ليس جبل محسن بالجبل فعلياً، هو مجرد حيّ طرابلسي يعلو حيَّين وتعلوه أربعة. وخلافاً لما يشاع، هو ليس حصناً عسكرياً، فلا مستشفى عسكرياً فيه ولا ملاجئ أو مخازن أطعمة وينابيع مياه أو ممرات سرية تنقذ قاطنيه في اللحظات الأخيرة، في ظل إغداق السفن على خصومه بأسلحة يفترض أنها أكثر حداثة من أسلحة الجبل بكثير. لذلك، ليس في الجبل من يعتقد أن موازين القوى الحربية يمكن أن تميل في يوم من الأيام لمصلحته. لكن في الجبل من يفضل الموت على إعادة عقارب الساعة إلى زمن تحتاج الروايات عن معاناة أهل الجبل فيه ألف ليلة وليلة. فيه من ينتبه إلى غدر المقربين منه به أكثر من المبعدين، كحال الرئيس نجيب ميقاتي عندما استثنى علي عيد أول من أمس من اجتماع الفاعليات الطرابلسي وتكليفه مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار إكمال مصالحة 2008، رغم إعلان عيد مسبقاً رفضه التعاون معه. وفيه أيضاً من يحسن صيد خصومه: لم يكد الجبل يقتنص قائد مهاجميه الميداني خالد البرادعي مساء أول من أمس، حتى لامس جنون السلفيين ذروته في عاصمتهم المستحدثة في بلاد الشام ــ طرابلس.
لم ينم السلفيون منذ أول أيام العيد، يريدون اختراقاً ما، نصراً صغيراً يتيح لقادتهم إعلان إنشاء جيش السنّة الحر ومطالبة الأهالي بالبيعة. وإذ برصاصة الجبل تخترقهم قاتلة أبرز قادتهم. جُنَّ جنونهم. خرجت سيارات الدفع الرباعي من تحت الأرض، من شتى الأحياء بلا استثناء. واندفع الرصاص والقذائف مع الأدعية والرايات السوداء وبعض أعلام الثورة السورية والتكبير. وتدافع في بعض شوارع المدينة مئات تبدأ أعمارهم بالعاشرة ولا تنتهي بالخمسين. واختفت ملامح الوجوه والعيون خلف اللحى والكوفيات. واختلطت اللهجات: العكارية بالطرابلسية بالفلسطينية بالسورية على تنوعها والمصرية والتونسية. وفي ظل انقطاع الكهرباء وتشتت القوى الأمنية وانبهات الجيش، ضاعت المدينة. يمكن أبناءها أن يرووا لساعات عن ليلة الجحيم تلك. عن سيل الرصاص كالمطر في كانون وعن البرق واللمع. «كنا قد سمعنا عن اجتماع فاعليات المدينة في منزل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي»، و«كنا قد سمعنا عن الهدنة والخطة الأمنية وتلويح فخامة رئيس البلاد بالاستنابات القضائية للمخلين بالأمن». ثمة باختصار فرق شاسع بين ما يسمعه أهالي المدينة أنفسهم وما يحصل في مدينتهم.
أصاب السلفيون الرئيس نجيب ميقاتي، أوقعوه أرضاً في منزله الطرابلسيّ؛ إذ بدا لمختلف المتابعين أن الرئيس ووزراءه وفاعليات المدينة ومشايخها الرسميين في مكان، وأهلها في مكان وأرضها في مكان آخر. كانت الجنة في قبضة السلفيين، باتت الجنة والأرض في متناولهم. فما كادوا ينهون صلاتهم فوق جثة قائدهم ويوارونه في الثرى، حتى سرعوا خطاهم باتجاه الحرب الأهلية: ها هم يحرقون متاجر وقد اكتشفوا بعد خمسة عقود من الجيرة الحسنة أن أصحابها شيعة أو علويون. ها هم يتوعدون بمكبرات الصوت بعض الأسر العلوية المقيمة في أحياء غدت فجأة سنية. وفي ظل صمود الجبل العجيب، لا بد من ضحية: رئيس حركة التوحيد بلال شعبان هو الخصم العسكري الأقوى للسلفيين خارج الجبل، يتبعه الوزير فيصل كرامي الذي يفضل بعض قادة السلفيين تحييده الآن، فالحزب القومي وبعض العائلات، وأخيراً حركة التوحيد ــ جناح الشيخ هاشم منقارة.
