أنطوانيت جرجس بشارة، اسم قد لا يعني للبعض شيئاً، وربما بعض من يعرفها قد نسي هذه المناضلة الجنوبية، ابنة دير ميماس، التي تعيش اليوم بصمت على ضفاف بحيرة القرعون، حيث بلدة زوجها الزميل والشاعر الياس عبود، الذي رحل قبل سنوات بصمت، تاركاً أثراً جميلاً يحكي قصص النضال الوطني ومطابع الجرائد الثورية.تصرّ أمّ فؤاد على حماية هذا التراث حتى الرمق الأخير، وهي التي قدمت أغلى ما عندها من أجل وطن حر وشعب سعيد، متقدمة الصفوف الأمامية للتظاهرات في الجنوب وبيروت وطرابلس والبقاع، من أجل حقوق العمال والفلاحين وصغار الكسبة، بعدما أصبحت عضواً في الحزب الشيوعي اللبناني أو «حزب الشغّيلة» كما تحب أن تسميه.
انتسبت أم فؤاد، المولودة سنة 1930، إلى الحزب الشيوعي اللبناني يوم كان عمرها 15 عاماً. البيت الذي ولدت فيه كان «شيوعياً» و«والدي الرفيق جرجس كان مناضلاً سرّيّاً منذ الحرب العالمية الثانية في صفوف الحزب، و«دخلنا كلنا، في البيت، أجواء العمل السري وتوزيع المناشير ونقل الرسائل الى الرفاق في الدير (ميماس) وصولاً الى مرجعيون والنبطية». وتضيف أنطوانيت بشارة «بعدما انتسبت الى حزب الشغيلة رسمياً، شاركت في أنشطة وتحركات الحزب في كل لبنان. أول تظاهرة كانت في ساحة البرج ببيروت، من أجل الخبز وكنت حاملة لافتة في مقدمة التظاهرة. حاول شرطي قمعي فضربته بها، واعتقلت لمدة 8 أشهر في سجن النساء، بتهمة محاولة تغيير النظام».
لم يزد الاعتقال الأول أنطوانيت بشارة إلا إصراراً على استمرار النضال والتمسك أكثر بخيارات الحزب الشيوعي، فحين أهدر دمها الرئيس الراحل أحمد الأسعد، يوم كانت توزع مناشير في قرى حولا وشقرا وكفركلا تدعو الناس إلى النضال ضد السلطة والتضامن مع فلسطين وشعبها و«انزعج أحمد الأسعد من نشاطي وحركتي، فقال لجماعتو اللي بيشوف هالبنت يقتلها ويجي لعندي ... تعمل لنا مشاكل وتحرّض الناس». لم تكترث ولم تخف منه ومن رجاله و«لا من عيون السلطة واستخباراتها. كنا نعمل بانتظام والناس تحمينا لأننا كنا في حزب الشغيلة معهم وهم معنا، وأنا اليوم أعلن أنني في الحزب الشيوعي ولا أتخلى عن مبادئه، ولا عن نضال كل الرفاق وإن كنت اليوم غير ملتزمة تنظيمياً».
في سنة 1952، توجهت أنطوانيت بشارة مع مجموعة من «الرفيقات والرفاق» من دير ميماس إلى مدينة طرابلس، كان الحزب ينظم تظاهرة دعماً لرفاقنا في كوريا و«اعتقلت لمدة 3 أشهر، وحين خرجت توجهت فوراً إلى مقر نقابة العمال، لأرى ابن عمي الرفيق فواز بشارة حتى يؤمن لي العودة الى دير ميماس، وهناك تعرفت على الرفيق الياس عبود الذي أصبح لاحقاً زوجي، وصرنا نناضل معاً في الحزب ومع العمال ونساعد عمال المطابع».
وتتابع «رفضت الاقتران بإلياس قبل أن أسأل الحزب عنه، وهو أيضاً سأل الحزب عني، إلى أن تم النصيب وصار نضالنا مشتركاً، وكل فترة نبدل منزلاً حين كنا نلاحظ أن أعين السلطة قد اكتشفته، لأنني وإلياس وبعض الرفاق كنا نوزع مناشير وبيانات وجريدة صوت الشعب الناطقة باسم الحزب».
