فلاديمير بوتين رئيساً لولاية رابعة بغالبية شعبية غير مسبوقة. الفوز الانتخابي الكاسح لم يكن ينتظر إقفال صناديق التصويت، التي فصلت بين فتح أوّلها شرقاً، وآخرها غرباً، اثنتان وعشرون ساعة، صوّت الروس خلالها لمصلحة الرئيس الروسي على رقعة جغرافية موزّعة بين 11 ساعة زمنية، من شبه جزيرة كامتشاتكا ودائرة تشوكوتكا الذاتية الحكم، إلى جيب كاليننغراد في عمق منطقة البلطيق، وبنسب أدناها 64.38 في المئة في ياقوتيا (شرق)، وأعلاها 93.49 في المئة في قبردينو - بلقاريا (غرب).وإذا كان اكتساح فلاديمير بوتين الانتخابات محسوماً سلفاً بنسبة التأييد، التي بلغت 76.66 في المئة، والتي تفوّق بها على الوصيف «الشيوعي» بافيل غرودينين، بنسبة 64.86 في المئة من الأصوات، فإنّ الوجه الآخر للانتصار تمثل في نسب المشاركة الشعبية، التي كانت تحوم حولها التساؤلات، إلى أن حسمتها الحماسة «المفاجئة» التي جعلت 60 في المئة من الناخبين يدلون بأصواتهم في الاستحقاق الكبير، بما يتجاوز 2.73 في المئة، عن نسبة المشاركة في انتخابات عام 2012، و12.28 في المئة من منسوب الإقبال على التصويت في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة.
بذلك، يكون فلاديمير بوتين، قد جدّد ثقته الشعبية، بنسبة تأييد غير مسبوقة، قياساً إلى انتخابات عام 2012 (63.6 في المئة)، وانتخابات عام 2004 (71.9 في المئة)، وانتخابات عام 2000 (53.4 في المئة)، وقياساً أيضاً إلى نسبة التأييد التي حصل عليها ديمتري مدفيديف في انتخابات عام 2008 (71.2 في المئة).
وبذلك، يستعد فلاديمير بوتين لخوض مرحلة جديدة في مساره الرئاسي، بولاية رئاسية تمتد حتى عام 2024، وبانتصار انتخابي ساحق، وشرعية هائلة لا تحمل أي تشكيك، بشهادة ألدّ خصومه الانتخابيين، المرشحة «الليبرالية» كسينيا سابتشاك، التي حصلت على نسبة تأييد 1.67 في المئة، والتي علّقت على نتائح الانتخابات، ليل أول من أمس، بالإقرار بأنّه « من وجهة النظر القانونية، كانت هذه الانتخابات أكثر شفافية» مقارنةً بانتخابات عام 2012.
السؤال الأول هو عن الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة المقبلة


ولا يغيّر في الأمر التصريح الناري للمرشح القومي المحافظ المثير للجدل فلاديمير جيرينوفسكي، الحاصل على 5.66 في المئة من الأصوات، والذي تحدّث عن «ظروف غير متساوية» في الانتخابات الأخيرة، أو تبرير مرشح «الحزب الشيوعي» بافيل غورودين، الحاصل على 11.90 في المئة من الأصوات، خسارته بالقول إن «العملية الانتخابية لم تكن نزيهة»، أو هلوسات مرشّح حزب «شيوعيو روسيا» ماكسيم سورايكين، المجهول من قبل غالبية الروس، بأنّ نتيجته «الحقيقية» هي 15 ــ 20 في المئة بدلاً من 0.68 في المئة!
بذلك، بات «بوتين الرابع» حقيقة رسمية لا تحتمل الجدل، وهو ما جعل التساؤلات بشأن الولاية الرئاسية الجديدة تصب في اتجاه التغيّرات المرتقبة في أجندة الحكم، ولا سيما على المستوى الداخلي، بعدما باتت السياسات الخارجية واضحة منذ عام 2014 على النحو الذي يجعل روسيا تتجه شرقاً نحو الصين، في سياق التأسيس لـ«المشروع الأوراسي»، في ظل التوتر المتصاعد في علاقاتها مع الغرب.
