يميّز جوزف أبو رزق بيت الإيمان والتعصب. فهذا الأخير ترافق صعوده مع انهيار الإيمان الديني الذي اضمحل مع حب الكسب المادي. اضمحلال أدى بمعظم اللبنانيّين إلى العيش بمعزل عن كل معتقد ديني وعن أية إيديولوجية وطنية قادرة على تأمين تماسكهم
كيف تفهم الفلسفة؟
الفلسفة هي محاولة لملء فراغ وجودي متأتّ من عزلة الفرد عن المحيط الإنساني، وتقنّعه على الآخرين بتوصية من وعيه. أنا أعتقد أنّ الإنسان مركّب حيّ، استطاع أن ينتشل نفسه من العدم للاستمرار في الوجود، عبر «الوعي» (conscience) ومن خلال شبكة العلاقات التي يبنيها مع الآخرين. وولادة الأديان مرتبطة بتلك العلاقات الإنسانيّة، لأنّ الديانة تتيح للكائنات البشرية أن تتلاقى في معتقد واحد، ما كان كافياً إلى حدّ ما، لإيقاظ شعور استقرار الكائنات البشريّة في الوجود. بمعنى آخر، كان على الوعي والدين أن يؤمّنا للإنسان الطمأنينة. لكنّ «الوعي» أو «العقل» الذي يضع ضوابط شخصيّة للإنسان، شوّه الدين عندما حوّله من مادّة شعوريّة حياتيّة تجمع البشر إلى مادّة اصطلاحيّة، طائفية أو قوميّة تفرّق.

إذاً، أصبحنا أمام واقعين يمكنهما التناقض؟
طبعاً. أنا عندي طبيعتين متناقضتين: الأولى هي الطبيعة الجسدية، وأسميها الحياة التي يجب أن تدخل في صراع مع باقي الأجساد الحية لكي تستمر. والثانية هي الطبيعة الإنسانية، أي انتماؤنا إلى العالم الإنساني، ذاك الذي يحصل عبر الشعور العاطفي. مصطلح «عَطَفَ» في العربية له معنى أقوى من الكلمة الفرنسية «sentiment»، وهو يفترض أن أقرّبك مني وأن أقترب منك، بمعنى أنّني أريدك أن توجد فيّ وأن أوجد فيك، لأشعر أنّني كائن. الانتماء إلى العالم الإنساني هو كلّ ما يميّز الإنسان، فيعزله عن العالم الخارجي كالطبيعة الحيوانية، ويلصقه بالآخرين. أمّا انعزال الفرد عن العالم الإنساني فهو ما يولد الفراغ الوجودي التي تحاول الفلسفة ملأه عبر تفكّراتها وسبلها الفكرية. حقيقة كلّ إنسان أنّه أمام طبيعتين، واحدة تعيده إلى حيوانيّته، وتأخذ أسمى شيء عنده وهو إنسانيته، والأخرى لا يمكنه أن يلغيها تماماً، فيملأها بالحيلة عبر خلق علاقات مع الآخرين.

هل يعني ذلك أنّ نهائيّة الفلسفة عاطفية، هدفها ربط الناس بعضهم ببعض لكي لا يقعوا في العدم؟
الفلسفة كغيرها من النشاطات الإنسانية تساعد المرء على ملء فراغه الوجودي عبر العلاقات التي تحدثها. فكل منا يبحث عن ملء هذا الفراغ بطريقة معيّنة، وخاصة عندما لا يملأ الواحد فراغ الآخر، فعندها تخلق الفردوس، والله، والملائكة، إلخ. وهذا الحل غرائزي لا مفر منه باعتقادي. حاول الفلاسفة ملء فراغ الإنسان الوجودي من خلال تفكراتهم، وذلك يحدث عندما يحصلون على عاطفة الآخرين الذين يقرأونهم ويسمعونهم ويناقشون أفكارهم. فبذلك يطمئن الفلاسفة إلى بقاء أسمائهم وذكرها في التاريخ بعد رحيلهم عن هذه الدنيا. ذلك كلّ ما يمكن للفلسفة أن تقدّمه للفيلسوف، وهي كما الشعر صرخة موجهة إلى الآخر لكي يأتي إلينا. فعندما أطلب منهم أن يكفوا عن التفكير بالأمور العادية، وأن يلتفتوا إلى المسائل الفلسفية المتعالية، أنا أدعوهم لأن يفكروا معي وبحكم ذلك أن يلتفتوا إليّ. هذا يجعلني أتصور أنّ الناس يقبلون إليّ وأنا إليهم، ما يسمح لي بملء فراغي الوجودي. برأيي هذه هي الفلسفة الوحيدة والحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة خارجها، وهي تنطبق على كل الميادين. فالفنان، لماذا يغوص في الفن؟ والراقص، لماذا يرقص؟ كلّهم يصرفون طاقاتهم للحصول على عطف الآخرين وملء فراغهم الوجودي، حتى لو لم يدركوا ذلك.

