strong>أمس بكى لبنان كلّه جوزف سماحة. كادت تلتقي في جنازته التناقضات، ولبس عليه الحداد أصدقاء وزملاء وسياسيّون من مواقع متواجهة. فقد كان جوزف، على صلابة قناعاته السياسية، وتماسك خياراته ومواقفه، يحسب للرأي الآخر حساباً، ويحرص على مساجلته ضمن إطار اللعبة الديمقراطيّة التي طالما احترم أصولها. ما يمكن أن نقوله لقرّائنا في هذا اليوم الصعب، هو أننا سنواصل حلم جوزف سماحة حسب المبادئ التي وضعها، وسندافع عن مشروعه الأغلى: جريدة «الأخبار»


FONT SIZE="+2">اللقاء الأخير بالرجل الذي قرر الرحيل فجأة

غسان سعود

الأحد 4 آذار 2007، الثانية عشرة ظهراً، موعد اللقاء الأخير مع جوزف سماحة. يرفع العلم الشيوعي عن النعش بعد أن التحف به منذ لحظة وصوله إلى مطار بيروت، وتُفرج القبضات عن الأصابع لتكتب بالورود لمسات حارة رغم صقيع الرحيل. إنه جوزف سماحة، وتتدافع الأسماء، والصفات. لكن قبل أن يخطفه محبوه كل إلى زاويته، يتحرك الأصدقاء، يوزعون مقاله الأول في «الأخبار» تحت عنوان «توقيت صائب» المكتوب بخط يده. ويعلن الأصدقاء عن رفيق اختير لمرافقة جوزف في اللقاء الأخير، اسمه محيي الدين ابن عربي ليحرس القبر بعبارة قاسية، كمقالات جوزف، تؤكد أن «كل شوقٍ يسكن باللقاء لا يُعوَّل عليه».
هلا لا تبكي، تشرف على الترتيبات، تريدها جنازة ملكية للصديق الأقرب في السنوات الأخيرة. توزع الورود و«التوقيت الصائب»، تعلن حاجتها بين ساعة وأخرى إلى ضمّة، إلى قليل من الحنان، وكثير من الحب الذي كانت تجده في عيون جوزف. يحيط بها الشباب، جيل سماحة الجديد الذي لم يبلغ شهره التاسع بعد. وبين الموجودين والغائبين، يروح ويجيء بيار أبي صعب، مخفياً قلقه وخوفه وحزنه خلف ابتسامة، وضمات يوزعها على عشاق جوزف مرفقة بأسرار عما أرادهم جوزف أن يعرفوه، بحسب قوله.
«من جيل الهزيمة الذين لم يهزموا»، يقول عزمي بشارة في وصف صديقه. يشعر بشارة بهزيمة في «عاصمة الانتصار»، يبحث بين الوجوه عن ابتسامة، يضم الأصدقاء، ويبكي معهم في سره. يخوض المجتمعون صراعاً ضد البكاء، يحاولون احتجاز الألم، والابتسامة ليقولوا مع زياد الذي حضر باكراً، إنهم ضد الرثاء الذي يُفعل لشخصٍ مات، فيما العمل كثيرٌ جدّاً، ولا حاجة إلى البكاء.
عادت بيروت، فلسطين هنا، مصر، العراق، وليد نويهض البحرين، نجوى قصيفي اليمن، عبد الوهاب بدرخان قطر، المخرج السينمائي إيليا سليمان، وأصدقاء جوزف الباريسيون من هاشم معاوية (صاحب مكتبة ابن سينا في باريس) إلى مصطفى البسام ومروان بشارة. يحيط الرفاق بعضهم ببعض، يتعانقون، فواز طرابلسي، حسن الشامي، محمد بنجك، زهير رحال، حازم صاغية، حسن داوود، غسان عيسى، طلال سلمان. وتتسع الدائرة أكثر، يُهرب المثقلون بنكبتهم بعض الدموع، تفقد كارمن لبس قدرة السيطرة، تخسر التحدي، تلجأ إلى زاوية، تردد كلمات غير مفهومة. ربى اسماعيل تسرق لمسة للنعش، ثم ترجع يدها بسرعة إلى صدرها، كأنها تريد أن تحفظ تلك الرعشة في قلبها، وتمضي كأنها ولدت من جديد.
هنا كل الأصدقاء، الرفاق وغير الرفاق، كأنها جلسة نقاش أخرى من جلسات جوزف، رفعت النسر، جورج دارليان، شربل داغر، حبيب يونس، غانم بو غانم، سليمان تقي الدين. وأهل المسرح لهم مساحتهم أيضاً، نضال الأشقر، أنطوان كرباج، ورفيق علي أحمد.
تفوح رائحة اليسار من مطرانية بيروت للروم الكاثوليك، فنانو اليسار وكتّابه ومسرحيوه تداعوا إلى بيروت، لوداع والد الجيل اليساري الجديد كما يقول أحد محبي سماحة. زياد الرحباني، خالد الهبر، خالد حدادة ورفاق جوزف في منظمة العمل الشيوعي. قليلون يصرخون لسماحة ويوصونه السلام على سمير قصير. كأنها رواية واحدة، وتوقيت غير صائب واحد.
لا مفرَّ من صوت مرسيل خليفة، بالأحمر كفناه، بالأبيض كفناه، بالأخضر كفناه. عادت فلسطين إلى بيروت بعد طول غياب، يقول أحدهم. ويعود الحاضرون إلى مرسيل ليرددوا معه: «منفلفش الجريدة، ومنقرا الجريدة، ومنسأل الجريدة، اِسمك وينو؟»
يسأل الناس، والغصات تملأ حناجرهم، من سيبسّط لهم أعقد الأفكار وأبسط الأحداث. أو من يُعوض لهم فرصة التعرف على جوزف أو التتلمذ على يديه أو الانشغال بفهم نظراته. كلمات فلسطين جزء من الجنازة، تبعث حيفا برسالة تقول إن الحلم طُوق مثل القلم والرأي والأفق، حيفا، توأم بيروت، مثلها مطوّقة، وأهلها يأملون لو يشعلون شمعة إلى جانب صورة جوزف ليقولوا له، حتى لو لم يسمعهم: شكراً، شكراً لذلك القلم الذي لم يترك فلسطين وقضيتها يوماً واحداً في زمن «الاعتدال».
وبين هذا وذاك، تطل صبية بابتسامة «سماحية» بامتياز، تحاول بدفق الحنان الذي يملأ عينيها أن تقول للمجتمعين حولها، عوّدنا اجتياز الخطوط الحمر. هذه أمية جوزف سماحة، لا تندب أمية، لا تنهار، ولا تصرخ. حين يشتد ضيقها، تحرك أصابعها داخل كفها، وتبتسم بحزن. تتحرك بخفة بين الحاضرين، تسرق بضع ثوانٍ، تغادر قاعة المعزين، تتفقد النعش بنظرات رقيقة، تمرر يدها فوق الورود، تخطف واحدة، وتعود إلى مكانها. قرب شقيقها زياد، الرجل المختبئ خلف نظارة سوداء، كأنه ورث الحياء عن والده، فينزوي خلف الزجاج الأسود في هذه اللحظة الحرجة، وحيداً رغم صخب المحيطين به. يعبر وسط الجمع، كأنه يطير فوقهم، يلجأ إلى إحدى الزوايا، يستجمع أنفاسه، يتناول قليلاً من الماء، يسأل عن هوية بعض الوجوه، ويتابع.
جوزف الفالت من زواريب الطائفية مُسجى في قاعة الكنيسة، سامر ابن شقيقه يرتدي ثيابه الكهنوتية، يقف قبالة العم الذي رباه، ويسأل ربه بصوت عال كيف يرحل جوزف؟ تقترب الساعة من الثالثة، يصل خالد صاغية، يدل الحاضرون عليه قائلين هذا أقرب المقربين إليه في الكتابة. يجلس خالد في المقعد الثالث، خلفه سحر مندور تتكئ على صديقه فادي بردويل، الأستاذ الجامعي. عيونهم تحدق إلى النعش، إلى الابتسامة الفريدة للرجل الذي قرر الرحيل فجأة، دون أن يُخطرهم. يقاوم هذان الشخصان الحزن التقليدي، يريدانه حزناً يشبه جوزف، رقيقاً، هادئاً، أشبه بالتحدي، اجتيازاً للخط الأحمر وحفاظاً على الأعصاب والانفعال.
يرفض الكاهن رفع صور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر فوق النعش، فبقيت دونه جنازة جوزف ناقصة. الكل في الكنيسة، يحتشد، يلقي النظرة الأخيرة على النعش، رغم قرار عدم فتحه. يبدو زياد الرحباني مشتت الذهن، بعيداً، يقبض على تمتماته. بيار ينزوي في الصفوف الخلفية، يأكل أظفاره، يبتسم مجدداً. ينهار البعض، تمام مروة ومي مكارم تتعانقان وتفرجان عن بعضٍ من الدموع الكثيرة المحتجزة حتى وقت لاحق. جورج ناصيف وفواز طرابلسي يتعانقان ويبكيان أيضاً. يعلو صوت من الخارج، «غادر الرفيق». فيتردد صداه في القاعة. في القاعة وجوه تبحث عن أسئلة، كيف استطاع هذا الشخص «غير الاجتماعي» أن يجذب كل هؤلاء تسأل رولا ثلج، فيما يبدو عمر نشابة كمن يعانق شوكة من الأسى.
يسأل الكاهن «أين شوكتك أيها الموت وأين غلبتك أيتها الجحيم؟»، فيرد الحاضرون بدموع سخية، وصلوات فردية. شيوعيون ومسيحيون ومسلمون وقفوا خاشعين للنعش، لابتسامة صاحب النعش، وصلوا، كل بطريقته، مستعيدين صوراً لجوزف وأحاديث كان هو جزءاً منها أو محورها. «تأتي العبارات في البداية مفكّكة. أضغاث جمل، نثار أحلام، صوراً تتدافع في كل الاتجاهات، تكرّ أمامي فلا أعرف أيها أختار»، يقول بيار. يجد بيار نفسه عارياً وسط هذه الغابة. يشعر بأن جوزف، ملكه الخاص، بات ملكاً للجموع.
ينهي الكاهن عظته. تتدافع الجموع، تريد أن تودع الرجل المؤثر فيها. تقترب أميّة، تنحني برقي فوق النعش، تقبله بهدوء، وتختفي في ضمة قريبها الوزير السابق ميشال سماحة. يتردد ابراهيم الأمين في الاقتراب من النعش، يبدو الرجل خائفاً من الرحيل المفاجئ لصديقه، فيما يقبل زياد الرحباني الصورة ويبتعد.
يُرفع النعش على الأكتاف، يحمله الجيل الجديد من صحافيي جوزف سماحة وينطلقون به صوب المقبرة. سيدفن القلم، يقول أحدهم. قليل من البكاء، ثم يرد آخر «وحده القلم لا يقبر»، تحتشد الوجوه الحزينة في مساحة ضيقة، يرمون الورود على نعش رجل أحبوه كثيراً، يفرض الصمت نفسه. إنه «الوداع الأخير»، توصية أخيرة من نوال طرابلسي «سلّم على سمير (قصير) ومارون (بغدادي)». يدفع النعش في المدفن، وصية أخرى «نعدك بانتصار فلسطين والمقاومة»، تطلق قيود الدموع، مرفقة بالورود. يضع أحدهم بعض «السيليكون» ثم يغلق المدفن بشاهد ابن عربي، فيما الورود والأدعية تنهمر. كثيرون لا يصدقون، فيما بيار فرح لأن جوزف، الذي يخاف من البرد، سيفرح بهذا اليوم الربيعي، الرقيق النسمات.