خلافاً لما يشيعه الإعلام، لا علاقة للمسلحين بفقراء المدينة. لاذ أولئك بالصمت والجوع في منازلهم أمس وأول من أمس بعدما حول المسلحون أسواقهم إلى خطوط تماس، ومتاجرهم إلى ملاجئ، وعرباتهم إلى ناقلات عتاد. فقراء طرابلس أوهن من أن يحملوا بندقية، أطيب من أن يقتلوا جارهم، أبرأ من أن يحتكروا الله. لو فكر المهتاجون بالفقراء، لأحرقوا منازل حيتان المال والسلطة في المدينة. لو فكروا بالفقراء، لنهبوا خزائن هؤلاء وأتوا بأوراقها النقدية الخضراء يدفئون بها الفقراء ألف شتاء وشتاءً. لو فكروا بالفقراء، لنهبوا ربطات عنق أصحاب الوجوه النضرة ليطعموا بثمنها ألف عائلة وعائلة. لا يحرق الفقير منزل فقير آخر أو متجره أو عربة كعكه، وحدهم المتمذهبون يفعلون ذلك.
هؤلاء عمّرهم تيار الرئيس رفيق الحريري وعلمهم وكبرهم، سمّنهم الرئيس نجيب ميقاتي ظاناً أنه قادر على السيطرة عليهم، يحميهم وزير المال محمد الصفدي فيقلهم بنفسه من السجن إلى خطوط التماس، يسترضيهم الوزير فيصل كرامي، يركض أمامهم النائب روبير فاضل وزوجته، ويغازلهم يومياً مصباح الأحدب. بهم يرفع اللواء أشرف ريفي رأسه وبه يرفعون رؤوسهم.
ودعت طرابلس في العيد طرابلس قبل العيد. كانت أمس مدينة أخرى: مدينة بشعة. خرجت باب التبانة من باب التبانة إلى الأحياء الأخرى: إلى الزاهرية بطولها وعرضها، إلى القبة وأبو سمرا وإلى شوارع المئتين وعزمي والسيتي كومبلكس، وحتى المعرض. تحت أنظار القوى الأمنية التي مثلت أنها تنتشر فخبأت في بعض الزوايا مركباتها، حلّ الزعران محل الفقراء. اختفت الابتسامات خلف لحى متجهمة وأقنعة مريبة. وعمّت الوشوشات أحياءً ما كان الصخب يفارقها.
طرابلس بلا نسوة يثرثرن من شرفة بناية إلى شرفة أخرى، ليست طرابلس. طرابلس يسأل مسلحوها العابرين بسياراتهم عن مذهبهم، ليست طرابلس. طرابلس من دون مقاهيها المزدحمة بقراء الصحف والمتسولين وباعة الكولونيا الرخيصة وعصير التوت والجزر وأوراق اليانصيب، ليست طرابلس. طرابلس تختبئ فاعلياتها الثقافية والطبية والسياسية خشية صدام مع غرباء لا يعرفونهم، ليست طرابلس. تلك التي شوهدت أمس بين البحصاص والبداوي لم تكن طرابلس.
وأكثر ما يُخشى هو ألا تعود المدينة. كل المعطيات، سواء الأمنية أو السياسية، تؤكد أن ما بدأت به عاصمة الشمال أمس لن ينتهي في القريب العاجل، ويذهب بعض المتشائمين إلى حد القول إن أحداثاً دموية تفوق خيال ميقاتي الخصب تنتظر المدينة. فلا شيء يوحي بإمكان تراجع الإسلاميين، ممن بدأ ميقاتي غسل يديه منهم ونفي علاقاته بهم، عن تنظيف إمارتهم. والتنظيف بمعناه الأمني يعني اجتثاث التوحيديين المتجذرين والقوميين الذين لا يحتاجون إلى وصف والعائلات المسلحة وزعامة كرامي، فضلاً عن الجبل بعديده وعتاده. مهمة تبدو لبعض المتابعين صعبة ومكلفة جداً.
في طرابلس، دخلت مدينة أمس نفقاً سيصارع السلفيون بضراوة ليتأكدوا من بلوغ إمارتهم في نهايته، مستفيدين من تفرج الجيش ونأي الحكومة بنفسها واكتفاء الرئيس ميشال سليمان بالوعيد هنا وهناك، كما يقتضي اتفاق الدوحة البائد. يمكن السياسيين الاستمتاع بإجازة صيف شهرين، لن يموت غير مئات الفقراء المساكين والمسلحين الأغبياء ويتهشم أكثر المدينة المهشمة أصلاً.