انطلاقاً من كل ذلك، كيف يمكنني فهم الوجود؟
أفهم الوجود من خلال الفراغ، لأنّ التكلم عن فراغ يفترض أن أقول ما هو الوجود. الوجود هو العلاقة البشرية، وفهمها يمر بفهم الإنسان الذي لا يمكنني أن أقبل إليه إلا من الناحية الأخلاقية، أي من خلال التصرفات. فالوجود بالنهاية هو علاقة مع الآخر، وإن لم يدرك الإنسان نفسه كمحبوب، يشعر أنّه في العدم، أنّه لا شيء. أنظر إلى الأنظمة السياسية، فهم يقترحون مثلاً الديموقراطية أو الاشتراكية، ولكن في كلتا الحالتين لا يمكن لأحوال السياسة والمجتمع أن تستقيم إلا عندما يشعر كل مواطن بأنّه يعمل للكل وأنّ الكل يعمل له. وهذه العلاقات هي في أساس وجود الإنسان وملء فراغه. ولكن تبقى فيها مشكلة، إذ إنّ على المرء أحياناً كثيرة أن يضع قناعاً يخوّله عقد العلاقة الإنسانية، ما يجعلها بحالة غياب بسبب التقنع. ونتيجة لذلك بإمكان انتمائي إلى الآخرين أن يصبح هو أيضاً مصدر فراغ، لأنّني لم أعد ذاتي بل مقنعاً. وللوعي أو العقل دور أساسي في وضع هذا القناع. فهو المعرفة وهو الذي يعطيني الحلول حول تصرفاتي مع الآخرين وعلاقاتي معهم التي هي في أساس وجودي، ويدفعني بذلك إلى اتباع الآليات المختلفة لكسب عطف الناس عبر المظهر الخارجي والكلام اللطيف مثلاً. ولكن ذلك ليس بالضرورة نتيجة كلام أو نوايا صادقة. ما يعني أنّنا ندعي في هذه الحالة صدق علاقتنا مع الآخرين. أعتقد أنّ «الوعي» ذهب اليوم في اتجاه الجسد والتكنولوجيا والعلم لأنّه لم يقدر أن يؤمّن للبشر ملء الفراغ الذين يعيشون فيه. وبذلك أصبح الوجود هو الطريحة والوعي النقيضة.