أول التساؤلات التي طرحت، أمس، بدت سابقةً لأوانها بستّ سنوات، وهي تتمحور حول ما إذا كان الرئيس الروسي سيعمد إلى إجراء تعديل دستوري، يؤهله للترشح في انتخابات عام 2024، باعتبار أن الدستور الحالي لا يسمح للرئيس بأن يحكم أكثر من ولايتين متواليتين، وهو ما دفع بوتين، في انتخابات عام 2008، إلى الدفع بصديقه ديمتري مدفيديف، ليكون رئيساً وسيطاً بين ولايتي 2000 ــ 2008، وولايتي 2012 ــ 2024.
ولعلّ الإجابة التي قدّمها بوتين عن هذا السؤال الذي طرحه عليه أحد الصحافيين، في مقرّ الحملة الانتخابية، لم يشذ عن «الغموض» الذي غالباً ما يهوى الرئيس الروسي أن يحيط به الخيارات السابقة لأوانها، إذ قال «ما تتحدّثون عنه مضحك بعض الشيء، هل تتوقعون أن أعيش لمئة سنة؟».
ولكن إذا كان بوتين لا يتوقع أن «يعيش لمئة سنة»، كما قال، إلا أنّ الاحتمال الأكثر ترجيحاً أن يكون قادراً على ممارسة شؤون الحكم مجدداً في عام 2024، حين يكون قد بلغ 71 عاماً (وهو العمر الحالي للرئيس الأميركي دونالد ترامب على سبيل المثال)، أو حتى عام 2030، حين يكون في الثامنة والسبعين (وهو عمر راوول كاسترو على سبيل المثال، حين تسلّم قيادة كوبا من أخيه فيديل).
هذا الأمر قاربه بيوتر أكوبوف، بطريقة أكثر التصاقاً بروسيا، في مقالة نشرتها صحيفة «فيزغلياد» في آب عام 2017، حين أشار إلى أنه «في ربيع عام 2024، سيكون (بوتين) في الحادية والسبعين عاماً من عمره، أي أقل من ستالين (74 عاماً)، أو بريجنيف (75 عاماً)، في آخر حياتهما، لكنه سيكون في وضع جسدي أفضل، على نحو لا يقبل المقارنة، أي من الناحية النظرية، سيملك قدرة البقاء على رأس البلاد 30 سنة إضافية». لكن التحدّي الكبير في تلك الحال، سيتمثّل في تجنّب «الركود»، وفق تعبير أكوبوف، وهو الأمر الذي من الصعب حدوثه، برأيه، وخصوصاً أن بوتين الجديد «سيكتسب مزيداً من الخبرة» في إدارة شؤون الحكم، ما من شأنه أن يساعد في «تسريع وتيرة النمو» في روسيا، التي لا تزال في حاجة، على ما يبدو إلى «غاسودار» (حاكم) قوي، قادر على ضبط «الأوليغارشية» و«الكارتيلات».
وجهة نظر أكوبوف، يشاركه فيها العديد من المراقبين لمسار التطوّر في عملية بناء الدولة الروسية، بعد العشرية «اليلتسينية»، التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسيعينات، ولكن ثمة من ناقضها تماماً، على غرار ما أوردته مجلة «إيكونوميست» (تشرين الأول ــ تشرين الثاني 2017)، حين توقعت أنه «بقدر ما يبقى بوتين في الحكم، ستكون روسيا معرّضة للفوضى والضعف والصراعات»، مجتزئة في ذلك مقولة للمفكر الروسي ألكسندر دوغين، بأنّ روسيا تقترب من دخول «مرحلة اضطرابات»، وهي العبارة التي تشير في معناها التاريخي إلى فترة الاضطراب التي شهدتها روسيا خلال انتقال الحكم من أسرة روريك إلى أسرة رومانوف قبل خمسة قرون.
