حتى حين يكتب الرواية، لا يبتعد عبد الفتاح كيليطو عن صورته كباحث، التي ألفناها في أعماله العديدة. ليس باحثاً في التراث ـــــ فهو ينفي عن نفسه هذه الصفة ـــــ بل باحثاً في الأدب، وفي الكتب التراثية الشهيرة، ومتمحّصاً في قضايا الترجمة والقراءة.بطل روايته «أنبئوني بالرؤيا» (الآداب ـــــ ترجمة عبد الكبير الشرقاوي) هو صورة عنه وصنوه. العمل هو ترجمة عن الأصل الفرنسي لرواية Dites-moi le songe الصادرة العام الماضي عن دار «سندباد ـــــ آكت سود»، وقد اختار المترجم عنوانه العربي. يمتهن البطل/ الراوي التدقيق في التفاصيل العابرة، تماماً كالباحث المغربي الشهير. يروي لنا في مستهلّ الرواية كأنّه اكتسب عادة القراءة في الفراش، منذ اكتشافه «ألف ليلة وليلة»، يشير إلى أنّ الكتاب كان في طبعة بيروت، المسمّاة أيضاً الكاثوليكية. وهذا التمحيص في الأصل، هو عادة فكرية أثيرة على منهج كيليطو في مجمل أبحاثه ومحاضراته. في روايته هذه مثلاً، يعثر الراوي على نص غير منشور في كتاب «ألف ليلة وليلة»، لا في طبعة القاهرة ولا في طبعة كالكوتا. يقودنا الراوي والمؤلف في رحلة مشوّقة للبحث عن أصل ذلك النص، مورداً سلسلة فرضيات تؤكّد أنّ ذلك النص هو بالفعل جزء من «الليالي». يبحث عن هوية مدوّن غامض، كتب ملاحظة على المخطوط المجهول. ثمّ يميل إلى الاعتقاد أنه أميركي أو بريطاني، لأن الأميركيين والبريطانيين هم وحدهم من يدعون «ألف ليلة وليلة» بـ «الليالي العربية». كأنّنا بعبد الفتاح كيليطو، يتمّم بواسطة الخيال هذه المرة، كتبه وأبحاثه السابقة.
في«أنبئوني بالرؤيا»، يُدعى الراوي/ البطل إلى الولايات المتحدة الأميركية، بفضل «الليالي». فقد سبق أن نشر بحثاً في إحدى المجلات لنيل شهادة الماجستير في موضوع «النوم في ألف ليلة وليلة». أوصى أستاذه المشرف «ك»، بنشر النصّ في إحدى المجلات العلمية المعروفة، هو الذي لم يكن يتخيّل، حتى في أحلامه، أن يرد اسمه في فهرست تلك الدوريّة الرفيعة. في أميركا، يستقبله الباحث الدكتور مايكل هامويست وزوجته، وتبدأ شخصيته بالتكشّف أمامنا: فهو مدخن شره، ومرتاب، إنكليزيته ضعيفة، لكنّ ثقافته واسعة ومتنوعة، لا يوفر فرصة لإظهارها. ما إن يلج بيت هامويست ويرى جدران غرفة الاستقبال مكسوّة بالكتب، حتى يعلّق قائلاً إنّها مكتبة بورخيسية، فيثير انتباه الزوجة ذات الثقافة الإسبانية. ثمّ يستدرجهما إلى نقاش أدبي غزير، يبدأ بتأثير «الليالي» على الكثير من كتّاب أميركا اللاتينية، أمثال بورخيس، ومانويل سكورزا... مع التبحر في عالم الأدب، تدخل امرأة رائعة الجمال اسمها إيدا (أو عايدة). كان بوده لو يهمس في أذنها، ويمنِّيها بأشياء تجعلها تنساق وراءه.
ومنذ ذلك اللقاء، يبدأ بحثه المحموم عن سرقة قلبها العصي. وبدا المثقف المتبحِّر حائراً، جاهلاً، صغيراً أمام لغة تتكلمها امرأتان أمامه، من دون أن يفهم ما تقولان. صار النوم مستعصياً عليه، وعندما غفا صار ينطق باسمها مرات عدة وبصيغ شتى: إيدا، أدا، عايدة. أما هي، فترفض إقامة علاقة مع الرجال منذ قراءتها ـــــ وهي مراهقة ـــــ رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير، لكنّ البطل يبقى مغرماً بإيدا، لا يشغله عنها إلا البحث عن سبل لنشر مقالته حول النص غير المنشور في «ألف ليلة وليلة» الذي عثر عليه. وبعد عودته إلى الوطن وانشغاله بتأليف كتاب عن «الليالي»، أو الإشراف على أطروحات، منها أطروحة بعنوان «الجنون الثاني لشهريار» لطالبه إسماعيل كملو، الذي سلمه تقريراً عن الأطروحة واختفى، ثم عاود الظهور في عواصم عديدة، إيدا أيضاً تعود لتظهر من جديد.
لم يبتعد كيليطو في روايته «أنبئوني بالرؤيا» كثيراً عن بحثه الأكاديمي الأثير في ميدان التراث العربي، وتحديداً نصوص «ألف ليلة وليلة»، و«الإمتاع والمؤانسة»، و«رحلة ابن بطوطة»... ولا يمكن كيليطو أن يذكر هذه المتون في نصه السردي، من دون أن يطرح حولها الأسئلة والشروح والفرضيات المدهشة. يأخذنا على هامش العمل الروائي، في رحلة مشوّقة جنباً إلى جنب مع نظريات رولان بارت، وميشال فوكو، ومترجمي «ألف ليلة وليلة».