محبّو «حلمه» واكبوه إلى مثواه الأخير الكثيرون خرجوا وراء كلماته إلى هجعته الأخيرة.. نعشه الضوئي تقدّمه ممثلو الرؤساء الثلاثة: وزير البيئة المستقيل يعقوب الصرّاف ممثّلاً رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، النائب ابراهيم كنعان ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، محافظ الشمال وبيروت (بالوكالة) ناصيف قالوش ممثلاً رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. كما شارك في التشييع: الرئيس حسين الحسيني، وزير العمل المستقيل طراد حمادة مترئساً وفد «حزب الله» الذي ضمّ: النائب أمين شري، مسؤول العلاقات الإعلامية حسين رحال، المدير العام لـ«إذاعة النور» يوسف الزين ورئيس تحرير جريدة «الانتقاد» إبراهيم الموسوي، ممثل وزير الإعلام غازي العريضي مستشاره خليل خوري، ممثلة وزير الإعلام السوري محسن بلال مديرة مكتب وكالة «سانا» نهلة كامل ، نائب فلسطين المحتلّة عزمي بشارة (حضر خصيصاً للمشاركة في التشييع).
كما حضر النواب: إدغار معلوف ممثلاً رئيس «تكتّل الإصلاح والتغيير» النائب ميشال عون، عاطف مجدلاني ممثلاً رئيس «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري، بهية الحريري، إسماعيل سكرية، ميشال المر، بيار دكّاش، نبيل نقولا، عباس هاشم، آغوب بقرادونيان وعبد الله فرحات.
وشارك الوزراء السابقون: ميشال سماحة، محمد عبد الحميد بيضون، بشارة مرهج، عصام نعمان، الفضل شلق وجوزف الهاشم، والنواب السابقون: جميل شمّاس، نجاح واكيم ومنير أبي فاضل، السفير عبد الله بو حبيب، ممثل «منظمة التحرير الفلسطينية» في لبنان عباس زكي، نقيب الصحافة محمد البعلبكي، ممثل رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ، نائب الرئيس إبراهيم عوض، ناشر ورئيس تحرير صحيفة «السفير» طلال سلمان، رئيس الرابطة المارونية الوزير السابق ميشال إده، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة ونائبه سعد الله مزرعاني، رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» كريم بقرادوني، وفد من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» برئاسة مروان عبد العال، الأمين العام لـ«اتحاد الشباب الديموقراطي» عربي العنداري، المستشار السابق للرئيس الشهيد رفيق الحريري داود الصايغ، رئيس تحرير جريدة «الجزيرة» عبد الوهاب بدرخان، المدير العام في «دار الحياة» رجا الراسي، مدير التحرير أنطوان عبد المسيح، رئيس التحرير السابق جورج سمعان، رئيس تحرير مجلة «الوسط» البحرينية وليد نويهض ورئيس تحرير مجلة «لها» مطر الأحمدي.
كما شارك أيضاً الفنّانون: نضال الأشقر، زياد الرحباني، أنطوان كرباج، رفيق علي أحمد، وفد من المخرجين السينمائيين الفلسطينيين برئاسة ميشال خليفة، وفد من كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، إضافة إلى حشد من ممثلي الوسائل الإعلامية المحلية والعربية والأجنبية، ولا سيما منهم من أتى من دول الخليج وأوروبا للمشاركة في التشييع.
وعند الساعة الثالثة ظهراً، أقيمت لنفس الراحل صلاة الجنّاز الوداعية، في مطرانية أبرشية بيروت للروم الملكيين الكاثوليك، رأسها ممثلو بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام، مطران بيروت وجبيل وتوابعهما يوسف كلاس، المعاون البطريركي السابق سليم غزال، ومطران صور السابق يوحنا حدّاد.
ومن وحي المناسبة، ألقيت بعض الكلمات التي اقتضاها فعل موت جوزف سماحة. فبعد كلمة لميشال سبع تطرّق فيها إلى بعض مزايا الراحل «رسول جديد للصحافة في السماء»، نقل أمين سرّ البطريركية الأب الياس شتوي، باسم البطريرك لحام، التعازي «الأبوية القلبية» لعائلته والأقارب والأنسباء والأصدقاء وأسرة الصحافة اللبنانية التي «كان أحد أبرز أصواتها»، حيث إن رحيل سماحة جاء في «زمن الحاجة الى الكلمة والرأي الأبيض»، داعياً الى ضرورة «رفع الصلوات الحارة لأجل لبنان، ولأجل مستقبل أفضل لجميع اللبنانيين».
بدوره، أشاد المطران غزال بمزايا الراحل «رجل الموقف الشجاع والالتزام بقضايا الإنسان والوطن.. الصحافي الملتزم والمنسجم مع ذاته ومبادئه.. المحترم للآخر وحقه في الاختلاف.. المواطن اللبناني الذي خرج من الطوائف وحمل قضية الإنسان أينما كان، مدافعاً عن العدالة الاجتماعية وحرية الكلمة.. آمن بلبنان الوطن، وعمل على تأسيس المواطنية في صفوف كل من عرفه وقرأه وآمن بأفكاره.. تظهر آدميته في كل تفاصيل حياته اليومية»، والذي في غيابه «انسلاخ في الوجدان وواقع الحياة، إذ خرّج ثلاثة أجيال من الصحافيين، تاركاً بصماته في كل من عرفه».
وبعد الصلاة، قلّد الصرّاف الراحل سماحة وسام الاستحقاق اللبناني الفضّي، باسم رئيس الجمهورية، تقديراً لـ«عطاءاته من أجل لبنان».
ووسط التصفيق ونثر الورود التي جلّلت موكب التشييع، وعلى وقع الصلوات والتراتيل، حمل زملاء ورفقاء وتلامذته في «الأخبار» نعش جوزف سماحة الى مثواه الأخير في مدافن طائفة الروم الكاثوليك (رأس النبع).. ودّعوه، وفي خاطرهم صورته والذكريات.. كلماته وحكايات الدرب الطويلة..
وقد وضعت أكاليل على نعش الراحل، أرسلها كل من: رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، النائب سعد الحريري، وزير الإعلام السوري محسن بلال، سفير اليابان في لبنان، مدير وكالة «سانا» عدنان محمود، مديرة مكتب وكالة «سانا» في بيروت نهلة كامل، المؤسس والأمين العام السابق لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» جورج حبش، نقابة الصحافة اللبنانية، نقيب المحرّرين ملحم كرم، وكالة الصحافة الفرنسية، الحزب الشيوعي اللبناني، حركة الشعب، التيار الوطني الحرّ (قطر)، مدير قناة «العربية» عبد الرحمن الراشد، إدارة وموظّفي قناة «العربية»، المجموعة اللبنانية للإعلام، جريدة «النداء»، رئيس تحرير صحيفة «المستقبل» هاني حمود ورئيس هيئة الصندوق المركزي للمهجّرين فادي عرموني.



هنا يرقد جوزف سماحة

رنا حايكلم يكن يتقن في حياته المسائل اللوجستية. لم يحسب حساب الجسد الذي سيشرّح، وينقل من عاصمة الضباب إلى بيروت. كالعادة، أوكل هذه المهمة لصديقته هلا. هذه المرة، لم يكن عليها ملء بيانه الضريبي للحكومة الفرنسية، أو غيرها من المسائل. كان عليها أن تبحث له عن مرقد. استجمعت قواها لتسهر على مختلف الترتيبات لرحلة جوزف الأخيرة.
ما زالت هلا بجّاني، المديرة العامة لجريدة “الأخبار”، تذكر الحديث الذي دار بينهما قبل أيام من سفره. تطرقا إلى الموت وتحدثا عن ترتيباته، وكيف أنّ هناك من يوصي بترميد جثته. “فكرة جميلة” قال، لكنه أضاف: لا يهم أين يرقد الجسد. كان هذا قبل الوفاة، أما بعدها، فهو مهم. أين يرقد جسد جوزف الذي لم يفكّر يوماً في امتلاك الأراضي؟
بدأت رحلة البحث عن مكان يحتضنه. مكان يرتاح فيه. وأي مكان غير حضن والدته التي تحسّر لموتها وهو بعيد عنها. حدث ذلك في أواسط الثمانينيات، عندما أدّت كتاباته عن حرب المخيّمات إلى منعه من دخول بيروت. توسّط له حينها قريبه ميشال سماحة ليمضي بضعة أيام إلى جانب أمه المريضة، لكنها لم تغمض جفنها للمرة الأخيرة إلا بعدما غادر.
سيسيليا التي عاش جوزف كل حياته يبحث عن وجهها في وجوه النساء اللواتي قابلهّن، ماتت خلال الحرب ودفنها الأصدقاء في مقبرة “مار الياس بطينا”. هناك، بمحاذاة المخيم الذي أرّقه في حياته، وحيث ترقد الأم التي لم يتسنّ له وداعها، يكثر الأموات. يكثرون إلى درجة تعذّر معها إيجاد مساحة تحتضن جسد جوزف.
أين إذاً؟
الخنشارة مسقط رأسه؟ لم تعد قريته منذ زمن بعيد، يوم جرّت سيسيليا طفليها اليتيمين بعد موت زوجها ورحلت. المينا في طرابلس حيث دفن أخوه وليد؟ طرابلس بعيدة وجوزف يحب العاصمة بصخبها ومركزيتها. لكنّ العاصمة بيروت ازدحمت بالأموات. المساحة الوحيدة التي وجدتها هلا، كانت في مدافن مطرانية بيروت للرّوم الكاثوليك. مساحة ستسع رفاته ورفاة والدته، إذ يؤتى به من مقبرة مار الياس. المسافة ليست طويلة... من مدفن بمحاذاة المخيم إلى منطقة الناصرة في طريق الشام حيث “مدفن رأس النبع”. لعبة ماكرة من ألعاب المصادفات...
يبقى شاهد القبر وما سيكتب عليه. مهمة لا تبدو أقل سهولة. أن تجد جملة تعبّر عن جوزف وخطّه الأحمر وحياته التي عاشها بشغف وقامت على الترحال. جوزف الذي قضى عمره في ترحال دائم وانسحابات سلسة وهادئة، يرحل دوماً من دون مقدمات ومن دون تحضير مسبق كما يقول صديقه ابراهيم الأمين. هذا هو أسلوبه في الانسحاب أكان من مؤسسة يعمل فيها أم من حياة امرأة أحبّها أم من وطن يعشقه.
حار الأصدقاء في اختيار الجملة. اقترح بعضهم جملة “أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان” للإمام علي بن أبي طالب لأن محبّي جوزف كثيرون، لكنّ “العجز” الذي تبدأ به الجملة يوحي بانهزامية لا تشبه جوزف. تشاوروا في جملة “نَفَس المرء خُطاه إلى أجله”، إلا أن الموت الذي يخيّم عليها لا يشبه روح جوزف التي لن تموت. الروح التي لم يشبع منها أحد، فظلّت وستظلّ محل شوق عبّر عنه ابن عربي حين قال: “كلّ شوق يسكُن باللقاء لا يعوّل عليه”. لقد وجدها الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي...



سهرة أخيرة مع أبو الزوز


بارد بلاط الكنيسة والفراشات لا ترتدي خفّاً
زياد عبد الواحدلكنّ الشؤم هناك. أن يكون قاربك عارقاً في عربة فارهة. أن تبحر فيما كرهت. ليست عربة الموت الفارهة بحيرتك، هذا شؤم، وقد اكتمل القمر، فقم. هذه التي تحمل رقم 128025 ليست عربتك. رقم خاطئ. تزوير. رقم تذكرة السفر التي حملت قاربك المبحر من لندن. تزوير. لا بحر في لندن. لا ضفة. لا نور ولا عسل ولا حب ولا دفء. تزوير. رقم جواز السفر الذي وضعوه في ملف أزرق في درج أسود في حزن أعمق. تزوير. رقم آخر غرفة وآخر سرير وآخر كأس وآخر ترنيمة وآخر افتتاحية وآخر موعد. تزوير. كل الارقام تزوير. اكتمل القمر يا جوزف. جاء الخسوف أيضاً. وكذبت النبوءة وعوت الذئاب. 128025 رقم اللعنة.
لكنك ستقوم؟ اليس كذلك؟ “كأنها الحقيقة؟”، يقول الصديق أمام العربة. “ابو الزوز؟ تعال”، تقول الصديقة خلف زجاج العربة. “أنت هنا؟” يبكي الرفيق. تومض عدسات الكاميرا. يغمر الضوء المكان. أخضر يلمع من أجنحة الطائرات. أبيض ينتشر في الفلاء. قمر ملعون يشتعل. الشرر في كل مكان. “مكشوف يا حبيبي. مكشوف يا حبيبي. مكشوف يا حبيبي”.
وتلك الشموع؟ 21 شمعة تحيط بقاربك في الصالون. رموا فيه ورداً وسكبوا الخمر. كانت سهرة من سهرات جوزف. سهرة مع جوزف. لكنّها الأخيرة. كل أولئك النساء الفاتنات، من أين أتين؟ سكبوا خمراً وشربنا. تلك لك وهذه للفراشات. تلك للفراشات وهذه لك. أنت من الفراشات وهي منك. آسرة بهية، لا ناظرها بشر ولا خالجها جنّ. أربع شمعات خفضت رأسها. ليست بطول الأخريات. من هنا نافذتك؟ من هنا ستطلّ علينا إذاً؟ جالسون ننتظر؟ أم أنك لا تعود؟ بارد بلاط الكنيسة والفراشات لا ترتدي خفاً!


