محسن صالح *
الدولة والمقاومة ظاهرتان اجتماعيتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى.
فلا دولة أنشأت سلطاتها ومؤسساتها من دون مقاومة إلا نادراً، ولا مقاومة اجتماعية ثارت وباشرت حركة قوتها من دون الإحساس بالحاجة الى تغيير يؤجج ويفعّل مقولات الثقافة كي تكون المقاومة شاملة وعلى مستويات شتى، لأن المخوّلين القيام بسلطة الدولة ليسوا من فئة اجتماعية أو اقـــــتصادية أو دينية بعينها.
ولكل من المقاومة والدولة هدف وغاية. وقد تكون المقاومة بلا دولة، وقد تكون دولة مقاومة، لأن أغراض المقاومة وأهدافها تشارك وتتواطأ مع مقدمات الدولة وعملها من حيث المشاركة والتنظيم والفعل والتغيير، والأصل هو المقاومة لأنها مبدئياً أعم من سلطة الدولة. والدولة هي الفرع والناتج من المقاومة، لأنها أخص ووظيـــــــفتها ينــــــــيطها بها مجتمع المقاومة، وليس العكس. ومن حق الشعــــــب الذي اكـــــتسب كــــــل حريته واستقلاله أن يطالب بدولة، ومن حق الشعب المهدد بالاحتلال دائماً أن يسعى إلى المقاومة ويحافظ على روحيتها.
واليوم تسري في عروق بعض اللبنانيين فورة متلهّفة لرؤية «الدولة» الشرعية تنتشر فوق كل الأراضي اللبنانية، وفي عروق بوش وكوفي أنان أيضاً.
وتسري في عقول آخرين أسئلة عن ماهية الدولة، ومكانتها، ودورها ووظيفتها ووجودها الفعلي عبر المحطات التي هوى فيها لبنان تحت ضربات دولة «العدو» الناشئ حديثاً «الكيان الصهيوني»، حيث «الدولة» تستبيح وتغزو وتبني مستعمرات ولا من يقف يدافع عن الأرواح والممتلكات. المفترض أن الدولة اللبنانية تمثل شرعية حقيقية مقابل شرعية مزيفة مبنية على قوة عنصرية مدعمة بقرار دولي ظالم وغير شرعي يعطيها حق الوجود على أرض مغتصبة. آخرون ينظرون إلى أن الدولة، وخاصة في العالم الثالث، وفي زمن العولمة تحديداً، لم تكن يوماً تمثل آمال وطموحات الشعوب التي تدّعي تمثيلها أو تحمل همومها.
في الواقع أنها تتسلط على هذه الشعوب وتستبدّ بمصائرها، بمعنى أنها تمتلك كل أدوات السلطة والقهر (القانون والقوة).
دعوى الرأي الأخير أنه لو كانت هناك دول لما كانت نسبة الفقر والبطالة والتخلّف والأميّة والفساد والظلم والسجون من دون محاكمة والمحسوبيات، والأمضى من ذلك الاعتداءات الخارجية واحتلالات الأرض ومصادرة الممتلكات والرأي وسجن الآلاف بتهمة معارضة الاحتلال ومقاومته (!) واغتصاب الحقوق والاستزلام والعمالة (وهذا رأي تقارير التنمية العربية كلها). وفوق كل ذلك الإذعان حتى العبودية أحياناً لدول ظالمة ومحتلة وغازية لثقافة شعوب هذه «الدول» وداعمة لأعدائها على كل المستويات. تستعمل مع شعوبها العنف والبطش لإذلاله وتذعن لعدوها لأنه أقوى. إنها مفارقة أدت الى سخط شعبي علني ومستتر بين طبقات المجتمع كافة. وهكذا أُفرغت الدولة من مضمونها التاريخي والإنساني الحر.
فأين نحن هنا حتى من دولة الرومان أو السلطنة العثمانية أو الدولة النابليونية، أو حتى الدول الفردية المكيافيلية، «دولة القوة الباطشة» التي كانت تحمي مواطنيها و«أوطانها».
أين دولة الرعاية والتنمية المستدامة والديموقراطية والحرية... أين الدولة في المناطق التي تُركت لقدرها عشرات السنين، أين كانت قوانينها التي تحمي المواطن والوطن.
فقد شكلت فكرة الدولة ومفهومها هاجساً مستديماً للمفكرين والفلسفة وللحكام منذ بدء التجمعات الإنسانية، ذلك من أجل الحفاظ على أمن المجتمعات المتجانسة ثقافياً والموجودة على مساحة جغرافية محددة، أو قابلة للتحديد. إضافة الى التنظيم الاجتماعي من حيث الوظائف الفردية والطبقية والجيوش والصناعات والولاءات الداخلية وتحديد الأصدقاء والحلفاء والأعداء.
دولة المدينة المنورة في حياة الرسول الأكرم (ص) مثلاً آخت بين المؤمنين وحرّمت دمهم وأملاكهم وأعراضهم، وهم ملة واحدة من دون الناس، وحددت العلاقات وأوجدت الطمأنينة بينهم في ذلك الزمان.
ويعتبر أرسطو «أن الدولة، كل الدولة، نوع من المشاركة، وكل مشاركة، تتم من أجل الوصول الى منفعة وخير...» أسمى. والدولة، أو المشاركة السياسية، يجب أن تقوم على الإخلاص للقوانين والكفاءة في أداء المهمات والوظائف والفضيلة والعدالة لأن القوانين عادة ما تكون منسجمة مع طبيعة كل بيئة اجتماعية على حد تعبير فولتير. هذه الشروط أولية لإقامة علاقة صحيحة بين الحاكم والمحكوم. والحاكم هو من أُوكلت إليه مهمة الحفاظ على الرعية. أمن الأفراد وحمايتهم، ومنع التعدي على أملاكهم وخصوصياتهم. أكان لهذه المهمة بعد ميتافيزيقي أو بعد أرضي. فأصحاب العقد الاجتماعي من الأوروبيين أمثال جون لوك وهوبز وغيرهم والمشرّعون المسلمون يسلّمون بأولية هذا الواجب للدولة.
أتى الاستعمار الأوروبي الحديث كي يلغي كل هذه القيم ومسلّمات قيام الدول للآخرين. ومن قيام دولة الاغتصاب الأولى في أميركا الشمالية وذبح أكثر من سبعين مليون هندي أحمر ــ هم من سكان أميركا الأصليين ــ أُبيدت حضارة بكاملها وأقيمت دولة غير شرعية على أنقاض شعب وأرض آخرين. هذه الإبادة الجماعية الفظيعة أذنت وشجعت على قيام كيانات استيطانية في غير مكان، في الجزائر وفي جنوب أفريقيا (حيث فشل الاستيطان بفضل مقاومة هذين الشعبين) وفي فلسطين (التي لا تزال محتلة).
كانت، ولا تزال، المقاومة هي أداة القوة الشعبية الوحيدة التي يلجأ إليها مواطنون كي يحرروا بلدهم وكي لا يشعر المستعمر بالاستقرار والاستيطان والهيمنة.
فالمقاومة، إذاً، هي فعل واجب على كل مواطن حر قادر على الدفاع عن وطنه وأمته، وخاصة عندما لا توجد دولة حامية، وترك هذا الأمر هو إما مشاركة لهذا المستعمر أو إذعان يؤدي الى العبودية فتصبح الأرض والأرواح ملكاً للمستعمر.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* أستاذ جامعي