13 تعليق
التعليقات
-
لم يطالب السيد غسان مسعودلم يطالب السيد غسان مسعود والاخبار من ورائه بتدخل الجيش بهذه الحماسة والبلاغة والعاطفة لردع ال المقداد وغيرهم
-
كبح السلفيةللمعجبين بما يدعى "الثورة السورية" نموذج مصغر هو ما يجري في طرابلس !
-
فضاء نجيبكان للبنان في عصر حكومة النجيب مدينة تدعى طرابلس ومنها في الحكومة نواب ووزاء ونجيب جاءه يوما الخبر اليقين عن لطف الله الى جزارو باب عمرو من الحبيب قال الحبيب: يا صاحب الزمان يا فرع الصاليحين انت تحب الناصحين: سوسة كانت على باب طرابلس تدور جازت الحدود ودبت في الجذور فبعث الجيش لآهلاكها وآخمادها قبل ان نهلك في اشراكها لكى ننآى عن نفسنا فرد نجيب : انا نجيب اذا دعيت لاجتماع يحضر من يحضر ويغيب من يغيب امون على الشباب ستون بالمئة والبقية تستجيب ولما كان شهر بعد شهر جرى بين الجبل والتبانه خصام ظهر السلاح من قديم وجديد احرق ما احرق ومات من مات وقتل القريب والبعيد وطلب نجيب من الحبيب ان يوقف اللهيب فنادى الحبيب ويحكم لقد ذهب العيد فلم يجد سامع او مجيب واستمر القتل يحصد الناس بآيدي القريب والغريب والحكومة تناى بنفسها بفلسفة الضربة التي لا تخسر الانتخابات لا تصيب وفي الامر ليس هناك ما هو معيب او رهيب. فالكل وقت الانتخابات للدولار اما راغب او مستجيب وفي الامر لائحتان زي ما هي تضم قاعدة وجماعة واخوانجية وسلفية ، شعارهم حرية حمل السلاح، سيادة خرق الامن، واستقلالية الناس بقتل بعضهم البعض. ولائحة التضامن ومن شعارتها النآي بالنفس حتى انقطاع النفس وليتبين الخيط الاسود من الابيض والى ان تضح معالم الصورة. ومدينتنا ستكون عن حمص خير صورة.
-
ليس دفاعا" عن السلفيين و لكنليس دفاعا" عن السلفيين و لكن دفاعا" عن الموضوعية التي فقتدوها..ما تعليقكم على هذه الصورة؟ http://www.facebook.com/photo.php?fbid=407178209345443&set=a.393028704093727.94736.384190501644214&type=1&relevant_count=1&ref=nf
-
لقد ادميت قلوبنا من البكاء يالقد ادميت قلوبنا من البكاء يا استاذ غسان...
-
طرابلس الجريحةصدقت يا استاذ غسان بكل كلمة وردة هنا،نعم جبل محسن ليس قلعة محصنة يسكن فيها يهود، بل هو حي عادي جداً مثل اي حي في طرابلس،كنا صغارا نلهو عندما كانت المنطقة كلها يملؤها الزيتون فنعبر الوادي الصغير لنذهب الى التلة المقابلة التي لم يكن يسكنها الا العصافير وأشجار الزيتون وبعض الراهبات،تطورت القبة والتهم البشر زيتونها قاطعا كل الأشجار ومن كل جوانبها فحل مكانها الخرسانة "الباطون"،والمنطقة كونها قريبة من نادي الظباط التابع لسكنة غانم مسكونة من عوائل الظباط ومن كل الطوائف والمذاهب ،اتت الحرب وهجرت من هجرت،وبقي فيها من بقى ،وفي كل حفلة جنون يدفع الأهالي من أرزاقهم وأولادهم سواءا بالموت او بالإعاقة .والمنطقة تدفع ثمن خيارتها المتماهي مع خط المقاومة ، بالأمس ليس البعيد جداً قاموا بمجزرة حلبا،ويعدها استهدفوا بلال شعبان وثم الشيخ هاشم منقارة،وهؤلاء القادمون من خارج لبنان وخارج حدود طرابلس لن يستكينوا حتى يقضوا على كل من يتفوه بكلمة مقاومة.هذا هو الجوهراستاذ غسان،والحق يقال لا بد للجيش بان يلم كل من يحمل سلاح وكل قطعة سلاح من البيوت.فكافانا عهرا وتكفيرا،فالحب بين أبناء المدينة ليس ممنوع.