بعدما تزوجت أنطوانيت بشارة، امتدت ساحات نضالها إلى سوريا حيث كان للحزب نشاط كبير هناك و«اعتقلت أنا وإلياس أكثر من مرة، وفي التحقيق لم أكن أقول إنه زوجي ولا هو أيضاً، وكنا نمشي مسافات طويلة حتى نوفر بعض النقود، فكنت أمشي في كل بيروت، موزعة الرسائل على الرفاق في البيوت السرية، أو لأخذ المناشير من المطابع حيث كان إلياس يهيّئها لي أو فواز بشارة الى أن اعتقلت مرة ثالثة خلال مهرجان دعم ترشيح مصطفى العريس، هذا المناضل المنسيّ الذي لا أحد اليوم يتذكره أو يحكي تاريخه». الاعتقال الثالث ليوم واحد أوجب على أم فؤاد أن تبدأ رحلة أخرى من النضال وهي نقل جريدة «صوت الشعب» سراً من بيروت الى دمشق و«صرت لف الجرايد على جسمي وبعدين ألبس التياب ونطلع دغري على الشام، وفوت على حمام بساحة المرجة شيل الجرايد وبتجي رفيقة بتاخذهن بنفس الطريقة بس اطلع».
تهريب «صوت الشعب» الى سوريا وضع أنطوانيت بشارة تحت خانة الاستفسارات الأمنية من قبل الاستخبارات السورية و«منعت يومذاك من دخول سوريا للاشتباه بتهمة تهريب جريدة منشورات من بيروت الى الشام». وتتابع ضاحكة «حتى كرمال إسبانيا تظاهرنا ببيروت ضد فرانكو، ورفعت ملصقاً عليه صورة فرانكو حاملاً فأساً وتحته الشعب ... كان نضالنا جميلاً، حياتنا كانت مليئة بالنضال «مش معقولي اليوم نبيع حياتنا بقشرة بصلة، لازم نبقى نحافظ على تاريخنا ونضالاتنا».
بعد ثورة 1958 لاحقت السلطة اللبنانية إلياس عبود وزوجته أنطوانيت بشارة: «جئنا الى القرعون واشترينا حماراً وبقرة وصرنا نزرع ونفلح الأرض، وبعدين صار الوضع منيح ورجع إلياس على شغل الصحافة ببيروت، وبقينا نطل كل فترة على القرعون، وصار عنا عيلة وولاد، الى أن جاءت حرب 1975 فتهجّرنا من فرن الشباك الى القرعون بعدما أحرق منزلنا والمطبعة التي كنا نؤسسها في منطقة التباريس».
لم تهدأ أم فؤاد في القرعون، ولم تترك الرفاق وحدهم «صرت هون تابع النضال مع الشباب والصبايا، وكانت المقاومة الفلسطينية في أوج عنفوانها، ونحن بالأساس تربينا على أن قضية فلسطين أولاً، وهي ستبقى عندي أولاً، وقدمت ابني نقولا شهيداً من أجل فلسطين، فهو أخذ خياره بكل اقتناع، وربيت أولادي على أن فلسطين لنا، ومن حقنا أن نقاوم لنحررها. وابنتي فيروز تعيش اليوم في فلسطين مع زوجها».
خلال اجتياح إسرائيل للبنان صيف 1982، أخذت أنطوانيت بشارة تتنقل بين القرعون وبيروت، وتنظم حملات الدعم لمقاومة الاحتلال، وحولت منزلها الى مستوصف لمعالجة الجرحى من المقاومين في القرعون وبيروت و«بعد احتلال القرعون سكنت في بيروت، وصرت أنظم اعتصامات وتظاهرات، وعاشت ابنتي لولا هذه الأجواء وانتسبت الى جبهة المقاومة الوطنية سراً، إلى أن استشهدت سنة 1985 خلال مهاجمتها مع الرفاق موقعاً للاحتلال قرب بحيرة القرعون، ولم أعرف بنبأ استشهادها إلا حين وصلت إلى القرعون». تتابع: «استشهدت لولا، وقامت رفيقة من القرعون بدفن جثتها حتى انسحب العدو بعد أيام، وأعلن الحزب والجبهة عن العملية واستشهاد ابنتي».



أم الشهيدين

لا تنسى أنطوانيت بشارة أن دير ميماس والقرعون وجهان لعملة نضالية واحدة. فـ«الدير جارة فلسطين، والقرعون كانت السباقة في احتضان الثوار والمقاومين ... وسأبقى صامدة في القرعون، هذه البلدة التي يحتضن ترابها ابني الشهيد نقولا وابنتي الشهيدة لولا». وتتابع ضاحكة «لا تعنيني المناصب والمراكز، لن أخون تاريخي ولا تاريخ حزبي».