لكنّ تتبع المسار السياسي في روسيا منذ عام 1991، حتى اليوم، يشي بأن «مرحلة الاضطرابات»، التي يحذر منها البعض، قد حدثت بالفعل، في طور انتقال روسيا من «السوفياتية» إلى «البوتينية»، التي سلكت خلال السنوات الثماني عشرة الماضية مراحل متدرجة، في إطار استراتيجية، استهدفت، ضمن سلّم أولوياتها، تحقيق المصالحة الوطنية والاستقرار الداخلي (2000 ــ 2004)، ثم تحقيق النمو الاقتصادي (2004 ــ 2012)، ومن ثم استعادة المكانة العالمية (2012 ــ 2018)، وهي الركائز الثلاث التي تجعل السنوات الست المقبلة من عهد بوتين، تسير باتجاه تحقيق الأهداف الكبرى، التي تحدّث عنها الرئيس الروسي في خطابه السنوي أمام الجمعية الاتحادية («الأخبار» - 2 آذار 2018).
ومما لا شك فيه أن المضي قدماً في استراتيجية «روسيا المستقبل» تستدعي تغييرات معيّنة على مستوى إدارة جهاز الدولة، أو حتى الوصول إلى تفاهمات مع المعارضة بمختلف توجهاتها، وهي مهمة قد تكون فرصها متاحة، وسهلة، بالنظر إلى الشرعية السياسية الكبرى، التي تجدّدت لبوتين في الانتخابات الرئاسية الحالية، علماً بأنّ الرئيس الروسي سبق أن وجّه الكثير من الرسائل في هذا السياق، بدءاً بتأكيده، خلال مؤتمره الصحافي السنوي الأخير («الأخبار» - 15 كانون الأول 2017) على ضرورة أن تشهد السنوات المقبلة تعزيزاً للمشاركة السياسية، بما يشمل تطوير «المعارضة البنّاءة»، وصولاً إلى تأكيده، ليل أول من أمس، عزمه على عقد لقاءات مع كل المرشحين، خلال الفترة المقبلة، وحديثه عن التغييرات في الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى بعد أداء اليمين الدستورية.
ولعلّ عبارة «كل شيء يتغيّر... ونحن جميعاً نتغيّر»، التي أجاب بها أول من أمس عن سؤال من أحد الصحافيين حول «ما إذا كنا سنرى خلال السنوات الست المقبلة بوتين جديداً»، إشارة أولية، الى أن ثمة تغييرات مرتقبة في الحكم، لن يتأخر كشف النقاب عنها.
في هذا السياق، يأتي السؤال الأول عن الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة في العهد «البوتيني» الرابع، والشخصيات الأخرى، سواء القديمة أو الجديدة، التي سيُدفع بها إلى الحلبة السياسية، لمواكبة المتغيّرات المرتقبة.
على هذا الصعيد، فإنّ دور رئيس الحكومة الحالي، الرئيس السابق ديمتري مدفيديف، يبدو على المحك، فالبرغم من أن الرجل لا يزال يشكل الخيار الأمثل للحفاظ على التوازنات السياسية والاقتصادية، إلا أن تدني شعبيته، على خلفية الأداء الحكومي من جهة، وتحرّر بوتين من ضغوط «النخبة» بفعل الشرعية الشعبية الهائلة التي اكتسبها من جهة ثانية، قد يدفعان باتجاه ترشيح شخصية أخرى، لتولي المنصب، من ضمن الحلقات الضيقة، التي تحيط بالكرملين.