إلهي، لماذا تركتني؟

صباح أيوب

سُئلتُ مرّة: «هل أنتِ مغرمة به؟» فأجبت: «عندما تعرفون «سماحة» يصبح من اللاإنساني ألا تُغرموا به».
الأحد 25/2/2007 يوم شباطي رمادي. انتظرت وانتظرت وانتظرت... ولم تدخل بعد. مارست عملي المعتاد و«الممتع»، كما كنتَ تصفه دوماً، لكن دون جدوى. ما زلتُ في مزاج عَكِر. سأتصل بك، أتردّد قليلاً، أحسب فارق الوقت، ربما ما زلتَ نائماً. يؤجَّل الاتصال. أتوجّه إلى مكتبك، هل أترك الباب مفتوحاً؟ هل أُطفئ النور أو أتركه مضاءً؟ أقفل الباب إذاً؟ ضجرٌ وقلّة صبر ودوران في بقعة واحدة. متى ستقرر أن تأتي من هناك؟ لماذا لم تتصل بي ولم تردّ حتى على رسالتي الهاتفية ليلة أمس؟ مكتبك الذي أعدتُ ترتيبه بعد أن غادرت، بات بارداً ينتظر بفارغ الصبر أن تُعيد «الفوضى» إليه. لك عندي أيضاً عشرات المقالات والتقارير والمواعيد المؤجّلة ورسائل تنتظر جواباً. ما زلت أنتظر. أكره عندما لا تعرف كم ينشغل البال عليك كلّ مرّة.
سنتان ونصف من العمل اليومي إلى جانبك، تُعلِّم، تدلِّل، توجِّه، تمازح، تحضن، تؤسس... لم أستطع أن ألجم كبريائي يوماً. فمن يقضِ ساعة واحدة معك يشعر بأنّه ملك، كيف الحال إذاً بعد سنتين ونصف؟ أنتمي إلى «الجناح المتطرّف» من بين محبّيك، متشدّدة إلى أقصى الحدود في كل ما يتعلق بك، ومع كل من يتعرّض إليك، حتى لو عن طريق المزاح. خط أحمر أنت، منذ البداية، بالنسبة إلي.
«أنا عم دخّن كتير»، «أنا تعبان»، قلتها في الفترة الأخيرة، ولكن... هل كنّا عديمي الإحساس لهذه الدرجة؟ أم لم نرد أن نصدّق أنك قد تتعب يوماً إلى هذا الحدّ؟ «سماحة»، هل فعلتها عن قصد؟ هل رتّبت كل شيء وسافرت بعيداً كي لا تحرجنا؟ هل هربت خجلاً من دموعنا؟ نحن، من تمسّكنا بك حتى أنهكناك؟
عذراً إن بكيت كثيراً، عذراً إن أطلقت عليك كل هذه الصفات، عذراً لأن عالمي بات باهتاً، عذراً لأن كبريائي هُزمت، عذراً إن عجزت عن الكتابة، عذراً عن مزاجي العَكِر، عذراً إن انشغل البال عليك، عذراً إن لم أملّ بعد انتظارك... وبالمناسبة، لن أملّ قريباً.. فأنت لا تزال مدين لي «بغمرة وقبلة على الرأس»، وهذا ما لا يمكن أن أفرّط فيه.
«سماحة»، إن كانت هذه مشيئتك فلتكن، لن أعترض عليها. افعل ما يحلو لك. ابتعد، فنحن، في النهاية، بشرٌ. لا نُطاق. نُحِبّ، نطمع، ونعذّب. هذا ما نفلح فيه.
«سماحة»، قد لا نحتمل الشوق، فلا تدعنا نتوه كثيراً.
ها قد أصبح لي سبب الآن، كي أنظر إلى السماء وأبتسم.

يوم عادي في حياة جوزف سماحة

أمل الأندري (مع صباح أيّوب)
“فتل فيك كتير التاكسي يا جوزف”؟ ألهذا مزاجك عكرٌ اليوم؟ جوزف عادةً لا يعبّر، لكنّ صباح تعلم أنّه حين ينزعج، يعتصم بالصمت. صارت تعرف بعض طباعه وعاداته مثلما تعرف راحة يدها... يومَ دخَلت مكتبه في “السفير” قبل عامين لإجراء مقابلة عمل، لم تنتبه إلى حلمي موسى في المكتب، هو كان موجوداً حقاً، لكنّ أوراق جوزف المكدّسة و“دستة” الصحف منعتها من رؤية أيشيء على الإطلاق...
زحمة السير التي عكّرت مزاج جوزف، لم تدعه يتخلّف عن موعده الصباحي مع الـ“نيسكافيه بلاك” والصحف المحلية... كخطوة أولى. إنها الحادية عشرة بالضبط، ونحن الآن على عتبة مكتب صباح الذي يجتازه سماحة كل يوم للدخول إلى مكتبه في “الأخبار”. هو لا يحبّ التحدّث كثيراً في الصباح، بالكاد “يصبّح”، لكنّه في معظم الأوقات يدخل والهاتف الخلوي لصيق أذنه... أكيد، فمقال اليوم كان “قنبلة” بدأت مفاعيلها على “الريق”.
في هدوء الأروقة التي لم تنفض عنها نعاس الليل بعد، يروح جوزف يتجوّل بين المكاتب، رياضة صباحية؟ أم حشرية لمعرفة أوّل الواصلين؟ أم طريقة لتنظيم يومه بهدوء؟ يدخل مكتبه من جديد، يطلب “القهوة التركي” السادة هذه المرة، ويستأنف قراءة الصحف المحلية التي يكون قد بدأها في منزله في زاروب فيكتور هوغو الصغير، بين مونو وطريق الشام. هنا، يبدأ بتدوين الملاحظات، يشطب تحت جمل وعبارات، يرسم دوائر حول أخرى، يفكّك ويشرّح... مبضعه يتوقّف عند الـ12، لإدارة اجتماع التحرير، ثم يبدأ باستقبال الزوّار. زوّاره ليسوا سياسيين إلا نادراً. كثير منهم لا تربطه بهم معرفة شخصيّة، بل يستقبل صحافيين، وطلاباً، وأناساً عاديين. يستقبل الكلّ بلا استثناء. آه، كدنا ننسى: جوزف هو من يتلقى الاتصالات، ويحدّد مواعيده مع المتصلين، ويطلب القهوة للضيوف... هو سكرتير نفسه!
بعد الانتهاء، يخرج من مكتبه، يقف عادةً على الباب حيث غرفة صباح. “شو عنّا اليوم”، أو يستعمل أحياناً عبارة أكثر فصاحة “هاتي ما عندك”. صباح عندها الأبحاث التي قامت بها على الأنترنت من الصحف الأجنبية، حوالى عشر صحف بين إنكليزية وأميركية وفرنسية تصفّحت مواقعها، وطبعت له كل ما كُتب عن: لبنان، العراق، فلسطين وإسرائيل، وكل أعمدة الرأي، إضافة إلى آخر الأبحاث والدراسات.
يبدأ بتلقّف الصحف وتدوين الملاحظات، لكنّ النهم نوعان: روحي وجسدي. وجوع جوزف الثاني يبدأ في الثانية بعد الظهر. حسناً، “دليفيري” من “البريستول” أو “وردة” أو “اسطنبولي”، و“نديمه” الدائم خالد وأحياناً صباح. حين يأكل مع خالد فقط في الكافيتيريا، لا ينسى أن يجلب معه قطعة الحلوى “اللي طلعتلو” مع وجبة الغداء. يقطع الرواق الطويل من الكافيتيريا إلى مكتبه، وبيده “القطعة”، هي ليست له... بل لصباح. وأحياناً يهرب جوزف من المكتب لغداء أكثر ترفاً. يلبس الجاكيت ويقول: أنا رايح. ويمضي إلى مواعيده الغامضة.
كلّ من يعرف جوزف عن كثب، يعرف أنّ القهوة لا يحبّذها بعد الغداء، بل قيلولة ربع أو نصف ساعة، تعيد إلى الذهن نشاطه. لكنّ عمر مسؤول “القسم الجنائي” في الجريدة، أو “عمر بوند” كما يسمّيه جوزف، لا يستطيع أن ينتظر نصف ساعة، يدخل أحياناً على صباح، هي تقول له إنّه “نائم يا عمر”، لكّنها تفشل أحياناً في ردعه. “خلّيني شوف بس شوي”، يشقّ الباب، لكنّ باب جوزف يصدر ضجيجاً لدى فتحه، لذا يستيقظ سماحة. “فوت، فوت” يهمهم جوزف. طارت “الناعوسة”، ووداعاً لـ“استراحة المحارب”، فإلى القراءة من جديد...
ساعة الصفر تدقّ عند الخامسة. يقف على باب مكتبه: “شو بدنا نكتب اليوم يا صباح؟”، يمشي خطوتين ثم يستدير “أيمتين بدّي بطّل أكتب يومي!”. صباح لا تحبّ هذه المزحات، تصاب بالهلع عندما “يشحّ” سماحة من المواضيع، ويتذمّر من الكتابة اليومية. لكنّ كتابة المقال لا تستغرق ساعة معك يا جوزف؟ ونحن نفاجأ صبيحة اليوم التالي بأنّ الافتتاحية التي كتبها، تحدّث عن موضوعها مطولاً أمام كل زوّاره وزملائه طوال النهار. آه، في الآونة الأخيرة تنبّه جوزف إلى رداءة خطّه، فراح يحاول “تزبيطو”، لكنّ قلم الـ“يونيبول” الأزرق لا يستطيع اجتراح المعجزات، وخطّ جوزف عصيّ عليه. لا، لا! سماحة لا يستخدم الكومبيوتر. المسألة لا تتعلّق بمواكبة العصر وغير ذلك من “الترهات”، بل “لأنّو بوجّعلي عينيّي” قال لصباح مرةً. لكن عند الضرورة، جوزف “بيدبّر راسو”. يعني أيام “السفير”، عندما كانت صباح تغيب الأحد، كان هو الذي يجري أبحاثه على الأنترنت. لكّنه ما فتئ يقول لها يوم النقلة إلى “الأخبار”، “جبتي معك الـ bookmark؟” الـ“بوكمارك” يسهّل الأمور كثيراً، ويشرّع الطريق على مختلف المواقع المهمّة... طيّب، ها هو قد انتهى للتوّ من كتابة مقاله الذي لن يراه إلا صبيحة اليوم التالي. أجل، لهذا السبب قد تجدون أحياناً أخطاءً مطبعية في مقاله، هو لا يحبّ أن يعيد قراءته بعد “تركيب” الصفحة.
إنّها السابعة الآن، وجوزف غادر المكتب إلى الأقسام الأخرى. بدأ التنسيق لاختيار الصفحة الأولى والعناوين والمانشيت، ومتابعة العمل التحريري، وإخراج الصفحات الذي يحتّم الاختصار أحياناً، وخصوصاً مع ماكيت إميل المبدعة والصارمة في آن. في الوقت المستقطع، يستقبل الزوار أيضاً. حتى إنّه يستقبل المتقدّمين لوظيفة شخصياً، يعني طلاباً جامعيين، وأحياناً كثيرةً لا يعرف هوية المتصل به. عندما تقول له صباح اسمه، يجاوب “أوكي أعطينا ياه لنشوف”، وأحياناً حين يكون مشغولاً جداً، وتقول له صباحاً إنّ “فلاناً” على الخطّ، يجيب “قوليلو مات”. هكذا، تريدهم أن يصدّقوا؟ أمس كان دفنك، ونحن لم نصدّق بعد يا جوزف. وماذا عن ذاك الرجل كأنه لا يعرف؟ فنان قديم، قالت صباح، كان “بشي فرقة أم كلثوم الموسيقية”، كان يأتي بكاسيتاته، وجوزف الذي يحبّ الطرب “يناولو” والسبحة تكرّ مع الزوار الطارئين. فسماحة قلبه مفتوح دوماً كما بابه، هو أصلاً يعشق المناقشة، حتى إنّ صباح “عفشته” مرةً يتحدّث عن الأفلام المصرية والطبخ الهندي. بلى فعلها، كان يومها في الكافيتيريا... مع السيجارة أكيد. السيجارة لا ترحم القلب، زد عليها كل المشاكل التي نادراً ما يفصح عنها. “بيحط بقلبو”. بلى، مرة واحدة، فعلها و“فشفش”. كان ذلك يوم اغتيال سمير قصير. كانت الدموع تترقرق في عينيه، يوم راح سمير... قالت صباح إنّها فوجئت به لأول مرة يتحدث عن نفسه، وعن سمير وعنهما بنبرة عالية يشوبها الغضب.
بعد الانتهاء، و“تسكير” الصفحات، يعود جوزف الى مكتبه، ليختلي بأبحاثه من جديد. يجالس إميل، يتناقشان بما قرأ اليوم، يحكي عن هموم النهار، عن “تعبه” في الآونة الأخيرة.
وبعدما يوضّب “شنطته” واضعاً فيها الأوراق والأبحاث التي لم يتسنّ له قراءتها خلال النهار، يوصله إميل إلى منزله قرابة الواحدة بعد منتصف الليل لينام، بعد جولة قراءة جديدة. حتى في يوم العطلة أي السبت، لا يقلع جوزف عن تلك الخصلة. ينقضّ على الكتب و“زوّادة الويك إند” التي تكون صباح قد تركتها له. وهي عبارة عن المجلات الأسبوعية التي تصفّحتها على الأنترنت.
مرّ أسبوع وجوزف يتخلّّف عن مواعيده، عن عاداته اليومية، لم يعد يمارس رياضته في الكوريدور، ولوح الشوكولا الذي تتركه عادة صباح له ليتناوله بعد القيلولة، ضجر من الجارور... “أظنّ أنّني خدمتُ عسكريّتي” أردف مرةً بابتسامة... لنفترض أنّك محقّ. لكن لا يكون التقاعد هكذا يا جوزف...!



