أنسي الحاج
هناك كلام لا يُقال إلّا في البراري.
وحدكَ، وجهكَ لوجه البرّيّة.
كذئبِ الصدق على عرشه.


***



قَبْل الشروق أو قبل المغيب،
تَصِل، تَدْخل، وتُعْلن.
لا شيء أعمق من إصغاء البراري.


***



ماذا تعلن؟ ما يمور فيك ويحار، ما يُمزّق الضمير، ما يُخجّل ويُعاب. تعلن سرّك.
تعلن الخوف
الإعجاب
الحبّ.
الخوف من فقدان التوازن، من الارتطام في العتم بعضنا ببعض، من التشظي حماقةً، من الخوف، من فقدان التمييز بين النفاق والتسوية، فالثانية تَواضُع محبّةٍ بعيدة النّظَر، والأول خيانة.
الخوف لا من الغوغاء بل من النخبة لأنها أوّل مَن ينحني للغوغاء، ولأنها هي قائدتها ومستغلّتها. الخوف من جبن الرأي واستقالته فزعاً أو ارتشاء. الخوف من المزايدات تملّقاً لجماهير وهميّة، تبقى مفاعيل المزايدات خراباً، وينرفع الستار لا عن جماهير بل عن ضحايا.
الخوف من الذين يزيدون الخوف.
هذه المخاوف وغيرها أخطر، لا تُقال إلّا للبراري، براري الطبيعة وبراري الأشخاص،
البراري المطمئنة
كرسي اعتراف الكون.


***



البراري الجبّارة السحيقة، الخافية شرّها بجمالها، ووحشيّتها بالفواكه، البراري الحانية على الزقزقة وعلى الجريمة، براري الحضور الإلهي البدائي والغياب الإلهي الحيّ
اعهدْ لها بصوتك المكبوت، بفجورك وتمرّغاتك. الطبيعة تُحبّ أن تختبئ، كان يقول هيراقليط. ربّما لذلك يقصدها الهاربون، وأولئك الذين فَحْواهم أكبر من آذان الناس ومن قلوبهم، والذين بَرّح بهم الصمت وأنهكَتْهم المواربة، فصارت بهم حاجة إلى الصدق لا تتّسع له إلّا الأحضان الموحشة، الأحضان المختبئة.
طهّر روحكَ من أشباحها
ولا تقل خوفك وحده بل أيضاً أَمَلَكَ وإعجابك. هنا تقولهما في أمان، فالأشجار لا تغار، والسماء شريكة، والأرض هي الأرض.


***



... وتقول حبك.
حُبّ!؟ بَعْد!؟
إذا أردتَ.
لا تَخَفِ الساخرين. ما من أحد هنا غير خيالات الأزل. البراري وَطَنُ الأقليّات.


***



وهل تَحْسب التوق إلى البراري حاجة للأفراد وحدهم؟ أبداً. بل للشعوب أيضاً. الشعوب الأطفال أكثر من الأطفال، الشهيدة عن بكرة أبيها.
شعوب تُمْنَع من حقّ التوقف لحظة عن اللهاث لاستجماع أعصابها، تُمْنَع من حق بديهي بسيط هو حقّ التأمّل. لا حقّ اللقمة والمعرفة والصحّة والسلام، بل حقّ ثوانٍ من التأمل. شعوب تُغَرّق في متاهاتها اليومية والدهريّة، تُرمى في الإبادة الذاتية، في الأوبئة المفتعلة والمشجَّعة والمسكوت عنها، في المجاعات الممنهجة، في إضاعة الفرص.
شعوب ليتنا نستطيع أن نَخْلُق لها براري في حجمها، في حجمها الملحميّ المروّع، ونحرس لها هناك حقّ الصراخ والبكاء، حقّ نبش التراب وتمزيق الأرض، حق الدعاء والكفر، حقّ الركض والقفز وتسلّق السماء، حق الحصول على جواب.
كيف، مثلاً، لعاشقٍ أن يَعْشق في العراق
لشاعرٍ أن يتفتّح في أفغانستان
لملحد أن يَنْبغ في الحجاز
لطفلٍ أن يكون طفلاً في لبنان؟
كيف لناسكٍ أن يُسرّح الفكر في فلسطين
لمتأملٍ أن يتأمل في دارفور
لفيلسوفٍ أن يقرأ رؤاه في أفريقيا المصلوبة على خشبة الإيدز؟
كيف لعاشقٍ أن يَعْشق في قارة الإيدز؟
كيف لأفريقي أن لا يكون فريسة؟
شعوب تُرْمى في ملاعب الموت وشعوب ستُرمى.
تُصْلَب في معيشتها وتُتْرَك في أمراضها وتُرْكَلُ ركلاً وهي تموت.
ولا لحظة رحمة. ومن أين لهذه الذبائح أن تتأمّل؟
مجرّد التأمل لا النجاة، لا الشفاء. فقط حقّ التأمل البسيط الفقير المسكين، التأمل في الحال والمصير، أقل حقوق المحكوم بالإعدام، أقلّ حقوق المحتضر، آخر الممتلكات، ممنوع التأمّل.
هذه الغرفة المنعزلة في رأس الجبل، المحميّة في أقاصي الرأس، هذه الحريّة التي كانت معطاة لمَن ليس معه، حريّة التأمل أصبحتْ وقفاً على «الشعوب الحاكمة». شعوبٌ تَسْتشفي من أمراض دلالها وشعوبٌ تُحرَقُ حيّة. شعوبٌ تَنْعَم بحدائق الضجر وشعوبٌ لـــم يـــَعُــد لها ولا هامش للمرارة.
أين تصرخ هذه الشعوب؟ أيّة بَرّيّة تتّسع لها؟ صارت الأرض والسماء أضيق من الشاشة الصغيرة. أعطنا براري أيّها الساحر، وسّع للمخنوقين، أين أنت أيّها الساحر!؟


***



هل حقّاً أنَّ النّدَم هو دموع تحجّرَتْ على الماضي؟ ولماذا إذاً يَظْهر أحياناً كموقف مُسْبَق من المستقبل؟
هذا أيضاً قلْه للبراري. مغفورةٌ هناك دموعكَ وضحكاتك. مغسولةٌ نداماتك وحسراتك.
البراري تُناديك، وإذا لم تَجدْها اخترِعْها.
البراري تناديك
اذهبْ وادخل بيت أبيك. بيت أمّكَ وأبيك.
أسرع
قبل أن يضيع منكَ كنزُ الألم.