إنه حزيران من عام 1982، حين اجتاحت إسرائيل لبنان بآلياتها العسكرية وجنودها. تصل الأنباء تباعاً إلى العاصمة الإيرانية طهران، حيث كان السيد محمد حسين فضل الله، يرافقه الحاج عماد، للمشاركة في «مؤتمر يوم المستضعفين». يقطع السيد زياته، ويقرر العودة إلى لبنان، غير أن القصف الإسرائيلي كان قد أتى على مدرجات مطار بيروت الدولي، ما حال دون رجوعه، وعماد، عبره.
حطت طائرتهما في دمشق، حيث مكثا يوماً قبل التوجّه إلى الضاحية الجنوبية. لدى وصولهما إلى منطقة الكحالة أوقف عناصر من حزب «الكتائب» فضل الله ومغنية، واحتُجزا لمدة 48 ساعة، قبل إطلاقهما إثر وساطة «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى». فور وصوله إلى بيروت، انضم مغنية إلى مجموعته التي تمركزت في منطقة المدارس في العمروسية والتي كانت تسميها حركة «فتح» بـ«المنطقة الرابعة». هناك قاد علي ديب (خضر سلامة) مجموعات المقاومة التي اشتبكت مع العدو في نقاط عدة وهي: العمروسية، ومثلث خلدة، وأطراف الأوزاعي ومدرج المطار.

أرسل مغنية عدة
مجموعات استخبارية إلى فلسطين لتصوير مدينة تل أبيب

على مدى 24 ساعة تصدّت الفصائل الفلسطينية ومجموعات المقاومة اللبنانية للجيش الإسرائيلي، ما منعه من التقدم باتجاه بيروت، وأجبره على الالتفاف حول العاصمة ومحاصرتها. وخلال تلك الاشتباكات استطاعت مجموعة سلامة السيطرة على ملالة إسرائيلية، وبندقية وخوذة قائد الآلية الذي أطلق خضر النار عليه بعدما اشتبك معه بالأيدي. قاد سلامة الملالة بنفسه، وحرص على المرور بها في الأوزاعي، ليراها سكان المنطقة، وترتفع معنوياتهم. عاد بها إلى الشياح، حيث ركنها في «روضة الشهيدين»، التي كان جزء من أرضها مخصّصاً لتدريب الفدائيين. توجه إلى بيته، وأيقظ أبناءه، ووضع أمامهم البندقية الإسرائيلية، وقال لهم إن هزيمة العدو ليست مستحيلة.
بعد حصار جيش العدو لبيروت، وتمركزه على التلال المحيطة بها، توزعت مجموعات المقاومة بين الغبيري وبرج البراجنة، والشياح، لتبدأ مرحلة جديدة من العمليات العسكرية ضده على خطوط التّماس. تحوّل محور مار مخايل وكاليري سمعان إلى نقطة مراقبة ورصد لتحركات جنود العدو، وأصبح خطّ الحدث، قرب مقر المجلس الدستوري حالياً، وصولاً إلى كفرشيما والعمروسية، منطقة لزرع العبوات الناسفة وإطلاق قذائف الهاون و«الأر بي جي». وفي الفترة الممتدة من محاصرة العاصمة حتى خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، نفذت مجموعات مغنية وسلامة سلسلة عمليات عسكرية وأمنية لم يتبنياها أو يعلنا عنها.

خروج الثورة

مع تبلور الصفقة التي أخرجت «منظمة التحرير الفلسطينية» من لبنان، طلب ياسر عرفات من مسؤول «الأمن المركزي» لحركة «فتح» في لبنان، هايل عبد الحميد «أبو الهول» تسليم مخازن الأسلحة التابعة للحركة، إلى عماد مغنية وخضر سلامة، وبعض المجموعات الإسلامية حديثة العهد. وأمر المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين الذين لم تشملهم صفقة الخروج (لأنهم لبنانيون أو من سكان المخيمات) بالعمل والتنسيق الأمني والعسكري مع مغنية. بعد رحيل «الثورة» من لبنان، سرّعت مجموعات مغنية وسلامة الموجودة في بيروت وتيرة نقل السلاح من مراكز «فتح» في مخيمي شاتيلا وبرج البراجنة، إلى منطقتي الشياح والرمل العالي. وحرص مغنية على نقل كميات كبيرة من الصواعق والعبوات الناسفة للاستفادة منها لاحقاً. كذلك طلبا جمع السلاح المتروك وتشحيمه ووضعه في إطارات للشاحنات والجرافات ورميها على أسطح المباني، أو تخبئة الأسلحة في أحواض الزراعة لاستخدامها لاحقاً. أما المجموعات الأخرى الموجودة في الشمال والبقاع، والتي كانت تنسّق مع الشهيدين، ففتَحت مخازن أسلحتها لتنقل إلى الجنوب.


