابع في الأساس، ولأنّها عقلانية ونظاميّة وتعنى بالإنسان وليس بجماعة معيّنة أو بمنطقة معيّنة من العالم. ذلك هو التعريف الذي أعتمده، وقد كتبت كثيراً عن الموضوع بخاصة عندما اصطدمت في بدايات مسيرتي الفلسفية بالايديولوجية، فرأيت من الواجب التمييز بين الفلسفة والايديولوجية.

■ وما هي الايديولوجية؟
ـــــ هي منظومة أفكار اجتماعية مرتبطة أصلاً بوجود جماعة تاريخية معينة، موضوعة للدفاع عن هويّة تلك الجماعة ومصالحها، ومن أجل تحديد فاعليّتها في مرحلة تاريخية معيّنة. الايديولوجية هي فكر جماعة، ينبثق من جماعة معيّنة، من أجل وجود ومصلحة تلك الجماعة. أستعمل كلمة جماعة بمعناها الواسع جداً، فيمكن أن تكون طبقة اجتماعية، أو أمّة، أو طائفة دينية، أو شريحة إثنيّة. كل ما هو دون النوع البشري والبشرية عموماً يقع في تعريفي تحت مصطلح «جماعة». لكن لا بد أنّ هناك تقاطعاً قويّاً بين الفلسفة والايديولوجية، وذلك ليس مصدر إرباك، بل وجه من وجوه التنوّع والتداخل في نشاط الفكر الإنساني.

■ ولكن على أي صعيد يتلاقيان؟
ـــــ يتلاقيان على سبيل الخصوص في مسألة النظر إلى السياسة، أو الإنسان، أو القيم، ولا يتطابقان. مثلاً: كل إيديولوجية تتضمن بطريقة أو بأخرى، في تصورها للجماعة التي تدافع عنها، مفهوماً معيّناً للإنسان، لأنّ تلك الجماعة وجه من وجوه الوجود الإنساني. لكنّ ذلك الموضوع ــ الإنسان ــ لا يكون في الايديولوجية موضوع النظر الأساسي، إنما يكون موضوع نظر ثانوي أو ضمني يبنى عليه، لأنّ المقصد الرئيسي في التفكير الايديولوجي هو وجود الجماعة التي يجري الدفاع عنها. ذلك هو الفرق الكبير الأوّل، لأنّ الفكر الفلسفي يعنى بالإنسان كإنسان أيّاً كان اللون والعرق والزمان والانتماء الاجتماعي.

■ ماذا عن الايديولوجيات في لبنان؟
ـــــ لبنان يعج بالإيديولوجيات. الإيديولوجيات الطائفية الموجودة منذ عدّة قرون، وقد اتخذت طابعاً سياسياً محدداً مع نشوء دولة لبنان الكبير، وهي مرّت بمراحل عدّة، وخاصّة عبر الاستقلال والحرب المأساويّة والطائف. نحن اليوم نعيش في مرحلة قويت فيها الإيديولوجيات الطائفية إلى حد أنّنا أصبحنا لا نفكّر بالمجال العام إلا طائفياً، إذ إنّنا كنّا قبل ذلك، قبل الحرب، نفكّر تفكيراً مزدوجاً: تفكيراً قائماً من جهة على الطوائف، وتفكيراً قائماً على المجال الوطني، لأنّ الوطن اللبناني الذي تمثّله الدولة اللبنانية كان يفتح آفاقاً جديدة للاندماج وللترقي وللتطور الاجتماعي على أساس الديموقراطية الوطنية. تلك الآفاق منحصرة جداً اليوم، وهي موجودة فقط لدى بعض الأحزاب أو التيارات أو النقابات اليساريّة.

■ ما هو دور الفلسفة الآن في العالم العربي؟
ـــــ الفلسفة حاجة ثقافية أساسية بالنسبة الى العالم العربي، بالرغم من كلّ العقبات التي تواجهها وبالرغم من كلّ التطور المتناقض الذي يطرأ على المجتمعات العربية تحت تأثير المجتمعات الغربية. نحن نحتاج إلى الفلسفة لكي نعيد النظر في أوضاعنا، في تقاليدنا، في قيمنا، في حقوقنا، في مصائبنا، في نكباتنا، في تخلّفنا... الفلسفة هي أداة لبناء العالم العربي من جديد بحسب مفاهيم جديدة عن الإنسان، عن القيم، عن السياسة، عن الاجتماع، عن الدين، عن علاقة الإنسان بالطبيعة... تلك موضوعات لا بد للفكر العربي من أن يتناولها من منطلق فلسفي بحت.