خرج من بيروت... ولم يعد


“ماذا ستكتب عن مي، يا بيار؟”. سأل جوزف سماحة صديقه وزميله بيار أبي صعب ظهر الأحد 18 شباط، وكان يقصد بسؤاله الكاتبة مي غصوب التي توفيت يوم السبت. “كيف سيعيش حازم من دونها؟... كيف سيتعامل مع لندن؟ إنّها بابه المشرّع على المدينة. هي كل شيء في حياته، إنّها لندن بالنسبة إليه”، استرسل جوزف يومها...
سأله بيار: لماذا لا تذهب إلى لندن؟ ترى حازم وتواسيه وترتاح قليلاً؟ أجابه بأنه يفكر في الأمر، “لكن أريد أن أحكي مع حازم أولاً. قد يكون بحاجة إلى الانطواء... ما رأيك؟”.
ما رأيك؟ كان السؤال الذي طرحه جوزف سماحة على كل من واساه بوفاة مي: “هل أذهب؟” “القصّة مطوّلة في لندن، قال كمال كريم. لا بدّ من الذهاب”. “بقي جوزف متردداً رغم تشجيعنا له” تقول هلا بجاني: “حجزت له أكثر من مرة لأشجعه. كنا نريده أن يأخذ عطلة، لكنه كان يفضّل الانتظار لمعرفة ما سيفعله حازم هناك”.
القرار النهائي اتخذه سماحة بعد تلقيه اتصالاً من صديقة مشتركة بينه وبين حازم صاغية “قالت له إن حازم ارتاح كثيراً عندما أخبرته أنك قد تأتي إلى لندن، علماً بأنّ حازم كان يقول له لا داعي لمجيئك، وأنا لن أتأخر في لندن” يقول إبراهيم الأمين. ساعدت في اتخاذ هذا القرار المعلومات التي تلقاها عن تأخّر حازم في المجيء إلى لبنان بسبب الإجراءات الطويلة التي يخضع لها تسليم جثمان مي هناك، وبعض الترتيبات الأخرى.
لكن جوزف بقي متردداً خوفاً من أن يشكّل سفره إرباكاً لصديقه الحزين. اقترح بيار أن يحجز له كم ليلة في فندق، “إذا شعرت بأنه يرغب في البقاء وحيداً نَم في الفندق”. هذا الاقتراح ورّط بيار في مسؤولية إيجاد فندق قريب من مكان إقامة حازم صاغية في لندن “لأن جوزف لا يحب المشي ويخاف من البرد، فحجزت له فندقاً قرب الشقّة التي سكنها جوزف في لندن، قرب هاي ستريت كنسينغتون... ”.
وصل جوزف سماحة إلى لندن ظهر الثلاثاء 20 شباط (فبراير)، وتوجه بمفرده إلى الفندق الذي طلب ألا تكون أجرته مرتفعة. نام الليلة الأولى فيه. “كان حازم صاغيّة قد غادر منزله الذي يذكّره بمي، وانتقل إلى منزل شقيقتها هدى في الشارع نفسه” يروي لنا أندريه غاسبار.
ويتابع: “في اليوم التالي لوصول جوزف سافرت هدى وزوجها كمال إلى لبنان، فانتقل جوزف للإقامة مع حازم في بيت واحد. كانا يقضيان الوقت معاً. وشارك في احتفال أقمناه يوم الخميس 22 شباط (فبراير) عن روح مي، ألقيت أنا كلمة رحبت فيها به وأخبرت الموجودين أنّ جوزف قدم خصيصاً لمواساة صديقه... وهذا ما أثّر في كثيرين ممن كانوا موجودين، أعجبهم كيف يتعامل جوزف مع أصدقائه”.
في الأيام الثلاثة التي تلت، عاش جوزف وحازم مع الأصدقاء الذين كانوا يتوافدون لتعزية حازم من جهة ورؤية جوزف من جهة ثانية: “عدد كبير من الصحافيين جاؤوا لرؤيته والسلام عليه. لم يكن البيت يفرغ وكانوا يسهرون كل ليلة حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل”.
هكذا، “نجح” جوزف سماحة في مساعدة صديقه وإخراجه قليلاً من حالة الحزن. “تغيّرت نفسيته فعلياً. كانا يستعيدان معاً ذكريات الماضي، ويتقاسمانها مع الحاضرين. يلقيان النكات و“يتشاطران”... حتى على أغنية..
هنا، يكمل الحكاية الفنان عبد الكريم الشعار الذي لم يصدّق الخبر الذي سمعه يوم الأحد 25 شباط “كيف مات؟ لقد اتصل بي من لندن في الليلة نفسها ليسألني عن مؤلف كلمات أغنية: “لا دمعي كفى وطفّى النار، ولا الحبيب قلبو عليّ” (من كلمات عبد الغني السيّد وألحان رياض السنباطي).
لكن السهرة التي كانت فيها أيضاً الروائية هدى بركات (قدمت خصيصاً من باريس)، بشير هلال، كريستين طعمة، جعفر الأحمر، فادي توفيق وآخرون، لم تخل من سياسة. فقد ناقش فادي توفيق مطوّلاً سماحة في سياسة جريدة “الأخبار” وقدّم جملة من الانتقادات ختمها جوزف بالقول: “اكتب كل ما قلته في مقال وأرسله لي لأنشره في الأخبار”. كما جرى استعراض الوضع اللبناني وكان اتفاق على استنكار الفتنة السنية الشيعية التي يجري التحضير لها “هذه الأجواء لم تكن موجودة حتى في عزّ الحرب” كان رأي الحاضرين كما يقول لنا الشعار نقلاً عما سمعه من أحد المشاركين في السهرة.
أما أندريه غاسبار الذي كان قد غادر السهرة عند الساعة العاشرة والنصف مساء، فقد تلقى اتصالاً صباحياً من حازم صاغية عند الساعة العاشرة والثلث صباح الأحد أجابت عليه زوجته: “قال لزوجتي جوزف ما عم يفيق... ما عم يقوم”.
وأسرع اندريه إلى بيت حازم ليجد جوزف متوفىً “لكنّ وجهه كان مرتاحاً. أما حازم صاغية فكان يصرخ به: “جوزف... ليك قوم... قوم”.
لكن جوزف لم يستيقظ، كان غارقاً في نوم عميق. قبله كان قد أشعل سيجارة، مجّ منها نفساً واحداً، ثم أطفأها بهدوء من دون أن يكسرها… هذا ما تدل عليه المنفضة قرب سريره، كما يدل كوب الماء الفارغ على أنه شربه كاملاً بخلاف عادته، يخبرنا عمر نشابة: “كان يشعر بضيق نفس على الأرجح، وهو كان قد قال لحازم إنه متضايق، لكنه لم يعد إلى ذلك، ربما لكي لا يثقل عليه..”.
عمر الذي سافر خصيصاً إلى لندن وتولى مهمة الإشراف على الفحص الطبي وأشرف على ترتيبات تسلم الجثمان زار الفندق الذي نزل فيه جوزف ليلة واحدة وسأل عنه الموظفين الذين أسفوا لوفاة الـ “nice gentleman” والـ “so kind”. أما في السفارة اللبنانية التي كشفت على الجثمان، فقد تجمّع الموظفون حوله وبكوه بصمت... كما كل من عرفه وأحبه ولو من بعيد.
جوزف الذي سافر إلى لندن ليريح صديقه حازم، نجح لأيام معدودة فقط... لأنه برحيله أغرق حازم مجدداً في الحزن... ودفعه إلى المجيء إلى لبنان ليتقبل العزاء به، متخلّفاً عن الاحتفال الخاص الذي أقيم عن روح زوجته مساء الخميس الفائت، وكان قد بقي في لندن من أجله: “غادر حازم بيته لكي لا يتذكر زوجته، لا أعتقد أنه كان قادراً على البقاء في المنزل الذي توفي فيه جوزف أيضاً”. يقول اندريه لنا عبر الهاتف، ويختم بصوت تخنقه الغصة: “حازم، لولا جوزف، ما كان عرف شو بدو يعمل... وهلق....؟؟”.
مهى...