عودة إلى ما قلته عن تحويل الدين من مادة شعورية إلى مادة اصطلاحية: هل يمكننا أن نتكلّم هنا عن تحوّل الإيمان الديني الذي كتبت عنه أنّه يتيح «للكائنات البشرية أن تتلاقى في معتقد واحد ... ما كان كافياً إلى حدّ ما، لإيقاظ شعور استقرار الكائنات البشريّة في الوجود»، إذاً تحوّل هذا الإيمان إلى عصبيات طائفية كالتي نعرفها في لبنان؟
أنا أميّز بين الإيمان الديني والتعصّب الطائفي الذي هو أحد التجليات الأساسية للحالة النفسية غير المستقرّة التي يمرّ بها الإنسان اللبناني، وقد كان مكتوباً لهذا التعصب أن يفشل في تهدئة الشعور بعدم الاكتفاء الذي كان يقضّ مضجع المتطيّفين، ويعقّد بالتالي مهمة الدولة على صعيد سياستها والإفادة منها في مجال تحسين الوضع العام في البلد. ففي خمسينيّات القرن الماضي، كتبت في الكتاب الذي لمحت إليه في سؤالك (بحثاً عن قيم جديدة، 1956) أنّ «التصلّب الطائفي الذي يرغم الحكام على صيانة ما يسمى حقوق الطوائف الدينية « يشل أجزاء من الإدارة. وأمّا مصدر التعصّب الطائفي فهو انهيار الإيمان الديني الذي اضمحل مع حب الكسب المادي، وذلك أدّى بمعظم اللبنانيّين إلى العيش بمعزل عن كل معتقد ديني أصيل وعن أية إيديولوجية وطنية قادرة على تأمين تماسكهم. ولأجل ذلك، يجتاز اللبنانيون مرحلة اضطراب وجودي بفعل فتور معتقداتهم الدينية التي كانت تؤمّن إلى حد ما تواصلهم، من جهة، وبفعل فشلهم عن الاستعاضة عما فقدوه دينياً بإيديولوجية أو بسلّم قيم من شأنهما أن يسدا هذا الفراغ، من جهة ثانية. والعلة تكمن في الفروقات الطائفية التي تحول دون وضع وتنفيذ خطة عمل متماسكة، من شأنها أن تعبر عن إرادة اللبنانيين الجماعية وتتجاوب مع طموحاتهم المشتركة. وقد اقترحت في الكتاب نفسه حلاً يقضي بالإيمان بقيمة الإنسان، وبرسالته، وبواجبه على تقبّل وضعه ومصيره. فبإمكان تلك المقومات أن تشكّل بديلاً ليس فقط عن تطيّفه فحسب، بل عن إيمانه الديني. وعليه، يعطي كل إنسان انطلاقاً من سياقه أفضل ما عنده للخير العام، ولبناء تواصل سليم مع أفراد مجتمعه الذين يخولونه تخطّي تجربة العدم والولوج إلى وجود أصيل. وفي هذا المناخ الذي يولده ويغذيه الاحترام المتبادل، في هذا الإطار من الإسهام العفوي في تشييد مجتمع الغد، سيتمكن اللبنانيون من بناء قيمهم الجديدة ومن السيطرة على أهوائهم المضللة ومن التخلّص من المشكلات التي تقلق وجودهم الفردي والجماعي. لكن لسوء الحظ، يبقى التشرذم الطائفي مانعاً للبنانيين من القيام بهذه الثورة التي عليها أن تغيّر أوضاعهم.

هل لديك كلمة أخيرة عن الربيع العربي؟
من الصعب الإجابة لأنّنا لا نعرف تماماً إن كان العرب صانعيه، أو إن كانوا مدفوعين من قبل أحد لصنعه. ولكن كيف تريدني أن أقتنع بأنّ هذه الثورة ولدت كلّها في الوقت نفسه من المغرب إلى المشرق؟ كيف يمكن أن تولد حاجة هذه الشعوب في وقت واحد ومفاجئ؟ لا بّد أنّ محركاً خارجياً قام بوظيفة ما، وهنا السؤال: هل يمكن لهذا المحرك أن يوصلني إلى نتائج هي فعلاً لمصلحة الإنسان، لمصلحة الديموقراطية؟ أم هو يعمل لاستغلالنا مجدداً ووضعنا في أحضانه؟ نريد أن نعلم كيف ولدت هذه الحركات، ولماذا لم تتطوّر في بلدان كالسعودية والإمارات والكويت؟ برأيي لأنّ الأميركي يصرّ على السلم في تلك المناطق من أجل مصالحه الاستراتيجية ومنها البترول. ولكن في أماكن مختلفة لم يكن ذلك سهلاً. وباعتقادي أنّه يجب ربط التدخل الخارجي في هذه الثورات بشحن يقوم به الأميركي لخلق معسكرين متعاديين، السنّة والشيعة، ما يتيح له إقامة مظلّة أمان فوق إسرائيل.



تعريف

جوزف أبو رزق من مواليد المتين في 1926. تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة أبيه القروية، وكان اسمها «العلم اللبناني». ومن بعدها درس في مدرسة الحكمة، حيث شغف بمواد الأدب والفلسفة والشعر. تابع بإيعاز من أحد أساتذته الفرنسيين دروسه الفلسفية لمدّة ثلاث سنوات في مدرسة الآداب، ومن بعدها في جامعة الألبا، حيث حصل على شهادته في بدايات الخمسينيات. لم يشأ كتابة أطروحة دكتوراه، لأنّه لم يقبل أن يحكم أحد على عمله. بدأ التدريس في جامعة الألبا وفي الكثير من المدارس، وقد تولى تنشئة الأساتذة الثانويين بالتعاقد مع وزارة التربية، إذ ترأّس لجنة الفلسفة في الامتحانات الرسمية لمدّة 30 سنة. هو أول من علّم فلسفة الجمال في لبنان (Esthétique)، ولا يزال يدرّس إلى اليوم. من أهم مؤلفاته: «بحثاً عن قيم جديدة»، و«Le procès de la conscience»، و«Esquisse d’une esthétique»، و«La feuille du figuier»، و«Enquête d’un refuge».