بدأ الأمر في العاشرة صباحاً. عقدت مجموعة «شمل»، في خيمتها السلمية، قرب تمثال رياض الصلح، في وسط المدينة، مؤتمراً صحافياً، احتجاجاً على عدم طرح قانون الأحوال الشخصية، الذي سلمته الجمعية إلى رئيس المجلس، نبيه بري، على جدول أعمال اللجان المشتركة أمس. وشاركت جمعيات عدة في المؤتمر الصحافي، الذي بدأ سلمياً وانتهى سلمياً. كان أبرز ما دعا إليه أعضاء الجمعية ضرورة إدراج المشروع، في أسرع وقت ممكن، على جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة لمناقشته وإقراره، مستنكرين «التدخلات الجارية لتأجيل وتعطيل إقرار هذا الحق الأساسي الذي تأخّر إقراره عقوداً طويلة». لم يثر ذلك أية مشاكل رغم بقاء بعض المشاركين قليلاً في المحيط. العلاقة جيدة مع قوى الأمن الداخلي، كما يؤكد الناشطون في «شمل». ورغم «نسيان» الرئيس للمشروع، العلاقة بينه وبين الجمعية مقبولة، لكن القانون نام في الأدراج.عندما علم أحد المارة بالتجمع سأل عن سبب الفوضى. عدد العسكريين من قوى الأمن الداخلي والجيش كان لافتاً. قرر الوقوف لمتابعة التطورات. أغراه العدد الكثيف لرجال الأمن، الذي تزامن مع وصول مجموعة من الشباب قادمةً من جهة ساحة الشهداء. بقي الرجل لأنه حبّذ فكرة «قانون الأحوال الشخصية»، من دون أن «يهضم» العدد الكبير للعسكريين لمواجهة عدد بسيط من الناشطين، أقل عدداً منهم بكثير، رغم الإضافة الجديدة المتمثلة في الشبان الجدد. ظن الرجل أن شيئاً ما يحدث في مجلس النواب.
كان ذلك في الحادية عشرة صباحاً. هكذا بدأ العراك الأول، بين مجموعة من الشباب الوافدين، الذين عرّفوا عن أنفسهم بأنهم ينتمون إلى «حملة إسقاط النظام الطائفي». وفي تلك المرحلة، ظل المشهد مقبولاً أمنياً. وقف الشباب في منتصف الطريق والتقط المصورون صوراً تذكارية لهم. ثم تصاعدت الأمور تدريجاً، بعد سقوط أحد المعتصمين على الأرض، قرب الحواجز التي وضعتها القوى الأمنية لسد الطريق إلى البرلمان. وأسعف رجال الأمن الشاب المصاب. وكان واضحاً أن الرائد المسؤول في المنطقة يوجّه تعليمات إلى رجال الأمن بعدم التعرض للمتظاهرين بالعنف. اقتصر الأمر على الطلب منهم التراجع قليلاً إلى الوراء، لإفساح الطريق أمام السيارات العابرة. حصل تداقع بسيط، تلته هتافات معادية للقوى الأمنية. إحدى المعتصمات اتهمت قوى الأمن بأنهم «صهاينة». وبادر أحدهم إلى استعادة حادثة مرجعيون الشهيرة، متهماً «الدرك» بالتخاذل وتقديم الشاي إلى العدو، فيما هم يستقوون على الشباب الآن. حتى إن معتصماً آخر كان يصرخ «تفوو». كل ذلك من دون أن تلجأ القوى الأمنية الموجودة إلى العنف، وقد انضم إليها رجال من الجيش اللبناني، من فوج التدخل، مزوّدين أسلحتهم الرشاشة والعصي الغليظة. ظل رجال الأمن بالقبعات الرمادية والسوداء، يتبادلون الابتسامات التي تضمر الغيظ، منتظرين رحيل المعتصمين.
عاد المتجمعون إلى الوراء، ثم حدث ما حدث. توقفت حركة السير في وسط المدينة، إثر المرحلة الثانية من الصدام. تحول العراك إلى معركة دامية. وجد المعتصمون أنفسهم على الأرض، وعمد رجال الأمن إلى ضربهم بأعقاب البنادق بقسوة. تحول المشهد دراماتيكياً، من اعتصام يقوم به عشرون شخصاً إلى ضرب جماعي، نال من جميع الواقفين من المكان. فقد رجال الأمن السيطرة. وعلى مقربة من خيمة «شمل» التي احتمى أعضاؤها في داخلها، من المطر بدايةً، ثم من جحيم القوى الأمنية ثانياً، سُحق أحد المتظاهرين. حاصره ثلاثة رجال أمن، ضخام الجثة، ضربوه على وجهه بوحشية، فيما كان مستلقياً على الأرض عاجزاً عن الحركة. وحين حاول النهوض عاجله عنصر من «الأشاوس» بضربة على ظهره. في موازاة ذلك، كان رفاق الشاب الذي على الأرض يحصلون على نصيبهم من «السحاسيح» و«التدفيش». لم يعد المشهد طبيعياً، وذعر بعض السيّاح المارة، فهرعوا إلى المنطقة الممنوعة، لكن هيهات أن يساء إلى سمعة الدولة ويشاهد السيّاح التعامل الحضاري لقوى الأمن الداخلي مع المعتصمين. هكذا، دخل السيّاح إلى الطريق المؤدية إلى البرلمان. وتولى سد أحد المنافذ الضيقة، أحد رجال الجيش، الذي فقد صوابه. استلّ بندقيته الرشاشة من آلية للجيش كانت متوقفة إلى جانب الطريق، وبدأ يصرخ في وجوههم: «ممنوع ولا مدني». عرّف أحد الموجودين عن نفسه بأنه صحافي، فشتمه العسكري وطلب منه الرحيل أيضاً. وللمناسبة، وكما في كل مرة، نال الصحافيون حصتهم. فقد استلّ أحد العسكريين بندقيته، وهجم ببطولة منقطعة النظير على أحد المصورين الصحافيين، صارخاً في وجهه: «ضب الكاميرا وليه». وبعد أخذ وردّ مع المصورين، حاول بعض رجال الأمن التوضيح أن العسكريين الذين تعرضوا للمصورين خالفوا أوامر الرائد المسؤول، لكن ذلك لا يعني شيئاً، فقد كُسرت كاميرا الزميل بلال حسين، من وكالة «الأسوشييتد برس»، وتعرض له رجال الأمن بالضرب. وفي بيان له، أدان «اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني» الممارسات البوليسية بحق الشبان، مطالباً بإطلاق سراحهم فوراً.
انتهى النهار الربيعي باعتقال 11 شاباً بعد ضربهم في وسط العاصمة. صحيح أن الشباب نجحوا في استفزاز القوى الأمنية، لكنهم لم يعرفوا أن هناك شاحنة ضخمة، ستقلّهم بعد الحادثة إلى مخفر البسطة (الباشورة). وفي داخل الشاحنة، حيث حُشر المتظاهرون، الذين بدت آثار الدماء على وجوههم وملابسهم، ظل صراخ إحدى الفتيات المعتقلات مسموعاً، بعد الصفعة القوية التي وجّهها إليها أحد العسكريين الموتورين. أما الرجل الذي كان يسأل عن قانون الأحوال الشخصية، فاختفى ولم يبقَ له أيّ أثر في المكان.