تحوَّلت قضية الأسرى الفلسطينيين إلى قضية قائمة بذاتها، رغم كونها من القضايا المتفرعة عن مقاومة الاحتلال، وذلك بفعل عددهم الكبير في السجون الإسرائيلية، وأداء أجهزة الإكراه والقمع التي تعاملت معهم كمدخل وأداة للضغط على الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق، سعت إسرائيل أيضاً إلى حرف أولويات الشعب الفلسطيني وفصائله، وهدفت إلى دفعه نحو استبدال عنوان تحرير الأرض، كأولوية تتقدم على باقي الأولويات، بعناوين أخرى (هي في الواقع تحتل أولوية متقدمة في سياق حركة المقاومة من أجل التحرير)، من قبيل تحسين الظروف المعيشية، أو تحرير الأسرى، أو تخفيف سياسة التنكيل ضدهم، على أمل أن تتحول وجهة النضال نحو هذه العناوين على حساب القضية الأم، أي التحرير.
على هذه الخلفية، يأتي تعمّد إسرائيل سجن هذا العدد الكبير من الأسرى والمعتقلين عبر إصدار أحكام «قضائية» تقضي بالسجن لسنوات طويلة، ويصل عدد لا بأس منها إلى أرقام خيالية. كذلك ربطت تحريرهم بحالة من اثنتين: إما بفعل عملية تبادل أسرى، أو في سياق سياسي محدَّد في خدمة المسار التسووي.
في المقابل، استطاع الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة احتواء مفاعيل قضية الأسرى باعتبارها جزءاً من التضحيات، إلى جانب الشهداء والجرحى، التي تقدمها الشعوب على طريق مقاومة الاحتلال. وعمدت الفصائل أيضاً إلى تحويلها إلى محفّز إضافي للمقاومة، وجعلت مساعيها لتحريرهم في سياق وخدمة مشروع المقاومة، وهكذا أحبطت مخطط الابتزاز وانتزاع التنازلات الذي عمل عليه الاحتلال.
كذلك، أحبط صمود الأسرى أنفسهم كل مساعي كيان العدو الذي هدف إلى تحطيم إرادة المقاومة لديهم. ونتيجة ذلك، باتت السجون قلعة من قلاع النضال والمواجهة، وساحة يعبّرون فيها عن مواقفهم وخياراتهم المقاوِمة إزاء كل القضايا والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني. واستطاع الأسرى أيضاً، عبر مسار نضالي طويل، انتزاع الكثير من الحقوق، تحوَّلت كل محطة فيه إلى إنجاز إضافي في سجل الأسرى والمقاومة في فلسطين.
على خط موازٍ، حوَّل الأسرى أنفسهم قضيتهم إلى عامل محرك للشارع الفلسطيني، وبات تحركهم يرعب صنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وفي ذلك إدراك منهم بأن قضيتهم تحظى بإجماع تيارات وفصائل الشعب الفلسطيني كافة، بمن فيهم المنقسمون حول خياري التسوية والمقاومة. وممّا يعزز حضور الأسرى في كل منزل أنه منذ عام 1967 مرّ في السجون الإسرائيلية أكثر من 600 ألف فلسطيني. ونتيجة ذلك، لا تكاد توجد عائلة فلسطينية، تقريباً، لم يعتقل أحد أبنائها. وهكذا تحول السجن إلى جزء من التجربة الجماعية التي تبلور معالم هذا الصراع في وجدان كل عائلة فلسطينية.
مع كل إضراب للأسرى، تتصدر المطالب المتصلة بعناوين الحياة: الوضع الصحي والغذائي والإعلامي والتعليمي، لكن تبقى حركة الإضراب عن الطعام جزءاً من نضالات الشعب الفلسطيني، وامتداداً لمقاومته وانتفاضته ضد الاحتلال. وفي التوقيت، يلاحظ أن الإضراب أتى في سياق يتّسم بـ«انعدام الأفق السياسي على مستوى التسوية، وفي ظل وضع اقتصادي صعب، وتحديداً في قطاع غزة، وانقسام فلسطيني داخلي»، وأيضاً في ظل قمع أجهزة الأمن أي تحرك شعبي ومقاوم ضد الاحتلال.
في ضوء ذلك، يخشى قادة العدو مفاعيل هذا الإضراب من زاوية أنه «سلاح بديل للأسرى، وهو في كل الحالات (خطوة) سياسية وأهدافه سياسية، وهذا ما كان خلال الإضرابات العشرين عن الطعام التي نظمها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية منذ عام 1969». وحذرت تقارير إسرائيلية أيضاً من «الاستهتار بالإنجازات التي حققوها عبر الإضرابات، وفي مقدمتها الحصول على مكانة الأسرى السياسيين، الذين تختلف مكانتهم في السجون عن مكانة الجنائيين، وبما لا يقل عن ذلك... مكانة أخلاقية ووزن نوعي خاص في المجتمع الفلسطيني».
في المقابل، يهدف القادة الإسرائيليون، الذين اختاروا سقف التصعيد بلا حدود، إلى كسر إرادة الأسرى، وهو ما تجلى في دعوة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان إلى ترك الأسرى يموتون من الجوع من دون تلبية مطالبهم، ودعوة وزير الاستخبارات والمواصلات يسرائيل كاتس إلى تطبيق عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين، كذلك دعا الحكومة إلى تشريع تطبيق هذه العقوبة مثل ما تنصّ عليها القوانين العسكرية الإسرائيلية.
بالمقارنة مع خيارات إسرائيل القمعية السابقة ضد الأسرى في محطات سابقة، تبدو مواقف المسؤولين الإسرائيليين هي الأكثر تعبيراً عن حقيقة المحتوى الذي يختزنه هؤلاء تجاه الشعب الفلسطيني عامة، وأسراه خاصة. وتخشى تل أبيب من تسجيل سابقة الخضوع لأي تحرك جماعي للأسرى، لجهة ما قد يترتّب عليه من تداعيات في الشارع الفلسطيني، ولكنهم يدركون أيضاً أن مجرد تحرك الأسرى هو بذاته، بعيداً عن نتائجه وإنجازاته، يشكل أحد أهم عوامل تحفيز المجتمع الفلسطيني الذي أبدع في اجتراح أساليب نضاله. بذلك، لم تعد السجون الإسرائيلية ساحة تضحيات وآلام فقط، بل ساحة نضال ومصدر قلق للمحتلين.