بعض من سيرة يوسف نصري سماحة كما رواها أصدقاؤه
مهى زراقطلم يكن تأمين لقمة العيش سهلاً على الأم، لكنها لم تعدم وسيلة. هي مثلاً، أقامت نوعاً من علاقة المقايضة بينها وبين الباعة. تسمح لهم باستخدام منزلها، في مقابل ما تحتاج إليه من مستلزمات: خضار أو سمانة أو غيرها... وتروي نجاة حرب أن سيسيليا كانت فقيرة إلى حد أنها كانت تعاني لتوفّر ثمن أربع أو خمس بيضات للطعام “لكن، ما إن تشتري البيض حتى تدعو كل من يكون موجوداً إلى مشاركتها في تناوله مع عائلتها”.
ورغم ذلك حرصت على تعليم ولديها وانتسب جوزف إلى “مدرسة الفرير” التي كانت تضم أبناء العائلات الميسورة. هناك، تعزّز ما يمكن أن نسمّيه بقاموس جوزف اللاحق “وعيه الطبقي”. كان يعجز عن دفع قسط المدرسة، ومرّة اضطر إلى تبديل ثيابه في حصّة الرياضة فبان قميصه الممزّق. يروي أنه احتفظ بالـ signal (يعطى للطلاب الذين لا يتحدثون الفرنسية) منذ اليوم الأول لدخوله “الفرير” ولم يتخلّص منه إلا عند التخرج. لكنه ندم على ذلك في وقت لاحق: “كان يجب أن أتصرّف بطريقة مختلفة وأعتبر اللغة الفرنسية غنيمة حرب”... علماً بأنه لم يترك المدرسة من دون غنائم، فقد كان كابتن فريق الـ “volley ball” و“كان محبوباً جداً، لكنه كان يواجه هذه المحبة بخجل أنثوي” يقول حازم صاغيةخجل سيرافقه طيلة حياته، كما رافقه طيفا سيسيليا ووليد، الشقيق الأصغر. هذان الشخصان لم يغيبا عن وجدان جوزف الذي كان يشعر بالتقصير لأنه لم يستطع أن يقدّم لوالدته، مثله الأعلى في النساء، كل ما كان يحلم به. لم ينس يوماً أنها ماتت بعيداً منه، رغم أنه لم يفارقها في مرضها. آنذاك تخطى قرار منعه من دخول لبنان (من جانب النظام السوري) منتصف الثمانينيات، بسبب كتاباته ضد حرب المخيمات، ليجلس قرب سريرها، لكنها لم تغمض عينيها إلى الأبد إلا بعدما عاد مجدداً إلى غربته القسرية في باريس، فتولى أصدقاؤه المقربون دفنها في مدفن مار الياس بطينا، قرب مخيم مار الياس للاجئين الفلسطينيين. وبعد وقت قصير، توفي شقيقه وليد بسكتة قلبية.
وليد الذي عمل حمّالاً على المرفأ للمساعدة في مصروف البيت، أورث جوزف شعوراً بالذنب لاقتناعه بأن شقيقه افتداه بنفسه فيما حظي هو بفرصة إكمال دراسته. يروي حسن داوود أن جوزف سماحة كان يحكي عن وليد بحب ورومنسية مطلقين، يصفه بالشهم والطيب والنبيل. وتقول ضحى شمس إن حديث جوزف عن شقيقه، وطريقة وصفه له كانا يعطيان انطباعاً بأنه يصف نجماً سينمائياً شهماً وجميلاً وفارساً... وقد بقي جوزف سماحة يحكي عن شقيقه بهذا الفخر والاعتزاز والمحبة إلى أن توفي، عندها “صمت جوزف طويلاً، وأقفل الباب على حزنه”.
لكن الباب لم يقفل تماماً... تصرفات بسيطة كانت تؤكد لأصدقائه أنه لم ينس يوماً. تحمّل مسؤولية عائلة شقيقه ورعى أبناءه من جهة، وبقي يحتفظ بالحنين إلى منزل والدته في بينو الذي دُمّر خلال الحرب، فكان يتحيّن الفرص للمرور قربه ورؤيته. هو بيت سيسيليا، وأيضاً البيت الذي احتضن النقاشات السياسية أواخر الستينيات بعد النكسة.
يكتب حازم صاغية في كتابه الأخير “هذه ليست سيرة” (دار الساقي): “الحقبة هذه من عمري وأعمار بضعة أصدقاء (التعرّف إلى الماركسية)، كان نصبها بيت سيسيليا والدة جوزف. فالمنزل الذي لا أبواب له، المفتوح من غير تحفظ لكل زائر، كان المكان الذي يُستعرض فيه كل ما يقرأ وما يُفَكّر، كما تُعلن الانحيازات والأهواء فيما تعلو الأصوات هارجة مارجة. وبسخائها وقدرة لديها غير عادية على الحضن والاستقبال كانت سيسيليا صديقتنا جميعاً، تواكب تحولاتنا بما لا يخلو من تواطؤ مع هذا ضد ذاك (...) وبطريقته ذهب جوزف إلى أن أمه غيّرت، في الانتقال من القومية إلى الماركسية قاموس شتائمها. فبعد أن كان “الخائن” أو “العميل” مرادفها للسيئ واللعين، بات “البورجوازي” الوصف الذي تعتمده لزمننا البروليتاريّ البازغ”.
قد تكون سيسيليا هي “مُعلّم” جوزف السياسي الأول. كانت تحب الرئيس المصري جمال عبد الناصر وكانت مناضلة على طريقتها. ولا يشك حازم صاغية في أن تكون طفولته هي التي شكّلت أساساً في بناء وعيه السياسي والاجتماعي. كان يدافع عن العدالة الاحتماعيّة في كتاباته، ويمارسها في أبسط تفاصيل حياته اليومية. باختصار، تنطبق عليه صفة “الآدمي”، يقول صاغية. وكان يشغل باله بمشاكل أصدقائه: الحاجة المادية، الفصل من العمل، الموت، المرض...
تروي نجاة حرب: “دخلت في “الكوما” بعد حادثة خطيرة، فكان يزورني يومياً ويقرأ لي الصحف لأنهم أخبروه أني قد أسمعه. وقال لي ضاحكاً عندما شفيت، اني لم أستيقظ إلا عندما قرأ لي خبر استقالة الحريري (عام 1994)”. ويقول حسن داوود: “بقيت 23 يوماً في المستشفى، وكان يزورني يوميّاً”.
تؤكّد الشهادات أنّه من الذين يحسنون الاحتفاظ بصداقاتهم. مهما كان الاختلاف السياسي، لم يكن يسمح له بأن ينعكس سلباً على العلاقة الشخصية. يروي حازم: “خلال ما يقارب 40 عاماً من الصداقة الحميمة، أمضينا 36 عاماً منها في خلاف سياسي، لم يتطور إلى مشكلة أو يسبب توتراً على صعيد علاقتنا، ولم يتوقف أحدنا عن إخبار الآخر بأسرار “معسكره” و“هواجسه”. هذه الهواجس تقاسماها منذ انخرطا في العمل السياسي وخاضا مع الرفاق النقاشات حول الناصرية والبعثية، والماركسية “التي كان جوزف سبّاقاً في قراءة كتبها، حرّضنا إطلاعه عليها على الاطلاع”.
استمرت هذه النقاشات في جريدة “السفير” التي جمعت الأصدقاء مجدداً، وربطت جوزف سماحة بعلاقة خاصة مع ياسين الحافظ بقي فخوراً بها، وحريصاً على الاتصال بأرملته أم هيثم التي اعتبرها أماً ثانية له.
يحار الأصدقاء في تحديد سبب عدم إكمال جوزف سماحة لدراسته في باريس، رغم أنه حصل على منحة لإكمال الدكتوراه، ويرجحون أن يكون من الأسباب نجاحه في العمل الصحافي، هو الذي “كتب الافتتاحية في السادسة والعشرين”. يصفه الكثيرون بأنه الصحافي الصحافي الذي لا يبحث عن أي مجد آخر كما يفعل الكثير من الكتاب الذين تغلبهم النرجسية. “يحب المهنة ويقدّسها رغم أنه يعلم أن مجدها زائل. وأن الصحافي يُنسى بمجرد توقف قلمه عن الكتابة”. ورغم ذلك لم يكن يستمع لنصائح أصدقائه له بتأليف الكتب. ليس لأن نفَسه قصير كما كان يدّعي، أو لأنه غير مستعد لبذل مجهود إضافي، وهو الذي كان يعطي المقال الواحد الوقت الذي يستغرقه الكثيرون في تأليف كتاب، لأنه يحترم القارئ ويشعر بمسؤولية تقديم المعلومة والتحليل على أكمل وجه.
“إنّه الخجل” يفترض صاغية، ويشرح: “جوزف كان خجولاً حتى ككاتب ومثقف، أنا لا أعرف كتاباً إلا نرجسيين... لكن جوزف كان مختلفاً”. يعزّز هذا الاستنتاج تصريحه مرة للكاتبة الهولندية ليف جوريس في عام 1991 بأنه كان يرغب في كتابة رواية عن النساء اللواتي عرفهن، وأضاف: “لكنني أخشى ألا أتمكن من ذلك فأنا لم أستخدم من قبل صيغة المتكلم في كتابتي”.
عن حياة جوزف سماحة العائلية يشرح حازم صاغية: “أعتقد أن طبيعة الحياة التي عاشها في منزل والدته المفتوح دائماً، جعلته عاجزاً عن تكوين أسرة. كان الخاص يختلط لديه بالعام والعكس”. هذا التفسير لم يحل دون زواج جوزف المبكر من سهيلة، مضيفة الطيران الفلسطينية الأصل التي أحبها ورزق منها بولدين: أمية وزياد. “كان ربّ عائلة ممتازاً في السنوات الأولى من الزواج” يقول حسن داوود، “لكنه اكتشف في وقت لاحق أنه لا يستطيع الاستمرار في هذا النمط من الحياة. أراد الانطلاق إلى فضاءات أخرى”، لهذا انفصل عن زوجته، وبقي متحمّلاً مسؤولياته، حريصاً على بناء علاقة طيبة بولديه اللذين عاشا بعيداً عنه. هذه العلاقة التي توطدت كثيراً في السنوات الأخيرة، وكان سعيداً جداً بها. وهذا ما عبّر عنه في رحلته الأخيرة إلى لندن، عندما “فضفض” قليلاً لصديقه اندريه غاسبار. يقول الأخير: “في لندن، كان جوزف هو جوزف، كما هو... تحدث عن كل الأمور التي تشغل باله... ولداه وجريدة “الأخبار” التي كان يقرأها يومياً عبر الانترنت ويناقشنا في سبل تطويرها.




ينظر إلى العدسة ... ولا ينظر
سهى توفيق

الرجل في مروره العابر أمام عدسة الكاميرا يقتلها قبل أن تدعو الناس الى مأتمه. جوزف سماحة في Spot تلفزيوني مدته 26 ثانية، يقول كل شيء الا موته. الرجل يلغي العدسة بأن يصوب عينيه، تحديداً، في قلب عينيها، في اللحظة ذاتها التي يبدو ساهياً عنها.
هو لا يفعل ذلك مع البشر، أو أولئك الذين يخالفونه الرأي او العاطفة. يحاججهم بالصمت، بأن يستمع اليهم ما داموا هم يتكلمون، يصوب العينين، لكنه لا يسهو. النبل والسهو لا يجتمعان، والرجل نبيل كما مطلق المحبة والاحترام. يستقبل طاقة مجالسه، سلبية أم إيجابية. يهضمها على الفور. أغلب الظنّ أنّ قلبه هو المصفاة، لا عقله، والا لماذا توقف القلب ولم يسكت الدماغ؟ المصفاة تفكك المادة، وتعيد اطلاقها أفكاراً ايجابية. انها عاطفة في ثوب آخر. فكرة أو معلومة أو رأي أو نصيحة. الرجل لا يتفوه بغير العاطفة، مهما بدت متأنقة، كما ربطة العنق “السينييه”. يشيع جوزف جواً من الاناقة في حضرة مجالسيه. النبل والاناقة، لعلهما، مكمن الاحتفاء الدائم بفروسيته. تلك الفروسية لا يتخلى عنها في مواجهة العدسة، التي على عكس البشر، لا يحبّها. لا يتفاعل الرجل الأنيق، الحيّ، مع عدسة لا تسطو وتكبل، فحسب، بل تمنع عن ناظرها فرصة المحاججة والاحتفاء بهذه المحاججة، ايجابياً... وعاطفياً. طقس “أبو الزوز” المحبّب وسمة مجلسه. العدسة، رأي واحد جامد لا يتيح نبلاً ولا احتراماً. لكنّها نافذة مفتوحة على آخر، بشري لا يمكن الرجل أن يتجنبه. لذلك، يبدي جوزف في جو “الفوتوغراف” تلك النظرة التي تحمل تجاهلاً الى الكاميرا، بذاتها، واهتماماً، على شاكلة الصمت المحتفي بالناظر من خلف الكاميرا. لعله تفسير يحتمل تلك النظرة المزدوجة التي تصدر عن الرجل، عادة، في مواجهة العدسات. المصور أول الناظرين من خلفها. جوزف لا يحيده. يتفاعل معه، وقد يجرّه هذا المصور الى لحظة تفاعل ضاحكة، فيكون “فريسة” الكاميرا. يصالحها للحظات. يضحك في وجهها كي يبقى كذلك معلقاً على جدران مكاتب “الأخبار”، والى جانب أخبار الوكالات السريعة عن موته المفاجئ. العدسة غافلت الرجل وانتصرت عليه في مماته، لوهلة، قبل أن يغلبها مرة جديدة، وبمساعدة اصدقائه الاوفياء، فيقتلها في “السبوت” الذي يدعو الى لقاء أخير معه. يجول جوزف بحركة نصف دائرية في مواجهتها. ينظر ولا ينظر. يحاجج من خلفها بنبله المعتاد. هذه المرة يستمع الى تفجّع ونحيب. همهمات وصراخ. ينظر ويبقى صامتاً. وقبل أن يقول، يختفي. تظهر الكلمات. عنوان الكنيسة ووقت الجثمان. لولا زياد الرحباني وصدى “منمشي ومنكفي الطريق” الذي يبقى بعد الصورة، لقلنا إنّ العدسة غلبت الرجل. انتصر زياد لجوزف على العدسة... “باسم الحفنة”!