■ ما هي أفكارك الفلسفية الأساسية؟
ـــــ لدي ثلاثة مؤلفات تعبّر عن فلسفتي. «طريق الاستقلال الفلسفي» هو كتاب وضعته بعد تجاربي الأولى في البحث والتأليف في سبعينيات القرن الماضي، وهو كتاب في المنهج، أحدّد فيه المفاهيم والطرق التي ينبغي للفيلسوف العربي أن يعتمدها وأن يسلكها لكي يخرج من تاريخ الفلسفة ويصبح فيلسوفاً بحسب مقتضيات الخصوصيّة الثقافيّة العربية، علماً أنّ الفلسفة هي كونّية الطابع، ولكنّها تعمل في إطار خصوصيات ثقافية، فهي تتقدّم على مستوى الجدليّة القائمة بين الكونيّة والخصوصيّة: خصوصيّة الوضع، وكونيّة الموضوع. كثير من الناس الذين يعرفونني يقرنون اسمي بذلك الكتاب، لأنّه بالواقع، ومن دون أيّ تبجّح، علامة فارقة في الفلسفة والثقافة العربية المعاصرة، وقد خصّته الموسوعة الفرنسية الفلسفية الكونية الصادرة عن PUF بعمودين في بداية التسعينيات. بعد ذلك، اشتغلت على بناء المنهج، فوضعت أعمالاً فلسفية متنوعة ومتكاملة صدرت تباعاً بعد ذلك التاريخ، أهمّها «منطق السلطة» الذي أطرح فيه نظرية متكاملة لموضوع السلطة الذي هو موضوع رئيسي في مؤلّفاتي. وأعتقد أنّه، كما قال أحد الباحثين من ذوي الاطلاع الواسع، بحث غير مسبوق. ثم كتبت كتاباً كاملاً عن الحريّة التي هي بنظري مفهوم فلسفي متلازم مع مفهوم السلطة. كتابي «باب الحريّة» لا يدخل في تفاصيل الحريّات الميدانيّة، بل هو قائم على الدفاع عن مبدأ الحريّة وأوّليّة الحريّة في الوجود الإنساني. وبعد ذلك، ساقتني أبحاثي إلى التعمّق في موضوع الوجود التاريخي الذي خصصت له كتاباً كاملاً تحت عنوان «الذات والحضور».

■ ما رأيك بالربيع العربي وكيف تقرأه؟
ــ تلك حركات هامة جداً في رأيي، تمثّل احتجاجات قويّة على الأوضاع العربية وبخاصّة على أنظمة الاستبداد والفساد التي سادت في معظم الدول العربية، وهي حركات احتجاجية تأخذ مسالك ثورية، لكنّنا لا نعرف بالضبط ما إذا كانت ستحقق ذاتها كثورات. المسألة مختلفة من بلد إلى آخر. ما كنّا نقوله منذ أشهر لم يعد صالحاً اليوم، أعني أنّ الأمل الذي أُثير من ثورتَي مصر وتونس أصبح النظر إليه اليوم مختلفاً، لأنّ المشهد العربي اليوم يضعنا أمام مقاومات وتناقضات وتداخلات معقّدة، يضعنا أمام أوضاع عاصفة يجد الحراك الثوري فيها صعوبة للتقدم كما في اليمن، وفي البحرين. المشهد السوري أعقد من كلّ المشاهد التي عرفناها، ولا نعرف إلى أين يسير. هناك إصلاح مطلوب وموعود، ولكنّنا لا نعرف تحديداً إن كان سينجح النظام القائم بالسلوك فعلياً نحو ذاك الإصلاح. إذاً نحن اليوم أمام تحرّك عربي كبير، ومخاض شاركت فيه قوىً كبيرة وخاصة قوى الشباب، لكنّنا لا نجد وضوحاً في البرامج والوسائل والمسالك، وكأنّنا في حالة من التجربة والخطأ، وهذا لا ينبئ بأنّ الربيع العربي سيسير نحو مآلات مضمونة أو مدروسة بما فيه الكفاية. على أي حال، ما جرى تحرّك مهم جداً أخرج العالم العربي من حالة الجمود والركود التي كان فيها لعقود طويلة، وأحيا الأمل بأنّ الشعوب العربية والأجيال الجديدة في العالم العربي يمكنها أن تسعى وأن تعمل بجد في سبيل مستقبل أفضل تحت راية الديموقراطية. أنا من المنظرين المعروفين في العالم العربي لما يسمى بالنهضة العربية الثانية. كتبت في الموضوع أكثر من مرّة، وأرى أنّ ما يجري الآن في العالم العربي هو محطّة للخروج من الهزيمة التي وقعت على العالم العربي منذ حرب حزيران 1967، وذلك في اتجاه النهضة العربية الثانية.

