الى الآن لا مؤشر معلناً الى اتفاق وشيك بين تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية، رغم معاودة الاتصالات بينهما في الساعات الثماني والاربعين الاخيرة. بعد محنة الرياض، لا سبب يحمل الرئيس سعد الحريري بعد الآن على تكرار ما قاله يوماً، في مشهدية 14 آذار، ان الموت وحده يفرّق بينه وسمير جعجع. منذ تشرين الثاني 2015 صعد تدريجاً التباعد مع ترشيح الحريري النائب سليمان فرنجيه، ثم ترشيح جعجع الرئيس ميشال عون، الى ان وصل، تبايناً بعد آخر، الى القشة المؤجلة. منذ عودة رئيس الحكومة الى بيروت من محنة الرياض، في 22 تشرين الثاني 2017، لم يتحدّث احدهما الى الآخر. لا مبادرة بمكالمة هاتفية من هذا او ذاك، ولا فكرة لقاء. لا احد منهما يقبل بزيارة الآخر، ثم أُفلِت عقال الشكوك والظنون والاتهامات المتبادلة.
غداة عودته من زيارة ردّ الاعتبار الى المملكة، في 4 آذار، تلاحقت فجأة اللقاءات والاتصالات بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية لكسر انقطاع التواصل بينهما، وبدا الحريري كأنه عاد برغبة سعودية في معاودة التفاهم مع جعجع وانخراطهما معاً في انتخابات 6 ايار.
كانت الانطباعات الفورية انهما سيتعاونان في دوائر تماسهما، وتلك التي يحتاج احدهما الى ناخبي الآخر فيها. سرعان ما كشفت الايام اللاحقة انهما لا يزالان يدوران من حول النقطة الصفر. لا تفاهم على تحالف انتخابي، ولا قبول بالحصة التي يطلبها كل منهما لنفسه كما للآخر، في عكار والبقاع الشمالي وزحلة والبقاع الغربي وصيدا ـ جزين حيث لكليهما مقاعد توجب انضواءهما في لوائح مشتركة. اضف دوائر لا مقاعد سنّية فيها، طلبت القوات اللبنانية الحصول على اصوات ناخبي التيار كما في دائرة بيروت الاولى والدائرة الثالثة في الشمال. خطوة الى الامام واثنتان الى الوراء. اذذاك طُرحت علامة استفهام عن دور المملكة في العلاقة المتردّية بين الطرفين. تكشّف ايضاً في الايام الاخيرة ان الرغبة التي حمّلتها الرياض للحريري بازاء حليفها المسيحي غير ملزمة له بنتائجها.
دراسة الى الرياض انبأت بنتائج محسومة لحزب الله وحلفائه


عنى ذلك اكثر من ملاحظة حيال علاقة المملكة بحليفين سابقين لم تبخل عليهما في استحقاقي 2005 و2009، ولا في اظهار وقوفها الى جانبهما.
بعد محنة الرياض، اطل مَن يقول ان المكانة المتقدّمة والاستثنائية للحريري في المملكة انحسرت ليجلس فيها سمير جعجع، ويمسي هو حليفها الاول وبوابة العبور اليها. عبّر عن هذا البعد المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا حينما زار بيروت في 26 شباط، واختار ان يتعشّى في معراب لا في السرايا او بيت الوسط، خلافاً لتقليد متبع في علاقة الحريري بالسعودية. كذلك افصح كلامه في ضيافة جعجع عن صحة المنزلة الجديدة التي بات عليها لدى السعودية، كي يستنتج القارئون في علاقة الطرفين ان الرياض ـ بعد ان تستقبل الحريري مجدّداً ـ سترغمه على انزال القوات اللبنانية في قارب لوائحه.
لكن شيئاً من ذلك لم يقع لاسباب من بينها:
1 ـ على طرف نقيض من توقعات رافقت زيارة العلولا، وهو ان المملكة تعود الى دورها في لبنان لكن بتفكير مختلف، الا ان وقوفها على الحياد في الانتخابات النيابية يشير الى وجهة معاكسة، اقرب الى ما يكون نأي بالنفس. لم يُشَع انها انفقت او تريد انفاق مال وفير على حليفيها اللبنانيين لتمكينهما من خوض الانتخابات، وفوزهما مع حلفاء آخرين بالغالبية النيابية على غرار انتخابات 2009. لم يُفصَح ايضاً، منذ الزيارة الاخيرة للحريري الى هناك في 27 شباط، عن ضغوط اضافية تحمله على اعادة وصل ما انقطع بينه وجعجع وانضوائهما في لوائح مشتركة تمنح القوات اللبنانية مزيداً من المقاعد في البرلمان بثقل سنّي. لم يطفُ على السطح، حتى الآن على الاقل، المال السياسي الذي لا يحتاج الى ادلة لفضحه.
2 ـ إطلعت الرياض من اصدقاء لبنانيين على دراسة مفادها ان تطبيق قانون الانتخاب سيفضي الى نتائج محسومة لحزب الله وحلفائه. بحسب الدراسة، فإن اعتماد النسبية ـ تبعاً لما اصرّ عليه الحزب ـ يمكّنه من اختراق الطوائف والافرقاء جميعاً، من غير ان يتاح للفريق الآخر اختراق لوائحه كما اختراق دوائره، وطائفته حتى. ردّ فعل المسؤولين السعوديين تحفظهم عن وجهة النظر هذه، من دون ان يكون في وسعهم الوقوف في طريق اجراء الانتخابات او محاولة تعطيلها. قالت الدراسة ان من المتعذّر، سياسياً وحسابياً، تغيير نتائج الانتخابات.
3 ـ لا يزال سعد الحريري الحليف الاول للمملكة في لبنان، الا انه ـ خلافاً لحقبة استحقاقي 2005 و2009 والمرحلة الطويلة التي رافقت وجود الرئيس رفيق الحريري في الحكم ـ لم يعد الوحيد. ليس هامشياً هذا الكمّ من الصعود المتعدّد في كل دوائر التصويت السنّي لشخصيات بعضها ناوأ المملكة والبعض الآخر تلطى تحت المظلة الحريرية او جاورها. بات في وسع نواب حاليين كنجيب ميقاتي وخالد الضاهر، ونواب سابقين كاسامة سعد وعبدالرحيم مراد وجهاد الصمد، ومرشحين طامحين كاشرف ريفي وفؤاد مخزومي وفيصل كرامي خوض الانتخابات بلا توجس او خوف، وبينهم مَن بات في امكانه الجزم من الآن بأنه نائب حتماً. ليسوا كلهم حلفاء للرياض، بيد ان الشارع السنّي اضحى اكثر من اي وقت مضى يتسع لهم.
ظاهرة كهذه، غير مسبوقة في العقد المنصرم، ابرَزَت جانباً مهماً في التنافس الدائر في الوسط السنّي، هو ان ليس ثمة مرجعية سنّية كبيرة خارجية مرهوبة، كالمملكة في عزّ سطوة دورها، اجازت قبلاً ومنعت، تطل الآن برأسها على الجميع كي تفرض مرجعية واحدة في الداخل اللبناني. لعلّ ادل تعبير على هذا التحوّل ان الرياض قاطعت ميقاتي رئيساً للحكومة ثلاث سنوات (2011 ـ 2014) ولم تستقبله بسبب موافقته على خلافة الحريري في السرايا. لكنها المملكة نفسها التي نأت بالحريري ايضاً عن رئاسة الحكومة وسمّت الرئيس تمام سلام عام 2013، وهي التي حملته على مصالحة النظام السوري ومصادقة رئيسه بشار الاسد والمبيت عنده ما بين عامي 2009 و2011.