عن الفتى الذي سحر قريته: «أنا جوزف حبّوني... منحبّك، منحبّك»
نقولا طعمةجاءت والدته سيسيليا إلى بينو أواخر الستينيات للسكن الصيفيّ والموسميّ في منزل قريبتها بربارة يونس، مع ولديها جوزف ووليد، وبقي البيت بتصرف العائلة بعد غياب بربارة.
في بينو، انطلق جوزف في حركة شبابيّة واسعة قبل انصرافه إلى الصحافة، ويمكن القول إنه قاد جانباً من صناعة التاريخ الشبابيّ للبلدة أوائل السبعينيات، بتعاطف أهلي واسع. ولم تشكّل حركته العفويّة استفزازاً لأهاليها رغم أنّها جاءت خارج الإطار التقليدي العائليّ، وأصبحت هذه الحركة أشبه بحالة «أسطوريّة» محليّة بطلها جوزف سماحة.
كان جوزف رائداً طليعياً في مختلف مراحل حياته ومستويات أنشطته. في الرياضة، ينتصر فريق بينو في الكرة الطائرة ما دام جوزف لاعباً في المباراة. قبل المباريات، تجول سيّارة عليها مجموعة من الشباب والفتية، تهتف: «أنا جوزف حبوني... منحبّك منحبّك»، بمثابة إعلان عن مباراة الأمسية القادمة، فتزحف البلدة للتمتّّع بالنصر المحتّم الذي ما أن يتحقّق حتى يحمل الجمهور جوزف، وبعض رفاقه، على الأكتاف في جولة في أحياء البلدة.
في خاطرة له إثر معرفته بخبر رحيل جوزف، يقول نخلة نوفل عبر موقعه beino.net: «نتذكّر ذلك البطل الرياضي على أرض ملعب الجمعيّة الترابي، الذي كان ينقذ فريق البلدة، ويحقّق له النصر دائماً. وبعد ذلك، كان القائد الهادئ، والمرشد، والمحفّز، والمدرّب. وكان مثالاً لكل الذين كانوا حوله».
وفي النقاش السياسيّ، لا تخفى طليعيّته اليوم. لكنّه كان كذلك مطلع حياته. يتحلّق المتناقشون، ويتبادلون الآراء، فإلى جانب الرفيق الأوّل الدائم حازم صاغيّة، كان أصدقاؤه البيروتيون وليد نويهض، وحسن داود، ووليد شقير وآخرون يزورونه أو يأتون معه إلى البلدة. أما الماويّون يومها، ناصر وفؤاد من البرج، والدكتور عصمت وأشقاؤه من العيون، فيأتون لمناقشته، وبحث تطور الأوضاع، وكان يبادلهم الزيارات، دافعه دوماً الحوار والنقاش والتبادل الفكريّ الذي كان يأكل غالب الوقت. وكانت سيسيليا في المنزل لا تتوانى عن مقاطعتهم لضيافة فنجان قهوة متكرّرة، أو حتّى لإبداء رأي.
وفي جلسات «التحدّي» السياسيّ، كان جوزف متقدّماً أغلب الأحيان، أو أقلّه متوازناً مع محاوره. عام 1972، استضاف رغدان فارس في منزله جلسة حوار بين جوزف وجورج عبد الله (المناضل المسجون في فرنسا اليوم) لمناقشة إشكاليّة من يدير الآخر، إسرائيل أم الولايات المتحدة؟ وامتدّت الجلسة لساعات طويلة، وخرج السجال بالتعادل السلبي.
وفي عام 1972، وفد من السعودية الدكتور عبد الله الراسي صهر رئيس الجمهورية آنذاك المغفور له سليمان فرنجية، بهدف الترشح للمعركة النيابيّة عن المقعد الأرثوذكسيّ في عكار. كان كلّ من النائبين الراحلين سليمان العلي وبشير العثمان يشكّلان اللائحتين الأساسيتين في عكار، فتركا المقعد شاغراً لـ«صهر الرئيس»، ما حسم سلفاً نتيجة المعركة الانتخابية عن المقعد الأرثوذكسي، بمواجهة العروبيّ ابن بينو الدكتور خالد صاغيّة الذي كان منضوياً في لائحة الشعب التي شكّلها مع محمد البعريني (والد النائب السابق وجيه البعريني).
لم يرُق الموقف جوزف اليساري المتعاطف مع لائحة الشعب، فبادر مع بعض أصدقائه إلى إصدار بيان انتقاد لموقف الزعامات التقليدية التي «قضت على الطابع الديموقراطي للمعركة» والتنازل لمصلحة السلطة، وقام جوزف مع أصدقائه بتوزيع البيان، ثمّ بتعليقه على جدران بينو في اليوم الذي زار فيه الراسي البلدة تمهيداً للمعركة الانتخابيّة.
ومن الشعارات التي ابتدعها جوزف عن ذلك الموقف، ووُزِّع مطبوعاً في المنطقة، ما قال: «وراء كلّ عظيم امرأة». وتقع المطبوعة بيد الدكّنجي جرجي الصبّاغ الذي كان يبيع قمصاناً رجالية في علب كرتون تحمل صورة سيّدة جميلة تعانق من الخـــلف شاباً يلبس القميص، فيقصّ الصبّاغ العلبة، ويلصق عليها الشـــعار، ويعلّـــقها علـــى مدخل الدكان لترويج بضاعته، وظلّت «اللوحة الفنيّة» في دكـــان الــصبّـــاغ حــتى ممـــاتـــه، وإقـــفــال محـــلّه.
وفي 1973، زار جوزف بينو وقال إنّه يتحضّر مع حازم للعــــمل في جــــريدة جديدة اسمها «السفير». دعوته لــــلبقاء في ضيافة «أم بسام»، وكعادته لم يكن ليردّ طلباً لصديق. وصدف أن أثلجت في تلك الليلة، فكان شديد السعادة، وغادر الفراش مبكّراً ليلعب بتبادل كرات الثلج مع الفتية والصبايا والشباب.
وكثيراً ما كان شباب البلدة يزورونه في بيته العتيق في الأشرفية، ولم يخل بيته يوماً من جورج أو عثمان أو داود أو سمير، وكانت سيسيليا تستقبلهم كأبنائها، وتطبخ ووالدتها لهم الكوسا المحشوّة، أو اللوبياء والأرز، وعندما يحين الغداء، تمازحهم: «يلاّ قوموا يا ولاد العك...» وتدور طنجرة النحاس الكبيرة على «الزوّار» الدائمين حتى النهاية.
«أتمنّى أن أمضي أسبوعاً في بينو هذا الصيف، أجلس في كلّ يوم منه مع مجموعة من ناسها، وأستذكر أجمل الأيام التي أمضيتها فيها»، قالها جوزف لابنة بينو سهيلة كمون التي زارته أخيراً في «الأخبار». لكنّ جوزف أخذ أمنيته تاركاً صيفاً شديد الجفاف، ووطناً ما انفكّ يأكل أبناءه.



كتابان
strong>جوزف سماحة لم ينشر إلاّ كتابين هما “سلام عابر، نحو حل عربي للمسألة اليهودية” (دار النهار، 1993) و“قضاءً، لا قدر، في أخلاق الجمهورية الثانية” (دار الجديد، 1996). إعادة قراءتهما في فترة يصعب فيها تصديق خبر رحيله مؤلمة. لماذا لم يترك للمكتبة العربيّة المزيد؟ هو السؤال الأكثر إلحاحاً الآن. هذا الغارق في تواضعه حتى الرحيل، هل كان يتصوّر الفراغ الذي سيتركه في المكتبة السياسية العربيّة؟

بيسان طي

كتابان هما كل ما ترك جوزف مؤلّفاً. من القطع الصغير، مكثفان كما مقالاته، لا مكان للتطويل أو للاستطراد، كأن المرء يقرأ مجلدات. كل جملة مؤلمة، الشرود ممنوع فليس فيهما كلمة زائدة.
في “قضاءً، لا قدر” يحاول سماحة أن يشرح حال الجمهورية الثانية في لبنان ــ جمهورية ما بعد اتفاق الطائف.
يلخّص موت مثقف، أي المخرج مارون بغدادي، الإشكالية التي يعيشها لبنان واليسار اللبناني. الكتاب يبحث كيف تم هذا الموت المتجاوز لموت الشخص نفسه، ويبحث أيضاً عن ثقافة سياسية مستجدة (حينها) في المجتمع اللبناني. كان الذين ينتقدونها كثيرين، لكن سماحة نجح في توصيفها بدقة كبيرة جعلت عباراته وأفكاره السند الفكري اللازم لنقد أو معارضة صحيحة.
أما “سلام عابر” فهو الكتاب المرجع، ولا خوف من القول أيضاً إنّه “الكتاب الحاجة”، قراءته تكتسب أهميّة مضاعفة بعد سنوات من التدهور العربي نحو هاويات أكثر عمقاً. في فترة متقاربة مع توقيع اتفاقيات سلام عربية ــ اسرائيلية، وبعد حرب الخليج الثانية، أعاد سماحة طرح المسألة بالطريقة الصحيحة: إسرائيل كيان ودور. ذكّر بأنها صارت المركز الرئيس للحياة السياسية والدينية والثقافية اليهودية.
الكتاب دعوة إلى حل عربي للمسألة اليهودية، يسبقها شرح مفصل للجرائم في حقّ اليهود منذ قضية دريفوس... فالمحرقة والتعاطي الأوروبي مع اليهود، ومن ثم التعاطي السوفياتي.
يضعنا سماحة نحن العرب أمام الخيار الوحيد “المهمة التاريخية الحضارية الكبرى المطروحة على الأمة العربية: هل يمكنها الارتقاء وامتلاك وسائل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الكفيلة بتقديم حلّ لـ“المسألة اليهودية”.
يواجه سماحة المتحمسين للسلام والمروجين له بأسئلة أقرب إلى التحدّي: ولا يذهب بتفاؤله بعيداً بل يضعه في أطر علمية، إذ المواجهة العسكرية ضرورية، ولكنّ الحل حضاري وليس عسكرياً لأن اسرائيل تمتلك القنبلة النووية. ويذكّر بأن السلام “يعني السيادة غير الآمنة ولا المعترف بها للدول العربية”.
يصعب تلخيص الكتاب، كل جملة فيه هي تكثيف لقضية، لسؤال، لبحث تاريخي وفكري. وهو أيضاً الكتاب الذي يظهر الوجه الآخر لسماحة، هذا الرجل الهادئ جداً في حياته الاجتماعية، لكنه المشتعل غضباً وحماسة سياسياً، صمته وابتسامته بصلابة قناعاته التي لا تتزحزح ولا تلتزم لغة خشبية. قال إننا أخطأنا في تنظيم المقاومة لكنّ فعل المقاومة مقدس، وكتب أن “كل الأضرار التي ألحقتها الممانعة بالعرب أقل من تلك التي ألحقها الخنوع”، وأنّ “وعي الهزيمة مزيج من تشاؤم عقلاني وتفاؤل إرادوي... الأفق أبيض لأنه أفقنا”.
ثم انتقل سماحة إلى تحديد التمايز بين اليمين واليسار الاسرائيليين، وإلى ضرورة ألا نتبنى نحن العرب الرواية الصهيونية عن اسرائيل، ولفت إلى نقاط انزلق إليها العرب في هذا الإطار. ولفت أيضاً إلى الأخطاء العربية المرتكبة ضد الفلسطينيين. وفنّد الأمثلة العالمية المطروحة علينا (من المروّجين للسلام) التي لا تشبه تجربتنا.
الفصل ما قبل الأخير للكتاب تتويج لمسار الكتاب وربما لسيرة الكاتب المناضل، إذ أعاد سماحة التعريف بالتجربة الناصرية التي اعتبرت التنمية مدخلاً إلى التطوير والوحدة العربية. ودعا إلى نقدها والبناء عليها.
في عام 1993، صدر “سلام عابر” كتاباً يستحيل تلخيصه. وبعد أكثر من 13 سنة يضعنا الكاتب برحيله أمام السؤال الأصعب: من يضيء الطريق؟ أو من يطرح الأسئلة الصحيحة؟



شراكة في الحبّ... والألم
أعزائي العاملين في جريدة “الأخباراسمحوا لي أن أشكر لكم كل شيء. كلماتكم، ومبادراتكم، وأعمالكم، ومشاعركم. أعلم جيداً المكانة الكبيرة التي يحتلّها جوزف في قلوبكم. وليتني أستطيع أن أردّ إليكم بعضاً من جميلكم، في مقابل كل هذا الحبّ الذي خصصتموه به قبل رحيله.

