في عام 2007، كتب المفكّر البريطاني (مؤرّخ وعالم اجتماع) بيري أندرسون، مقالة طويلة عن روسيا في عهد بوتين. في حينه، لم يكن بوتين وجهاً أساسياً في ساحة السياسة الدولية، وإنّما كان الرجل الناجح في «تحقيق ازدهار نسبيّ واستقرار في روسيا».كان أندرسون يتحدث عن النظام السياسي الروسي الخارج من محنة عهد بوريس يلتسين، والقائم على أنقاض الاتحاد السوفياتي. يشرح أندرسون الموصوف بأنّه المؤرّخ البريطاني الماركسي الأوّل بعد رحيل أريك هوبزباوم، أنّ «التشنجات ضمن الحكومة، والصدامات مع المشرّعين، والخمول الرئاسيّ، صارت (في ظلّ رئاسة بوتين) أشياء تنتمي إلى الماضي». أيضاً وفق أندرسون «لم تعد البلاد تحت الإدارة الأجنبيّة، وفق العبارة المحليّة الناقدة؛ انتهت الأيام التي كان يُملي فيها صندوق النقد الدوليّ الموازنة، فيما بالكاد يتصرف وزير الخارجيّة بوصفه أكثر من قنصل أميركيّ، وذهب أيضاً مديرو حملات إعادة ترشّح الرئيس الآتين من كاليفورنيا. صارت روسيا، بعد تحررها من القروض الأجنبيّة والوصاية الدبلوماسيّة، بلداً مستقلاً مرّة أخرى».

نسبة المشاركة: أكثر من 60%

حتى وقت متأخر من الليل، وعقب فرز نحو 91% من الأصوات، كان بوتين يتقدّم بـ 76.50%، يتبعه مرشّح الحزب الشيوعي بافيل غرودينين، بـ 11.98%، يليهما زعيم «الحزب الليبرالي الديموقراطي» فلاديمير جيرنوفسكي، بـ 5.81%، ثمّ المرشحة كسينيا سوبتشاك، بـ 1.60%. أما زعيم حزب «يابلوكو» غريغوري يافلينسكي، فقد حصد 0.99%، فيما كان نحو 2% من حصة المرشحين الثلاثة الباقين. وبينما كان كثر يراهنون على نسبة المشاركة، فإنّها تخطت الستين في المئة، وفق أرقام غير نهائية.


بما يُعاكِسُ هذه القراءة، وبعد نحو 11 عاماً عليها، كثُر في الإعلام الغربي في الأيام الماضية تناول انتخابات الرئاسة الروسية من زاوية انعدام نزاهتها، وفقدانها الشفافية، إلى جانب إلقاء الضوء على الطابع الاستبدادي لسيّد الكرملين، ولنظامه الذي دعّمه بـ«رفاقه ونظرائه من عهود الكا جي بي». صحيفة «لوموند» الفرنسية، مثلاً، استعانت بباحثَين متخصصين، هما كاترينا كوزنتسوفا وإدوارد لتفاك، للحديث عن «ضعف دولة القانون التي أضعفت في نهاية المطاف بوتين... (وأنّ) البيروقراطية الروسية عاجزة وتعاني من اختلال وظيفي»، وليشيرا برغم ذلك إلى أنّ «بوتين مستبد من نوع خاص، ذلك أنّه شرعي بصورة تامة».
برغم أهمية هذه التحليلات من زاوية قراءة النظام السياسي، لكن لعلّ ما يُعيبها هو تناولها الانتخابات الروسية بمنظار مجهري، لا يسمح بأخذ الصورة العامة. فهذه الانتخابات تجرى في ظلّ اهتزازات تعيشها «الديموقراطية الغربية» بعد عقدين تقريباً من ارتهانها لـ«ديموقراطية الأسواق وحوكمة (المؤسسات الدولية)»، أو ما كان يسميه كولين كراوش منذ بداية التسعينيات «ما بعد الديموقراطية». هذا فضلاً عن العوامل الجيوسياسية الراهنة التي تجعل من وجود شخصية مثل بوتين في الكرملين أمراً ضرورياً. بمعنى أوضح، وبحصافة شديدة، كان الباحث الفرنسي إيمانويل تود، يُعلِّقُ على نتائج «البريكست» في بداية صيف 2016 بالإشارة إلى بداية مسار عودة أوروبا إلى زمن «الدولة ــ الأمة»، مع ما يعني ذلك من ارتفاع عبارات الواقعية السياسية ولغة المصالح الوطنية على غيرها من المقاربات للسياسات الإقليمية والدولية. قال تود بعد شهر على ذلك الاستحقاق البريطاني الذي أطلق عملية الطلاق بين بريطانيا وبقية الأوروبيين: «البريكست، هو نهاية عبارة النظام الغربي... هذه هي النهاية الحَقّة للحرب الباردة، فيما يظهر بوتين... أنّه مدركٌ لذلك».
لتود، وهو باحث في علوم الديموغرافيا (بالأصل) وهو، للإشارة، ذو ميول أميركية، عبارة جميلة (أخرى)، تقول: «روسيا، ستفاجئنا دوماً». هو طبعاً يرتكز في ذلك على إحصاءات تُظهر تحسّن المؤشرات الديموغرافية في روسيا في العقد الماضي، وهي مؤشرات يَعرِفُ الرجل نسقها جيّداً، إذ منذ النصف الثاني من السبعينيات كان قد بنى على مثيلاتها للحديث عن «السقوط الأخير» للاتحاد السوفياتي، أي انهياره.