في تلك الفترة، كان الشعور بالهزيمة ينتاب الغالبية العظمى من اللبنانيين المعادين للخيار الإسرائيلي. لكن فئة قليلة آمنت أنه يمكن تحويل التهديد إلى فرصة، إذ رأت أن انتشار جنود العدو فوق الأراضي اللبنانية يسهل من استهدافه ويكبده خسائر بشرية أكثر. ففي أحد الأيام، عبّر أحد ضباط المدفعية الذي عمل مع سلامة عن يأسه، معتبراً أن المقاومة انتهت مع خروج «الثورة»، فقال له خضر: «لماذا حملت البندقية؟ مش لتقاتل اسرائيل؟ هاي اسرائيل إجت لعندك». كان سلامة ومغنية يشددان على ضرورة الاستفادة من حالة الهدوء، التي رافقت خروج «الثورة الفلسطينية»، وتمترس القوات الدولية على خطوط التماس، لتسريع عملية التجهيز والإعداد لبدء مرحلة جديدة من الصراع مع الاحتلال.

معركة الغبيري

مع رحيل «منظمة التحرير»، تقدم العدو الإسرائيلي في أيلول من عام 1982 باتجاه بيروت لمحاصرة مخيمي برج البراجنة وشاتيلا. وبوصول آلياته العسكرية من طريق المطار القديم باتجاه جسر المطار، حاولت الدبابات الإسرائيلية التقدم من جهة كاليري سمعان مروراً بمنطقة الغبيري باتجاه صبرا، وذلك بهدف محاصرة المنطقة لتسهيل مرور عناصر «الكتائب» وحلفائها لتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا. في ١٥ أيلول من العام نفسه، فوجئ سكان «حي الخنساء» في الغبيري، بتقدّم دبابة وعدد من الجنود الإسرائيليين في شارعهم. فانتشر عناصر المقاومة، وبينهم أفراد مجموعات مغنية وسلامة في المنطقة، واشتبكوا مع الجنود، وبالفعل منعوا الإسرائيليين من التقدّم بعدما ألحقوا الضرر بدبابة لهم في شارع «البريد».
بعد اشتداد المعركة تدخل الجيش اللبناني طالباً وقف الاشتباكات والسماح للقوات الإسرائيلية بالمرور في المنطقة، على أن يتم تأمين انسحاب مجموعات المقاومة. تفاوض الجيش مع نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لإقناع المقاتلين بالانسحاب، إلا أن الراحل رفض أن يكون وسيطاً بين الاحتلال والمقاومين، ما دفع الجيش إلى إرسال النداءات عبر مكبرات الصوت باسمَي مغنية وسلامة وقيادات أخرى، للسماح بمرور جنود العدو في الغبيري.

خطط مغنية وسلامة لتنفيذ عمليتين متزامنتين: الأولى في صور والثانية قرب النبطية

بعد وصول التعزيزات الإسرائيلية، وتكثيف الطائرات الحربية غاراتها على المنطقة، انسحب مغنية وسلامة إلى برج البراجنة، ومكثا في جبانة الرمل العالي، فيما كثّف الجيش اللبناني عمليات الدهم لاعتقالهما. إثر ذلك، اقتحم الجنود منزلَي مغنية وسلامة بحثاً عنهما وصادروا الأسلحة التي كانا قد خبأاها في أحواض الزراعة وعلى الأسطح.
بعد مطاردة السلطة اللبنانية والعدو الإسرائيلي للمقاومين انتقل سلامة ومغنية إلى البقاع حيث شاركا في اجتماعات تأسيس «المقاومة الإسلامية».