أنا أيضاً كنت أحبّه، بمعزل عمّا كان يبدو عليّ أحياناً. كان بالنسبة إليّ نموذجاً يقتدى ومثالاً أعلى. كان صديقي الحميم، ووالداً رائعاً... على رغم ما كان يتهيّأ له أحياناً.

نحن الآن نتقاسم الألم نفسه، كما تشاركنا الحب نفسه، لكنّ المشاركة تخفف من وطأة الفجيعة، أليس كذلك؟

سأراكم جميعاً يوم السبت، شكراً لكم مرةً أخرى.

زياد سماحة
(لندن ــــــ أوّل آذار/ مارس 2007)





رســالة إلى جــوزف
سامر أبو هواش

في هذه اللحظة، الأرجح، كلانا في الجو، عائدين إلى بيروت، كل من مدينة مختلفة. اليوم، بعد ساعات، ستكون تلقي نظرة الوداع الأخيرة علينا جميعاً. ستنظر إلى وجوهنا النائمة، وتبتسم وتهز رأسك، ممرّراً يدك على وجه هذا الصديق أو ذاك، مستحياً من كل هذا الحب. اليوم ستمشي بيننا. ستقول: أف، كم أنتم كثر، لكن ماشي الحال، الشراب متوافر دوماً، ويمكننا دوماً أن نطلب «دليفري» من مطعم قريب. لكن أخشى من أن بعضكم سيضطر إلى الجلوس على الأرض. اليوم ستمشي بيننا، بكل طولك، بكل وجهك، وبكل الفتنة التي تلفّك. ضع لنا شيئاً من الموسيقى يا جوزف، أم كلثوم إذا أمكن.
وستنظر بتلك الحماسة الطفولية وتقول: «لدي شيء آخر. اسمعوا. هس، هس، هس». ثم تروح تغيب عيناك وأنت تصغي الى هذه الموسيقى التي اكتشفتها حديثاً. «سخيفة» سأقول لك مداعباً، ملاعباً ذاك الطفل فيك. لكنك لن تُستفز. وستروح تشرح لي بكل صبر، وهدوء، وشغف، الأسباب الموجبة لكي أحب هذه الموسيقى، أو على الأقل أحب التعرف بها.
أجل. اليوم ستمشي بيننا. لأنك سيد السهرة، ولأن مجرد حضورك كرنفال. ستجدنا جميعاً هنا. وستعذرنا لأننا باحتشادنا ضيّقنا المكان الى هذا الحد، لكننا نعرف أن في قلبك، وفي رفة عينيك، ما يسعنا كلنا. لأنك اليوم جئت لتلقي نظرة الوداع الأخيرة علينا جميعاً. ستهمس لأحدنا: «هل قرأت كتاب وودورد الأخير؟»، وستصف لآخر نوعاً نادراً من الويسكي، وستحكي لثالث عن وودي آلن، ولرابع عن عرفات، وستدعو خامساً الى لعبة بلياردو: «سأجعلك متقدماً عليّ بعشرين نقطة» تقول لي متحدياً. «موافق» أقول لك زاعماً أنني قبلت التحدي، وفي الحقيقة كل ما أريده أن أستمتع بهزيمتي معك. لأنه في البلياردو، هناك أسرار ستشرحها لي بعد قليل. ومعك هناك سر في كل شيء. هناك سر في الكتاب وفي الأغنية وفي المقالة والفيلم، في الشراب والطعام، في البناية والمقهى. وحتى في الهواء الذي يلفنا، إذ نكون معك، هناك سر ما. وها نحن ننتظر، وننظر شاخصين أن تفضي لنا ببعض هذه الأسرار. لأنها ليست الأجوبة ما نريده حقاً، بل لهفتك النادرة، وغليان روحك وأنت تحول الأشياء، أبسط الأشياء، وأعقدها الى أسرار فاتنة، والى خصل مجدولة من التوق، تجعل الحياة تستحق أن تُعاش. لعلك اكتشفت باكراً كم هي الحياة مضجرة، فحرت تخترع لها الأسباب. لعلك اكتشفت كم هو مضن أن يحيا المرء كل ساعة وكل دقيقة، فحولت كل يوم الى حياة كاملة، إلى لعبة لا تنتهي، إلى حكاية متصلة، وولع لا ينطفئ.
هكذا، أحسبك اليوم تمشي بيننا. تلقي علينا نظرة الوداع الأخيرة. تبحث بيننا عمن هم مثيرون للاهتمام للتحركش بهم وتلاعبهم وتتحداهم، وتبحث عمن هم غير مثيرين للاهتمام وتحاول أن ترمي في قلوبهم بعض الجمر. لعلها المهمة التي أوكلت نفسك بها، في العيش وفي الصداقة وفي السياسة والنضال.
لعلك قلت باكراً لنفسك: مساكين هؤلاء الأولاد، هؤلاء الأصدقاء، سأخترع لهم لعبة مسلية، سأعثر لهم على حجة للصباح وللمساء، للتكلم، والضحك، للحزن والنوم.
سأصحبهم في رحلة لا تنتهي إلى قلبي.
ولن تنسى، إذ تمشي بيننا اليوم، أن تلقي نظرة فاحصة ولكن سريعة، على الجميلات. هناك الكثير منهن اليوم. جئن وفي عيونهن كل أمطار العالم، وفي قلوبهن كل فجائع الأرض.
لكنهن جئن جميلات من أجلك، لأنهن يعرفن كم تحب الجميلات، وشحذن كل ما فيهن من ذكاء، لأنهن يعرفن أن جمالهن بالنسبة إليك يبدأ من رؤوسهن.
ستمشي بخفر بينهن، لأنك تحب ذلك. تحب أن تملأ المسافة بينك وبينهن بتلك الفتنة الصامتة، وتروح كطفل تنتظر المفاجأة التي هي أيضاً أن ثمة ما يستحق.
أجل، يا جوزف، كما في النساء، كما في كل شيء، كل نقطة فيك تقول شيئاً واحداً: ثمة في هذه الحياة ما يستحق. تستحق الكلمة أن تقال، والضحكة أن تدوّي. والدمعة أن تنفجر، والسهرة أن تُعاش.
«إيه رأيك بخفافتي/ إيه رأيك بظرافتي»، وتسألني: «الذي يغني هل هو رجل أم فتاة؟»، ثم: «لدي حزورة لك». «تفضل». «السبت فات والحدّ فات وميعاد حبيبي يوم التلات»، وتسأل: «في أي يوم يتحدث عبد المطلب؟». هاي يا جوزف. ربحت يا صديقي كل الحزازير دفعة واحدة، وبقيت أجمل الألغاز، وأوضح الألغاز، وأبسط الألغاز.
ها أنت اليوم تلقي علينا نظرة الوداع الأخيرة. تعتذر عن حرقة لا تشفى: «لم يكن قصدي»، وعن ألم لا ينتهي: «هذا ألمي أيضاً»، وعن وحدة قاتلة: «أنا أيضاً وحيد». لكنك يا ساحرنا، يا ساحري، يا سيد الحيل والمفاجآت ستُخرج لنا من قبعتك العجيبة ما ضاقت به حياتنا من ضحكات. وستدلّنا إلى موضع الأمل. لا، إلى مواضع الأمل الكثيرة. وربما، ربما خلال جولتك هذه، خلال نظرتك الأخيرة علينا، ستلمح الأشرار منا. وستنظر إليهم تلك النظرة الساخرة المشوبة بالغفران، وتمضي من دون أي تعليق.
في صمت حضورك وأنت تودعنا إلى مثوانا الأخير ستهمس كلمة صغيرة أخيرة: «فلسطين». وستقول في سرّك هذه التي هي أقرب النساء وأجمل النساء وأصدق النساء، خذوها معكم تدفن أسرتكم الباردة وقلوبكم التي يكاد يأكلها الصقيع. والآن، إذ أودّعكم إلى مثواكم الأخير، تقول لنا، لا تحزنوا، فقد عشت حياتي كلها حتى الرمق الأخير، حتى الامتلاء. وسترمي حزورة أخيرة. لتتأكدوا من ذلك، ستقول لنا، اجمعوا كل ما في قلوبكم من فرح وحزن، من غضب وأمل، من توق ورغبة، من عشق وشغف واشتعال، وقوموا بعملية حسابية بسيطة، وستجدوا أنها كلها لا تساوي نقطة في بحر قلبي، ولا لمعة من لمعات عيني.
لكنك أكثر تواضعاً من ذلك. يا صديقي يا جوزف.
وأنت أكثر من كل هذا الكلام.



ما أقسى هذا الرحيل

(إلى فواز طرابلسي وحازم صاغية وطالع السعود الأطلسي، إلى أميّة سماحة وزياد سماحة، وإلى زياد الثاني... ابن عاصي الرحباني
عبد الإله بلقزيز