-
الكلام مبالغ فيه حتى الثمالةالكلام مبالغ فيه حتى الثمالة
-
خلصنا بقى يا اخبارابكيتني يا غسان سعود على جبل محسن المظلوم !!! اليس سكانه هم انفسهم من اذاق الطرابلسين و سومهم ىسوء العذاب ايام وجود الجيش البعثي في المدينة ؟ اليس هم انفسهم من مارس التشبيح بكافة انواعه ايامعا ؟ اليسوا هم انفسهم مسؤوؤلين عن مجازر طرابلس عبر ما يسمى بالحزب العربي الديمقراطي ؟ بيكفي يا اخبار و ما تغطوا السماوات بالقبوات خلصنا بقى!
-
"صورة مصغرة"للمعجبين والمتغنين بما يدعى "الثورة السورية" نموذج مصغر هو ما يجري في طرابلس الذي وصفه الكاتب "طرابلس تموت" ووصف ثوارها بالأغبياء علماً أن الأمر لم يصل بعد إلى ثقافة التقطيع والذبح على الهوية والتمثيل بالجثث والإغتصاب...
-
عندما يغيب العقلفخامة رئيس الوزراء أطال الله في عمره هو الذي أطلق عبارة النأي بالنفس بالنسبة لما يحصل في سوريا في الوقت الذي أصبحت عاصمته طرابلس من اشد أنصار المواجهة المسلحة في هذا البلد المنكوب. فالدعم المالي والدعم العسكري والدعم الاعلامي والدعم السياسي وسفن الأسلحة وآلاف المتطوعين من شتى أنحاء الدنيا ممن ينتمون ايمانا وعقيدة ومنهجا الى طالبان كل ذلك كان وما زال يأتي من خلال طرابلس في نفس الوقت الذي مازال عطوفته يعلن في المحافل الدولية والاقليمية والمحلية أن سياستنا في لبنان تجاه سوريا هو النأي بالنفس وزعماء العالم يهنؤونه على هذا الموقف. ألم يكن أجدر به وبرئيس الجمهورية وبسائر الطبقة الحاكمة في لبنان الذين يملكون تمام المعرفة أن مايجري في سوريا سوف ينعكس عاجلا أو آجلا على لبنان،عوضا عن موقف النأي بالنفس الكاذب،أن يتخذوا موقفا اصلاحيا يقرب وجهات نظر المتنازعين في البلد الشقيق علهم يوفقون لوقف شلال الدم الهائج الذي يعصف بالبلاد وبالعباد هناك لاسيما أنهم خبروا هذا النوع من التقاتل البغيض وما زالوا يدفعون ثمنه في لبنان. آلآن وقد غاب العقل وغابت الحكمةوقل أهل الخير والصلاح هذا ان وجدواوصار الاحتكام الى أزيز الرصاص ودوي المدافع فليستعد لبنان الى أيام أكثر سواداوأشد ظلمة من أيام دمشق وحمص وحلب ...
-
سحب الجيش من الجنوب (رسالة إلى قائد الجيش العماد جان قهوجي )حضرة قائد الجيش، من المعروف بأن مهمة الجيش هي حماية حدود الدولة التي يمثلها. في الوقت الحالي يترصدنا الخطر من الشمال وتحديداً من طرابلس المدينة التي تعني من الفلتان الأمني المستشري. والجيش لم يقم على مدى السنتين الاخيرتين بأي خطة جدية لإيقاف هذا الفلتان بحجة غياب التغطية السياسية.فلتقم أيها العماد ،بسحب الجيش من الجنوب وإعادة نشره بزيادة عديده في الشمال لكبح السلفية ونشر الأمان. فما حاجة الجنوبين بالجيش إذا كان الجنوب أمناً من شر العدو الإسرائيلي بفضل مقاومته. ولندع إسرائيل تضغط على أمريكا التي ستضغط على الجهات الخارجية الداعمة للسلفين في طرابلس من أجل إعادة الأمان في الشمال لإعادة الجيش إلى الجنوب.
-
الطائفية حاليا هى تعفن العربالطائفية حاليا هى تعفن العرب بعد ما خرجوا من براد التاريخ
-
و اخيرا ......يسلم قلمك , رغم سوداوية المشهد كراياتهم السوداء ! و اخيرا خرج من يبق هذه البحصة و يروي ماساتنا كما هي , و يدق ناقوس الخطر و جرس الانذار عله يتحرك احد ما قبل فوات الاوان .. اذا لم تتحرك الدولة جديا لمواجهة هؤلاء و انقاذ طرابلس و اهلها (و الشمال كله) , فالمدينة ذاهبة حتما الى شلال من الدماء و قتالا عبثيا لن يسلم منه احد لا بشرا و لا حجرا . اللهم اني بلغت اللهم فاشهد