العوامل الجيوسياسية تجعل من وجود شخصية مثل بوتين في الكرملين أمراً ضرورياً


هكذا إذاً، قد يبدو منطقياً تسيّد بوتين للكرملين. بيري أندرسون نفسه، كان يشير في مقالته تلك إلى أنّه «منذ تنصيبه في الرئاسة، صقل بوتين سمتين أكسبتاه هالة قادرة على الصمود. الأولى هي صورة السلطة الحازمة والقاسية عندما يلزم الأمر؛ تاريخيّاً، كان غالباً الفرض الصارم للنظام في روسيا ما يثير الإعجاب، وليس الخوف». يستدرك الرجل بالقول: «يوجد جانب آخر أقلّ وضوحاً في كاريزميته. جزء من جاذبيّته الباردة، ثقافيّ، إذ إنّه محبوب على نطاق واسع لفصاحته... لينين كان آخر الحكام القادرين على تكلّم روسيّة فصيحة، فيما كانت لكنة ستالين الجورجيّة غليظة إلى درجة أنّه نادراً ما كان يخاطر ويتحدث بها علانيّة، أما معجم خروتشوف، فكان جافاً وقواعد استخدامه للغة عاميّة، وبريجنيف كان بالكاد قادراً على تركيب جملتين، وكان غورباتشوف يستخدم لكنة ريفيّة جنوبيّة، ومن الأفضل عدم التعرّض للغة يلتسن المبهمة»... قبل أن يختتم عن بوتين: «عندما يرى المرء زعيم البلاد قادراً مرة أخرى على التعبير عن نفسه بوضوح ودقّة وطلاقة، باستخدام عبارات صائبة إلى حدّ ما، فإنّ ذلك يطرب مسامع كثير من الروس».
بعد ذلك بأعوام، سوف يُذكّر أندرسون بأنّ بوتين ظهر جدياً على صعيد السياسة الخارجية بالضبط عقب اشتعال الأزمة الأوكرانية عام 2014. وبالتزامن مع التدخّل الحاسم في سوريا، أصبح بوتين يعكسُ أكثر فأكثر «عودة روسيا»، لا كدولة مطبوعة بمركزيتها وبـ«زعيمها» فحسب، بل كلاعب رئيسي في ساحة السياسة الدولية... في ساحة لا تُعزى ضجتها إلى إعادة انتخاب بوتين، وإنّما إلى «مقابر أوروبا» التي تطوي منذ أعوام قليلة مرحلة «سلام ما بعد 1945»، فيما الجميع يترقب الآتي. وعليه، قد لا تكون «موسكو بوتين» سوى صدى يعكس ضجيج «القبور» تلك.




«المهمّات معقّدة وصعبة للغاية»

()

عقب إعلان النتائج، شدد بوتين على ضرورة «توحيد جهود جميع الناس، بغض النظر عن نوع المرشح الذي صوّتوا لمصلحته، لأننا نواجه مهمات معقدة وصعبة للغاية، ونحن لا نحتاج فقط إلى حلها كالعادة وفق النظام الحالي، وإنما أيضاً إلى تحقيق اختراقات وقفزات نوعية في إنجاز هذه المهمات». وأشار في تعليقه على خطواته السياسية المقبلة إلى أنه لا يفكّر حالياً في «إجراء أي إصلاحات دستورية»، فيما أكد أن جميع التغييرات في مكاتب الوزراء ومؤسسات الدولة الأخرى ستحدث بعد الإعلان رسمياً عن الفائز وأدائه اليمين الدستورية. وفي رده على سؤال حول انتخابات الرئاسة عام 2024، قال إنّ الافتراضات حول إمكانية توليه منصب الرئيس بعد 6 سنوات «مضحكة». وفي أوّل تطرق علني من جهته إلى قضية تسميم ضابط الاستخبارات الروسي السابق سيرغي سكريبال، اعتبر أنّ «من الهراء الاعتقاد بأنّ روسيا يمكن أن تقوم بمثل هذه التصرفات قبل الانتخابات وكأس العالم». وأشار إلى أنّه علم بتسميم سكريبال «من وسائل الإعلام»، مبدياً في الوقت نفسه استعداد بلاده للتعاون بشأن القضية، ومؤكداً أنّ «كل الأسلحة الكيميائية» الروسية «أُتلفت... تحت إشراف المراقبين الدوليين»، بخلاف بعض الشركاء الذين «لم ينفذوا التزاماتهم حتى الآن»، في إشارة إلى الولايات المتحدة.