وقد لا يكون صعباً البحث عن خيارات، سواء تعلق الأمر برئاسة الحكومة، أو بباقي مؤسسات الدولة الروسية، وخصوصاً أن المعادلة الحاكمة في هذا الإطار تتجسد في أمرين، وهو أن «لا رجل ثانياً... ولا حتى ثالثاً» في الحكم «البوتيني»، وفق قول مؤلف كتاب «رجال الكرملين» الصحافي المعارض ميخائيل زيغار («لكسبرس» الفرنسية ــ آذار 2018)، وإنّما حلقتان من المقرّبين، إحداهما رسمية، تُسمى «شخصيات يوم السبت»، في إشارة إلى الاجتماع الأسبوعي الذي يضم كبار المسؤولين في منزل بوتين في منطقة نوفو ــ أوغاريوفو، وهي تبدو أقرب إلى «المكتب السياسي» للنظام الحاكم؛ والثانية غير رسمية، وتسمّى «شخصيات يوم الأحد»، في إشارة إلى الاجتماع الأسبوعي الذي يعقد في المنزل نفسه، والذي يشهد نقاشات بين الرئيس الروسي والأصدقاء المقرّبين في عالمي السياسة والاقتصاد.
على هذا الأساس، تبدو مروحة الخيارات واسعة أمام بوتين لاختيار رجال الحكم، من ضمن لائحة موزعة على أربع فئات.
الفئة الأولى تضم «السيوفيكي» (النخبة القادمة من الجيش والاستخبارات) أمثال وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس جهاز الأمن الداخلي «أف أس بي» ألكسندر بورتنيكوف، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية «اس في ار»، ورئيس مجلس الأمن القومي نيكولاي باتروشيف.
أما الفئة الثانية، فهي «دائرة الموالين»، التي تضم مسؤولين مثل رئيس الحكومة ديمتري مدفيديف، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، والمستشار الاقتصادي ألكسي كودرين، والممثل الخاص لرئيس الدولة لشؤون البيئة سيرغي إيفانوف.
وأمّا الفئة الثالثة، فتضم رجال الأعمال، القريبين من بوتين، أمثال إيغور ستيتشين («روسنفط»)، ويوري كافالتشوك («بنك روسيا»)، وغينادي تيمتشنكو («مجموعة فولغا» للإنشاء والنقل والطاقة)، وأركادي روتنبرغ («أس غي أم» للأشغال العامة وخطوط الأنابيب).
وتبقى الفئة الرابعة، الأكثر أهمية في العهد البوتيني الرابع، وتتمثل في ما يسمّى «جيل 2016»، في إشارة إلى الشخصيات التي تولت مناصب مهمة في الدولة الروسية خلال ذلك العام، أمثال حاكم كالينينغراد (غرب) أنطون أليخانوف، وحاكم تولا (وسط) ألكسي ديومين، ووزير التنمية الاقتصادية ماكسيم أورتشكين، ومسؤول الإدارة الرئاسية أنطون فاين، الذي يتردد اسمه بقوّة لتولي منصب رئيس الوزراء، إن تقرر استبدال مدفيديف.




«لا نسعى إلى سباق تسلّح»

خلال اجتماع عقده، أمس، مع المرشحين الرئاسيين الخاسرين، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنّ روسيا لن تنخرط في سباق تسلّح جديد، مضيفاً: «بالطبع، يتعيّن علينا إيلاء القدرة الدفاعية للبلاد الاهتمام اللازم، ومواصلة تعزيزها، (لكن) لن ندخل في سباق تسلح، بل على العكس، سنقوم ببناء علاقات مع جميع دول العالم بطريقة بنّاءة».
وكشف بوتين أن تركيز السلطة التنفيذية مستقبلاً، سوف يكون منصبّاً على «معالجة المشاكل الداخلية للبلاد، وفي المقام الأول ضمان النمو الاقتصادي، وإعطاء اقتصادنا الطابع الابتكاري، وحل القضايا المحددة المتعلقة بتطوير الصحة والتعليم، والعلوم، والبنية التحتية، وعلى هذا الأساس ضمان زيادة رفاهية شعبنا، وهذا هدف أي حكومة (في العالم)، وروسيا ليست استثناء».