نواة المقاومة الإسلامية

بعد انتقال مغنية وسلامة إلى البقاع، التقيا بقيادات «روابط المساجد» و«الطلبة المسلمين» والتشكيلات الإسلامية الأخرى على مدى أسابيع، لوضع خطة عمل لمواجهة العدو. فكان القرار بتأسيس جسد عسكري موحّد عُرف في وقت لاحق باسم «المقاومة الإسلامية». بالتزامن مع هذه الاجتماعات، كثّف الحرس الثوري الإيراني تدريباته للشبان في المعسكرات التي افتتحها في جنتا وثكنة الشيخ عبدالله في بعلبك، وفي منطقة الزبداني السورية. في ذلك الوقت، أسّس مغنية في منطقتي جبل الريحان (جزين) والعرقوب (حاصبيا) خلايا تتبع له، مدّها بالسلاح من المجموعات الفتحاوية المتبقية في البقاع. بعد رسم ملامح وجه المقاومة التي ستتولى مواجهة إسرائيل بعد خروج «منظمة التحرير»، عاد مغنية وسلامة إلى بيروت واتفقا على التنسيق والعمل معاً لبدء تنفيذ العمليات ضد جنود الاحتلال، وتولى سلامة دور ضابط الارتباط بين المجموعات المقاومة التي يقودها مغنية، وبين قيادات «فتح». في بيروت، نقل عماد العمل العسكري ضد العدو إلى مرحلة جديدة، فنفّذ سلسلة عمليات حملت بصمته. في تونس علم عرفات أن «مختار» (الاسم الحركي لعماد حينذاك) وسلامة مسؤولان عن العمليات.
في تلك الفترة «البرزخيّة» بين خروج الفلسطينيين ونشوء «المقاومة الإسلامية»، كثّف مغنية وتيرة نقل السلاح إلى الجنوب، لبدء تنفيذ عمليات عسكرية جنوب نهر الليطاني. فطلب من مجموعة يقودها إنشاء مخابئ سرية في الشاحنات لنقل الأسلحة فيها. في ذلك الزمن، سمح العدو الإسرائيلي لسكان القرى بالعودة إلى قراهم، فاستفاد مغنية من ذلك ونقل الراغبين بالعودة، على متن الشاحنات «المصفحة» التي كانت تنقل الأسلحة. في الجنوب خزّن المقاومون السلاح في المغاور والكهوف والبيوت الآمنة وبدأت مرحلة الرصد لاستهداف جنود الاحتلال.

فاتح عهد الاستشهاديين

يوم 11 تشرين الثاني من عام 1982، هزّ انفجار ضخم مدينة صور، بعد اقتحام سيارة بيجو «504» بيضاء اللون مقر الحاكم العسكري في المدينة. أسفرت العملية عن مقتل نحو 100 جندي إسرائيلي. في الأيام التي سبقت تنفيذ العملية، انتقل مغنية مع الاستشهادي أحمد قصير، الذي لم يكن قد مضى على وصوله من الكويت إلا أسابيع قليلة، إلى كفررمان ــ قضاء النبطية (قرية الحاجة أم عماد)، حيث أمضيا ليلة قبل انتقالهما إلى قرية مغنية، طيردبا (قضاء صور). يروي من رآهما معاً، أنهما لم يفترقا. وفي يوم تنفيذ العملية، خرجت سيارة قصير من منزل عائلة مغنية في طيردبا، ولدى تفجير الاستشهادي قصير هدفه، انتقل عماد مع عائلته إلى بيروت، تفادياً للمداهمات الإسرائيلية.
كان المخطَّط الرئيسي الذي شارك سلامة في إعداده، تنفيذ عمليتين متزامنتين الأولى تستهدف مقر الحاكم العسكري في صور والثانية مقر الحاكم بالقرب من النبطية، إلّا أن عائقاً لوجستياً أوقف تنفيذ الثانية. بعد العملية، التي نقلت الصراع مع العدو إلى مرحلة جديدة، عاد سلامة إلى الشياح، وأثناء قيادته سيارة مرسيدس، سأله أحد المقربين عن سيارته «البيجو البيضا»، فأجاب ضاحكاً: «إسألوا عماد كيف طارت». كان من المفترض أن تنفّذ عملية الاستشهادي قصير بسيارة المرسيدس التي عاد بها سلامة، إلا أن ضعف محركها وعدم قدرتها على حمل كمية كبيرة من المتفجرات، دفع مغنية لـ«استعارة» سيارة سلامة وتنفيذ العملية بها.