■ ماذا عن العلمانية والطائفية في لبنان؟
ـــــ كتبت عن العلمانية منذ 40 سنة. فكتابي «نحو مجتمع جديد» صدر في أواخر الستينيات وهو الآن في طبعته الخامسة، وهو من الكتب الكلاسيكية للفكر السياسي اللبناني. وضعت في ذلك الكتاب نقداً للنظام الطائفي اللبناني. ودافعت فيه عن العلمانية بديلاً للنظام الطائفي في لبنان. وكتبت بعد ذلك في الموضوع، وآخر ما صدر لي من محاضرات كان تحت عنوان: «العلمانية انتصاراً للعدل»، وأعدت نشر ذلك النص في آخر كتاب صدر لي منذ عدّة أشهر: «الإشارات والمسالك». موضوع العلمانية بالنسبة إلي موضوع لا مهرب منه، فإنّه يمثّل مستقبل المجتمع اللبناني ولو كان ذلك غير واضح الآن وغير قريب. لبنان يتخبّط في ايديولوجيّاته وتناقضاته الطائفية ومهما فعلنا لكي نحافظ على النظام الطوائفي في لبنان، فإنّنا سنجد أنفسنا أمام مآزق لا مخرج منها إلا بالاتجاه نحو العلمانية. أنا أعرف تماماً أنّ تلك مسألة كبيرة وبعيدة المنال ولكنّها ليست بالبعد الذي يتصوّره خصومها وأعداؤها والذين يتمسّكون بالنظام الطائفي ولا يريدون أن يبدّلوا فيه شيئاً. لكنّ العلمانية بحاجة إلى توضيح كثير لأنّ المفهوم ليس واضحاً بما فيه الكفاية وليس له تصوّر واحد معروف ومقبول لدى الجميع، ولذلك تسهل مهاجمتها وتأويلها والتملّص من موجباتها بحسب موقع الناظر ومفهومه لها. فلذلك ستبقى حتى على ذلك الصعيد موضوعاً للبحث وإعادة النظر والبناء الدائم.




تعريف

ولد نصّار في بلدة نابيه، في المتن الشمالي، في 1940. بعدما نال شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوربون في 1967، علّم في الجامعة اللبنانيّة من 1967 حتى 2005. عيّن عميداً لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة وعميداً لمعهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية. شارك في تأسيس وإدارة الجمعيّة الفلسفية العربيّة (مقرّها عمّان) والمؤسسة العربية للتحديث الفكري (مقرّها جنيف). نال جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافيّة للدراسات الإنسانيّة في 1999، كما نال الرتبة الدولية للاستحقاق (IOM) من المركز البيوغرافي الدولي في كمبريدج، بريطانيا، في 2003. له مؤلّفات عديدة منها: طريق الاستقلال الفلسفي (1986)، الايديولوجية على المحك (1994)، ومنطق السلطة (2001). أصدر الاتحاد العربي للجمعيّات الفلسفية بالتعاون مع مجلّة «أوراق فلسفية» كتاباً جماعيّاً تحت عنوان «قراءات نقديّة في فكر ناصيف نصّار» (القاهرة، 2004).