رحل جوزف من دون استئذان، ألقى نهايته بعيداً وصعد الى حتفه. لم يوفر لنا ــ ونحن الأصدقاء والأهل ــ فرصة الوداع الأخير، وداع من لا يليق الوداع إلا بمثله. «اختار» أن يشيعنا بعيداً عنا: هناك في لندن، في بيت صديق له أحبه منذ الطفولة (= حازم صاغية)، وظل لصداقته وفياً على تباعد بينهما في المواقف والخيارات، وكان ذلك دأبه دائماً مع الأصدقاء: مع الذين قاسموه في الضراء محنة التجذيف الصعب ضد التيار الجارف بغير قليل من روح البطولة «المستحيلة» التي قد لا تطلب من بطولتها غير تحرير الذات من الشعور القاتل بالتخلي عن واجب الطهارة والنقاوة، ومع الذين أعياهم التجذيف في منتصف الطريق، فآثروا ان يدثروا قصر النفس أو رخاوة الممانعة بإكسسوارات إيديولوجية من إنتاج «شركة» «الواقعية السياسية» التي كان يمجّها جوزف مجّاً ويدعو في مقالاته الى مقاطعة بضائعها.
رحل جوزف ولم يكن قد قال كل شيء في مسائل عديدة يوحي ما كتبه عنها بأنه قال فيها «كل شيء». كان في جعبته الكثير مما يقوله في أحوال زماننا ومما ليس يقوى غيره على قوله بمعايير الكفاءة والاقتدار وبمعايير الشجاعة التي لا تعدلها في قول الحق شجاعة قلم في هذه الديار. رحل تاركاً أزمة لبنان على استفحال ومحنة فلسطين على مليون احتمال. رحل تاركاً بين أيدينا ألف سؤال تلقيه علينا المرحلة من دون أن نعد عليها جواباً يشفي غليلاً أو يقترب قليلاً مما آنسته مفرداته ومعادلاته التي تزف الغامض الى الواضح والمستعصي الى الممتكن. رحل جوزف الذي كان يقتدر على استلال الموقف الصحيح من براثن اللحظة الفاجعة، وعلى جعل قارئه قادراً على تنظيم علاقة الالتباس بين مشهد عبثي أو سوريالي بلا شخوص وبين كلام واقعي يبحث في مسرح السياسة عمن ينطق به على خشبة الأحداث.
رحل جوزف في لحظة ادلهمّت واستغلقت قسماتها الرمادية على التبيّن. هي لحظة الإعجاز: إعجاز اللغة عن العبارة عمّا وراء الملتبس والغامض بمفردات تستكنه وتبدد، إعجاز الفكر عن التصدي والصمود أمام تدفق جحافل الأسئلة عليه. هي لحظة جوزف بامتياز. وحده لا يعجزه الالتباس واشتباك الظواهر إعجازاً ولا يهن قلمه أمامهما، بل يندفع مقداماً ليفكك المركب ويفتح أمام الوعي أفقاً لاستيعاء المجاهل. وحده؟ قلت وحده وما زال القلم أو شطح الوعي أو تزيدت العبارة، لأنه ــ حقاً ــ وحده كان في مكنه أن يبدد الأسئلة القلقة عن اللحظات الأكثر قلقاً. دلّوني على نص لجوزف ارتجف يوماً أمام الغموض أو ترهلت مفرداته أو سكنتها سنة من تلعثم، أعتذر لكم عن «شططي» في الحكم إن أفلحتم... ولن تفلحوا.
رحل الذي كان يزوّج الممارسة للنظرية ويحكم الوشيجة بين اليومي العادي وبين الاستراتيجي البعيد المدى. شرّف السياسة والصحافة التي أتى إليهما من الفلسفة فضخّ في شرايينهما دماء التحليل والتركيب والاستنباط والتجريد ليرتفع بالمقالة السياسية الى نصاب النص الفكري الثري. وشرّف الفلسفة بأن حوّلها إلى معرفة ملتزمة وقادها الى أداء أدوارها المفترضة كمعرفة في خدمة المجتمع والإنسان وقضاياهما، وكعين يقظة لحراسة الحقيقة من لسعة الزيف.
كان جوزف مثالاً نادراً لليقظة الفكرية أمام الرثاء السياسي وزبد الكلام الذاهب الى اختطاف النباهة أو التحايل على المعنى العميق للأشياء. كلفه الحفاظ على لياقته الذهنية رياضة العقل على نصوص من الفكر لم يقطع صلة بها فيعز انغماسه في مقاربة اليومي المتغير، لأنها طريقته الوحيدة للتمرين على جبه أحابيل الخطاب والفخاخ المنصوبة للوعي في تضاعيف مفرداته وأزعوماته الضمنية أو المؤسسية. وكان مثالاً نادراً لممارسة فعل السدانة المبدئي لمنظومة الثوابت والمبادئ الوطنية والقومية والديموقراطية والإنسانية وحفظها من التلف أو التلويث. ظل موضوعياً في التحليل وصاحب موقف في الآن نفسه. لم يهبط يوماً الى لغة الأيديولوجيات والتبرير، لكنه ما ساوم أبداً على ما حسبه في جملة المبادئ. حين تشتد حلكة المرحلة ويزحف يأس في النفوذ، يقود قتاله التراجعي نحو خطوط الدفاع الأخيرة: الثوابت، فيستميت مدافعاً. وكم وجد نفسه، أحياناً، يقاتل وحده دفاعاً عن جومة المبدأ حين غيره يلوذ بالصمت أو الفرار أو حين يمارس حق اللجوء الى الأدب بعدما أقفرت ساح السياسة أو سرت في أدغالها الضواري.
لم يخلد جوزف للصمت في مواجهة النوائب والملمّات، ولم يفر من معركة طلباً للسلامة الشخصية، ولا لجأ الى الأدب تعويضاً، بل أتى بالأدب الى السياسة والصحافة واستضافه في نصوصه كأرقى ما تكون الاستضافة وألذ. أما الذين صمتوا أو فرّوا، فكان في قلبه متسع للمغفرة لهم، وخاصة حينما يمسكون اللسان عن النيل من ماضيهم. أما الذين قدموا توبتهم وتدافعوا بالمناكب لتلاوة فعل الاعتذار عن ماضيهم (الثوري، القومي، الوطني) أو لتأجير ألسنتهم الى من يشتري اعترافاتهم عن أنفسهم حجة عليهم وعلى سلالتهم، فأولئك عند جوزف هم «الكافرون» ويجوز ــ عنده ــ تطبيق «حدّ الردّة» فيهم الذي هو ليس أكثر من تسفيه آرائهم لدى الجمهور والتشنيع على تراجعهم وجعلهم يدفعون ــ نفسياً ــ بالنفس. ولقد كتب جوزف أجمل الصفحات وألذها عن مثقفي التوبة والاعتذار في كتابه الرائع: سلام عابر. وليس يخامرني شك في أن أياً من أولئك التائبين ممن قرأ ما كتبه جوزف عن توبتهم قرأ الذي قرأ وهو ناقم على نفسه محتقر إياها إن كان قد بقي في نفسه نزر يسير من الكرامة وعزة النفس.
لجوزف أكثر من سلطة في أوساط من عرفوه مباشرة، أو من عرفوه قراءة: سلطة معرفية يعترف له بها الخصوم قبل الأصدقاء، وجاذبية ساحرة في شخصه يساق تحت إغرائها الرجال والنساء، وسلطة أخلاقية حولته بامتياز الى ضمير جيل ومرحلة. سريعاً تحول جوزف الى «ترمومتر» نقيس به درجة حرارة الأشياء والمواقف صحة أو اعتلالاً، وتحولت نصوصه الى ما يشبه «التعاليم السياسية» التي على المرء منّا ان يحفظها قبل ان يجذف في بحر المواقف والأحداث. وحين يتردد في نفس الواحد منا صوتان ويأخذه التلبّد في المشهد الى حافة الحسم بين رأيين فيه يتجاذبان، يجد نفسه منقاداً تلقائياً الى معرفة الموقع الذي يقف فيه جوزف. فهناك فقط، هناك يطمئن الى موطئ قدمه.
جوزف، أيها الذي غادرنا وألقى بنا في اليتم المعرفي، من بعدك يفك لغزاً ويفكّك أسئلة؟ إنّ التفكير الاستراتيجي بعدك «مغامرة غير محسوبة». جوزف، ما أقسى هذا الرحيل.




جاء الموت ليقتلنا يا «ابن العكّاريّة»

أحمد مغربي

لم تكن السيارة المُفخخة التي وشت عيوننا لك بخوفنا من أن تلتهمك، كما فعلت بسمير قصير وجورج حاوي قبلاً. لم تكن الحرب التي بات انتظارها يُخالط أنفاسنا، كما خالط كلمات مقالاتك أخيراً. هل صحيح أن الفعل الماضي بات يتولى وصفك، وأنت، المطوي على حضور خيال ابتسامتك الهادئة، فعل يومي في حياتنا؟ هل صحيح أن الموت سافر معك من بيروت، حيث يتأرجح ظله الثقيل منتظراً أرواحاً باتت على حدّ السكين، الى لندن حيث خطف قبلك بأيام مي غصوب: صديقتك وزوجة صديقك العزيز حازم صاغية؟ هل كانت روحها متلبّثة في ثنايا المنزل اللندني البارد، منتظرةً صحبة بهية وروحاً هائلة الشفافية والعذوبة كروحك؟ على أي حلم أغمضت عينيك، وأي شيء شهدت قبل الموت بلحظة؟ طفولتك القاسية؟ هل مرّ الموت هيناً كجناح فراشة في الحلم زاه بطيء؟ لعله عاد ليستلّك من الحلم: الأب الذي عاد من الغربة في السعودية جثة هامدة، بعدما اعتصرت شركة «الكات» دماء جسده، الذي تاجروا بقدره بمقدار ما اغتنوا بخسة من تجارتهم بدم اللبنانيين ممن قتلوا في الزلزال في الخمسينيات؟
ألم يكن ذلك «الدرس الطبقي الأول»، كما دأبت على القول، وعلى رغم قلة ما كنت تبوح؟ أم استردّتك من أحلامنا أمك، التي يصعب أن تُحَب أم كمثل حبك لها؟ كم تفاخرتَ بوقفتها في وجه وحوش الطائفية والتمييز الاجتماعي والإقطاع السياسي، وكيف أنها عضّت بالأنياب على قسوة الحياة لتعطي أبناءها علماً وانتماءً أصيلاً للفقراء. وقلبت لقب «ابن العكارية» من لفظة ازدراء عنصريّي المجتمع اللبناني الى فخر للساعين إلى الحرية والتقدم في لبنان. تذكر لتلك «الأُم العكارية» وقفتها في اضطرابات عام 1956 في وجه أساطين الطائفية والإقطاع السياسي وأصحاب «الدم الأزرق»، وتصدّيها لمسلحي الكتائب، وعدم خشيتها من إعلان انتمائها الصريح الى المسحوقين والمدافعين عن عروبة لبنان، إذ تصدت باليد العارية، المملوءة عزماً، لمن لا يرون لبنان إلا مسلوخاً عن حضارته وثقافته ومحيطه العربي الطبيعي. كانت تلك الأم فخرك. لم تكن السياسة، وهي حبيبتك الأكثر دلالاً وأذى، لتحضر على لسانك من دون البشر الذين تطحنهم في ثوبها القاسي. وهكذا كنت دوماً، الإنسان عندك أولاً، سواء في السياسة أو الثقافة أو غيرها. أذكر حديثك عن صديقتك دلال بزري، في معرض تذكّرك لما سبق اندلاع الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي.
تحدثت عن النقاشات السياسية المتوترة في كافيتيريا الجامعة اللبنانية التي جمعتك مع دلال وعرّفتك بالكثير من أصدقائك الذين رافقوك بعدها. (كيف يمكن من عرفك ألا يتابع سيره مع قدميك المتعبتين وقلبك المرهف وروحك الشفافة)؟ تتحدث بسخريتك اللاذعة واللذيذة (هل حقاً لم تعد على الأرض، والى الأبد؟) عن تلك التظاهرة التي انهالت فيها دلال بالحجارة على الشرطة، فأشبعوها لكماً وضرباً حتى صارت كتلة زرقاء. لقد تذكرت تلك الحادثة في معرض المقارنة مع قمع النظام الأمني السوري ــ اللبناني المشترك لتظاهرات أنصار العماد عون في صيف عام 2003. حينها، راقك أيضاً أن تتذكّر ذلك الشعار الذي تفجّر على حناجر جيلك «وينا وين ثكناتك يا عسكر... وين دورياتك... عسكر على مين... يا عسكر... عالفلاحين يا عسكر... بتمشي وتتمختر يا عسكر... صورة بتتصور يا عسكر... عن قياداتك». وقد ظهر الشعار نفسه حينها، في مقال صديقك سمير قصير، ثم على غلاف كتابه أيضاً. ومن صيدا امتدت أيدٍ لتصافح أيامك، من نزيه حسنا الى وليد بلولي. عرفوك صلباً وعميقاً ومناضلاً ومثقفاً. تذكر لهما صدامهما مع الدرك قرب البرلمان.
بقيت أميناً لذلك الحلم الهائل الذي تمدّد في غرّة السبعينيات مع اندفاعة اليسار الذي منّى النفس طويلاً بولادة لبنان الوطن وبالقضاء على النظام الطائفي للكيان اللبناني، وبأن يأتي يوم المواطن، بدل ابن الطائفة، وأن يجيء يوم للحرية والعدالة في لبنان...
وظللت أميناً لذلك الحلم، وجددته باستمرار وأضفت أبعاداً ثقافية عدّة لذلك الحلم اليساري، كما النهر يظل لمجراه أميناً لكنه يتجدد باستمرار. بصراحة، الآن، في قلب مطحنة الألم، يسهل على قلبي نسيان ذلك كله، لكن يصعب عليّ نسيان... ابتسامتك.
همسة وداع: كنت أنت فخرنا... لا أدري إن كُنّا نستأهل ما أعطيتنا... ولا أعتب على أنك تركتني لفراق مرير ولموت يتربص لقتلنا جميعاً.