مع عرفات مجدداً

في 16 أيلول 1983 عاد ياسر عرفات إلى لبنان، من بوابة طرابلس. توجّه مغنية وسلامة للقاء «الختيار»، حيث كان «أبو جهاد» و«أبو الهول» ومسؤول «أمن الإقليم» راجي النجمي في انتظارهما. اجتمعوا في مكتب «أبو الهول» في عاصمة الشمال، واستمع عرفات لشرح مغنية لتفاصيل العمليات التي نفّذها. طلب «أبو عمار»، من «أبو جهاد» و«أبو الهول» إحضار قيادات في «الأمن المركزي» و«القطاع الغربي» للعمل مع مغنية، كما أمر بفتح مخازن الحركة في الشمال وإعطاء جزء من محتوياتها لعماد وسلامة ونقله إلى البقاع والجنوب. كانت الشاحنات تحمل السلاح من الشمال إلى البقاع ثم الشوف وخلدة ومن هناك إلى الضاحية، حيث خزّنت في بيوت آمنة في منطقة بئر حسن، الرمل العالي، والغبيري، ونقلت لاحقاً إلى الجنوب. بعد اجتماع طرابلس، أرسل «أبو جهاد» ضباطاً من «القطاع الغربي» للعمل مع مغنية. في تلك الفترة تكثفت ضربات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب. وإضافة إلى العمل العسكري، نفذت مجموعات مغنية عمليات أمنية كبيرة، لم يتبنّها أحد. ويقول الذين عايشوه في تلك الفترة أنه لم يكن مهتماً بتبنيها لأن الهمّ الأساسي عنده هو ضرب المشروعين الإسرائيلي والأميركي وإخراج المحتلين من الأراضي اللبنانية، وهو ما نجح فيه. وبينما كان مغنية يخوض صراعاً عسكرياً مع الاحتلال، أرسل عدة مجموعات استخباراتية إلى الداخل الفلسطيني. إذ سمحت إسرائيل في ذلك الوقت بدخول سكان الجنوب للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948، ضمن ما عُرف بسياسة «الجدار الطيب»، فبعث عماد بأشخاص إلى تل أبيب كانت مهمتهم تصوير المدينة. ويروي بعض من عايشوه عن قرب في تلك المرحلة أن هذه التسجيلات لا تزال موجودة حتى يومنا هذا.
في الفترة الممتدة من عام 1983 وحتى عام 1987، نفّذ مغنية ورفاقه سلسلة عمليات، مما جعله المطلوب رقم واحد لدى الأعداء. كان يتنقل بين بيروت ودمشق وطهران. يختفي لأشهر من دون معرفة مكانه، وعندما يعود كان يظهر بطريقة لا يعرفها أحد، معتمداً سياسة «الاختفاء لا التخفي» وهو ما أبقاه بعيداً عن أعين الاستخبارات العالمية مدة ٢٥ عاماً، فيما هو يقود واحدة من أنجح تجارب المقاومة ضد العدو.




مغنية يغني الشيخ إمام




منذ صغره، كان لعماد مغنية صوت جميل. فخلال وجوده في «فتح»، كان مغنية يردّد أغاني الشيخ إمام، وأبو عرب، وأناشيد الثورة الفلسطينية. في حزب الله شارك الشهيد مغنية في تسجيل عدد من الأناشيد وهي: الشعب الحر، للعلا من غدا، ونشيد حزب الله بنسخته الجديدة. وكان يحب ترداد نشيد «الحب محمد». ويروي أحد الذين شاركوا مغنية في تلك الفترة، في تسجيل هذه الأناشيد، أنهم في إحدى المرات اضطروا إلى تأجيل تسجيل نشيد لمدة طويلة، في انتظار ظهور مغنية.