أسامة الخالدي *
هناك اعتقاد سائد بأن العلم والتكنولوجيا وجهان لعملة واحدة، وهذا واضح من الأعداد الكبيرة للمؤسسات العربية المسماة «مؤسسة» العلم والتكنولوجيا. هناك فروق كثيرة بين العلم والتكنولوجيا: فالقصد من ممارسة العلم هو زيادة المعرفة الإنسانية، والناتج من هذه الممارسة اكتشاف ينشر كمقالة علمية تدخل في المختصرات الدولية، بينما يمكن أن نعرّف التكنولوجيا بأنها منظومة مبنية على العلم والمهارة لإنتاج سلعة أو خدمة ذات مردود اقتصادي، أي إن الناتج منها هو المردود الاقتصادي، ولذلك تحتاج التكنولوجيا الجدّية إلى تسويق. ويمكن اعتبار براءات الاختراع تكنولوجيا، إذ إن القصد منها حرمان الغير المدخول الاقتصادي من الاختراع إلا إذا أعطى المخترع حصته.
ينشر العالم العربي حوالى عشرين ألف مقالة علمية في المجلات التي تدخل في المختصرات الدولية، ويمكن أن نستند إلى هذا المؤشر لقياس كمية العلم في العالم العربي. في الوقت نفسه نجد أن عدد براءات الاختراع العربية محدودة جداًَ، والبراءات التي تُسوَّق يمكن عدها على الأصابع، فالعلم في العالم العربي نادراً ما يتحول إلى تكنولوجيا. وهذا دليل على خطأ الاعتقاد بحتمية تحويل العلم إلى تكنولوجيا الذي ينتج منه القرار بدعم العلم الأساسي مع الاعتقاد بهذه الحتمية.
العلاقة بين العلم والتكنولوجيا هي في الاتجاهين، فلولا تطور تكنولوجيا حقل العدسات الزجاجية في هولندا لما كان هناك ميكروسكوب أو تلسكوب، أي لا علوم حياتية أو فلكية.
كذلك، إن تقدم العلوم جميعها حالياً اعتمد على الأجهزة الحديثة التي تبدو بدورها تعتمد على تكنولوجيا الإلكترونيات، كما يعتمد تطور الإلكترونيات على تطور علم الفيزياء والنانو.
والتكنولوجيا يمكن أن تتطور إلى مخزون العلم العالمي، ولا ضرورة أبداً لأن تعتمد على علوم أساسية ناتجة من المؤسسة نفسها أو البلد نفسه. فاليابان طوّر تكنولوجيات متقدمة قبل تطوير العلوم المتقدمة فيه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا يحصل للعلم الناتج من أبحاث العالم العربي؟
قامت إحدى طالباتي بدراسة نحو خمسمئة مقالة علمية أساسية عربية، ونظرت إلى المراجع التي تستعملها هذه المقالات، ورصدت الباحثين الذين يرجعون إلى المقالات العربية، فاكتشفت أن أكثر من 95% ممن يرجعون إليها هم من غير العرب، كما أن 95% من مراجع المقالات العربية هي مراجع أجنبية. إذن هناك علوم عربية مبعثرة، إذا نشأت عنها فائدة فهي للعلوم الأجنبية. بمعنى آخر، نحن في طور التبعية العلمية.
ولأن العلوم العربية نادراً ما تتحول إلى تكنولوجيا ولا تفيد العلماء العرب الآخرين، لا يرى المجتمع العربي، بما فيه الحكومات والصناعة، فائدة من أبحاث علمائه، وهذا هو السبب في أن تمويل البحث العلمي العربي لكل عالم هو أقل من أي مكان آخر في العالم، بما فيه الدول الفقيرة. (طبعاً عدد العلماء العرب أكبر نسبياً من علماء الدول الفقيرة)، لكن لماذا لا يلجأ العلماء العرب إلى تحويل ما يمكن تحويله من العلم إلى تكنولوجيا؟ العقبة الأولى هي في العقلية السائدة بين أساتذة الجامعات، حيث يوجد أكثر الباحثين العرب، فهم يركزون على الأبحاث في العلوم الأساسية أو خدمة العلم الشريف، إذا شئنا أن نسميها ذلك. وتشجع على ذلك أنظمة الجامعات التي وضعت في أوائل القرن العشرين والتي قصدت أن يتفرغ الأستاذ للتعليم والبحث الأساسي والتي نقلت من جامعة إلى أخرى، وكمثال فإن النظام في إحدى الجامعات ينص على أن الأستاذ لا يسمح له بأداء استشارة أو خدمة خارج الجامعة إلا بإذن من رئيس الجامعة، وشرط أن لا تكون لهذه الخدمة أو الاستشارة علاقة بعمله في الجامعة. أي إننا نسجن الباحث في برج عاجي خارج مجتمعه.
لقد بدأت بعض الجامعات العربية بتعديل أنظمتها، لكن الطريق لا يزال طويلاً أمامها لتصل إلى مستوى الأنظمة المعتمدة في الدول الغربية. لقد كانت أنظمة الجامعات الغربية قريبة من أنظمتنا، لكنها تطورت جذرياً منذ أواسط القرن العشرين بحيث أصبحت تشجع الباحثين على تطوير تكنولوجيات، وحتى على إنشاء شركات. وحتى ولو تقدمت هذه الأنظمة، فإن التراث المتراكم يقف حاجزاً أمام تحويل طريقة تفكير الأساتذة.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن الأمور المساندة لهذا التحويل شبه مفقودة إذ يندر وجود شركات تسجّل وتسوّق براءات الاختراع وتشحّ الرساميل المغامرة. حتى البنوك العربية غير مستعدة لتقديم سلفة بدون رهن عقاري ولا حتى لشركة قد جمعت ثلاثة أرباع رأسمالها وتنوي الاستثمار في التكنولوجيا.

* رئيس المركز الوطني للتكنولوجيا الحيوية في عمان