ركض القضاة هرباً إلى خارج قاعة المحكمة، فيما حاول رجال الأمن الإمساك بالموقوف «الهائج». لم يُفلحوا في تهدئته، كان أقوى منهم. استمرّ بضرب رأسه بالحائط، فيما كانت الدماء تسيل من أنحاء مختلفة في وجهه. لم يكفه ذلك، فتوجّه إلى زجاج النافذة ليُخرج رأسه عبر الزجاج الذي انزرعت بعض أجزائه المتطايرة في لحم وجهه. الدماء غطّت رأس الموقوف وصدره، وسط صراخ ملأ أرجاء القاعة والأروقة المحيطة بها. هدّد الموقوف الثائر بأنه سيقتل نفسه إن أُعيد إلى سجن رومية. كانت رقبته وبطنه ممزّقان.
عاود العناصر الأمنيون محاولتهم الإمساك به، لكنّ موقوفاً آخر آثر الانضمام إليه. ركض نحوهم، فيما ارتفع صوته في وجه العناصر الأمنيين: «لا تؤذوه». كرّرها أكثر من مرّة، قبل أن يستعيد مشهداً سابقاً أدّاه زميله. لقد أدخل رأسه أيضاً في «الدرفة» الأخرى للنافذة ليُحطّم زجاجها. «حالة الهستيريا التي سادت تلك اللحظات أكبر من أن توصف»، بحسب قول شاهدٍ عيان نقل تفاصيل ما حدث لـ«الأخبار». لقد نفّس الموقوفان عن غضبٍ يعتمل في نفسيهما. أعربا عن إحساسٍ بالظلم. فكلاهما ينتظر حكماً لا يُعرف متى يحنّ القاضي به عليهما.
الحادثة التي حصلت أوّل من أمس في قاعة محكمة جنايات جبل لبنان، الكائنة في قصر العدل في بعبدا، ليست الأولى من نوعها. فالمرات التي يثور فيها جنون موقوفين أمام هيئة المحكمة كثيرة، لكن ميزة ما حصل تنحصر في أنها الأولى بعد التمرّد الذي شهده السجن المركزي، إضافةً إلى أنها الأعنف. الموقوف الأوّل الذي فقد أعصابه يدعى عبد الله ع.، متّهمٌ بجريمة قتل، غير أنه حاصلٌ على إسقاطٍ شخصي من ذوي الضحية. مرّت خمس سنوات منذ توقيفه من دون أن يصدُر حكمٌ في حقه. تقدّم ذووه أكثر من مرّة بطلباتٍ لإخلاء سبيله، لكنّ القاضي ردّها جميعها، باعتبار أن القاضي خوري ملتزمٌ بالقانون لجهة أن قانون أصول المحاكمات الجزائية يسمح له بأمدٍ غير محدّّد من التوقيف الاحتياطي. في حادثة أوّل من أمس، تبادل الانفعال كل من القاضي خوري والموقوف. لقد صرخ عبد الله مطالباً باستبدال القاضي. وجّه إليه اتهامات قاسية. اتّهمه بأنه طائفيّ في التعامل. ردّ القاضي خوري الانفعال بانفعال مشابه، علماً بأنّ عمّ الموقوف سبق أن اتّهم القاضي خوري، عبر قناة تلفزيونية، بأنه متشدّد بانتقائية مع من هم من غير طائفته. ردّ القاضي على الموقوف بأنه سيتنحّى عن قضيّته. رفع الأخير صوته بالصراخ، فما كان من القاضي إلا أن أمر القوى الأمنية بإنزاله إلى النظارة ليحصل ما ذُكر. لقد جُرِح القاضي بالاتهام المسوق ضدّه، علماً بأنه مشهودٌ له بالنزاهة والحيادية واللاطائفية، وفق شهادة محامين وقضاة كُثر، غير أن بعض هؤلاء يرون أن التزام خوري الشديد بالمواد يسبّب ظلماً في بعض الحالات، ما يُعدّ مأخذاً عليه. فبحسب هؤلاء، وُُُضع القانون لخدمة الإنسان لا العكس. انطلاقاً من ذلك، يرى هؤلاء أنّ على خوري أن يطوّع المادة ليُخرجها من جمودها ويُضفي عليها نوعاً من الإنسانية التي تتعزّز عدالة القانون بها.
التمرّد الذي شهدته قاعة محكمة الجنايات لم ينفضّ إلا بعد تدخّل المحامي العام كلود كرم والقاضي أدهم قانصو الذين عملا على تهدئة الموقوفين. وطُلب إلى العسكريين إبعاد السلاح خوفاً من أن تصل يدي الموقوف إليه فتحصل مذبحة. كذلك تدخّل قاضٍ بقاعيّ إلى جانب المحامي العام، إضافة إلى الموقوف صادق م. الذي تدخّل للمساعدة في تهدئة الموقوفين الغاضبين. تبادلوا أطراف الحديث، واستمع القاضيان إلى شكوى الموقوفين. أخبروهما بأنّ ما يفعلانه سينعكس عليهما سلباً من دون تحصيل أي فائدة تُرجى. وعدوهما خيراً إن هما أنهيا احتجاجهما. وافق الموقوفان، وطلب عبد الله تقبيل يد والده ليخرجا بعدها بهدوء من قاعة المحكمة.



لقطة

الشاب الذي شارك عبد الله ع. في التمرّد الذي حصل في قاعة محكمة جنايات جبل لبنان في قصر عدل بعبدا يدعى وسام ح. وهو موقوف بتهمة محاولة اغتصاب منذ سنتين ونصف سنة دون أن يُساق لحضور أي جلسة محاكمة. الموقوف وسام ساند رفيقه عبد الله. أراد أن يتضامن معه عبر ضرب رأسه بزجاج النافذة ليسيل الدم منه، باعتبار أنه يتضامن مع نفسه. فهو يشاطره الشعور بالظلم نفسه. ربما يكون قد أخطأ وارتكب جريمة، لكنه يطلب أن يحاكم. هل يُعقل أن يوقف متهمٌ احتياطياً لأكثر من سنتين دون أن تطأ قدماه أرض المحكمة. لقد صرخ وسام مهدداً بأنه سيقتل نفسه. رفع صوته: «نحن مش كلاب ... حدا يتطلّع فينا». ثار قبل أن يهدأ بعد تدخّل عدد من القضاة ليعود إلى رشده. خرج من القاعة ليصعد في آلية السوق التي ستقوده إلى زنزانته حيث سيجلس منتظراً قدوم موعد الجلسة المقبلة. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن النيابة العامة وافقت على قبول طلب إخلاء سبيل الموقوف وسام ح. الذي سيُبتّ خلال أسبوع.