منذ دخول عصر الانفتاح الليبرالي في المجال الصحافي الذي رافق مأسسة النيوليبرالية في الأردن في ١٩٨٩، طفت على صفحات الصحف الأردنية آراء شوفينية معادية لوجود الأردنيين من أصل فلسطيني، يدعو بعضها إلى نقاء النوع الأردني وإلى طرد الأردنيين ــ الفلسطينيين من البلاد بلغة إشارية مبطنة. بينما يطالب الآخر الأردنيين ــ الفلسطينيين بولاء هوياتي تام للأردن لا تشوبه ارتباطات بهويات أخرى.
وبينما عُزز العداء للأردنيين ــ الفلسطينيين في البلاد عبر عمليات التطهير الواسعة التي قام بها النظام في مؤسسات الدولة والصحافة والجامعات منذ مواجهة ١٩٧٠، ظل هذا العداء مستتراً إعلامياً إلى أن دخلت النيوليبرالية حيّز التنفيذ، مما أطلق العنان لهذه المشاعر عند الشوفينيين من الشرق أردنيين. وتتفشى الشوفينية بين بعض نخب الأردنيين من أصول شرق أردنية ولا يسلم منها اليمين ولا اليسار. والأخير يسعى، مدفوعاً بعدائه للفلسطينيين، إلى إعادة تأهيل شخصيات أردنية يمينية مثل وصفي التل وهزاع المجالي (والإثنان رئيسا وزراء سابقان قضيا اغتيالاً كما هو معروف) وتقديمهما على أنّهما شخصيتان لعبتا دوراً يسارياً في البلاد عبر تأويلات تناقض سجلهما السياسي اليميني البارز ولا تستند إلى دليل أو منطق. تدور هذه التطورات في فلك المنافسة الاقتصادية المحتدمة على نهب ثروات البلاد بين فروع البورجوازية الأردنية (من جميع الأصول والمنابت) من تجار وملّاك أراض ومديري بنوك وبيروقراطيي دولة. منافسة تغذي هذه الشوفينية وتطرحها على أنها موقف وطني يدافع عن البلاد والعباد لا عن مصالحها المادية على حساب الإثنين. ليس من المستغرب أبداً أن يستخدم اليمين الشوفينية لتأمين مصالحه، لكن المخيّب للآمال حقاً هو أن يشاركه اليسار في خطابه هذا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه رغم هيمنة خطاب الشوفينيين في الأردن فإنّ أغلبية الوطنيين الشرق أردنيين يرفضون هذا الخطاب الوافد على البلاد ويعون خطره على الجميع.
يعدّ الكاتب والصحافي اليساري ناهض حتر أفصح من عبّر عن العداء للوجود الأردني ــ الفلسطيني، وله في موقفه هذا مريدون ونقاد كثر. فما انفك حتر منذ عقدين من الزمن يكتب محرضاً ضد هذا الوجود من منطلق الدفاع عن الأردن من مشروع «الوطن البديل» الشاروني الذي لا يمكن دحضه إلا بعودة (أو ربما بطرد؟) الأردنيين ــ الفلسطينيين إلى فلسطين. وقد قام حتر أخيراً بالرد (المنشور في الأخبار في ٤ أيلول /سبتمبر ٢٠١٢) على مقالتي (المنشورة في الأخبار في ٢٢ آب/أغسطس ٢٠١٢) باستخدام المنطق نفسه الذي ألهم ويلهم كل كتاباته في هذا الموضوع. وإني لأتعجب دائماً كيف أنّ التحليل اليساري الوطني الذكي الذي يستخدمه حتر، وغيره من اليساريين، في تقويم الوضع في العالم العربي (مع اختلافي معه في بعض طروحاته) يتبدد عند الخوض في مسألة الهوية الأردنية ويُستبدل بمنطق يقع بفخاخ لا تحصى من الشوفينية الوطنية المعادية للفلسطينيين. ومن هنا فإنني إذ أقدم ردي على نقد حتر فإنما أسعى إلى توضيح مواضيع شائكة في تعريف الهوية الأردنية ما فتئت تشغل بال وقلم حتر ورفاقه منذ فترة طويلة من الزمن، والتي لا ينفك يكتب عنها ويجتهد في تعريفها.
ولد الأردن، مثله مثل باقي بلاد الشام، نتيجة التقسيم الكولونيالي للمنطقة في معاهدة سايكس ــ بيكو. وبخلاف سوريا ولبنان وعلى شاكلة فلسطين، كان للمشروع الصهيوني الأثر الأكبر في تكوين حدود قسمته. تأسست «منطقة الشرق العربي»، كما سماها مؤسسها الأمير عبد الله، في ١٩٢١، واختلف البريطانيون بين أنفسهم على تسميتها: فبينما اقترح أعضاء البرلمان البريطاني في نيسان/أبريل ١٩٢١ تسميتها «البلقاء» ــ ولكن الخبراء أخطروهم بأن هذا الاسم ينطبق على منطقة محددة داخل القطر لا على القطر بأكمله ــ فقد اقترح البعض الآخر اعتماد اسم «فلسطين الشرقية». لكنهم أخيراً وبعد مداولات، اعتمدوا اسم «ما وراء الأردن» أو «ما بعد الأردن» Trans Jordania (أي ما وراء أو بعد نهر الأردن) للدولة، الذي ترجم للعربية بـ«شرق الأردن». واسم «ما وراء الأردن» هو أصلاً اسم صليبي أطلق على جزء من المنطقة أثناء الاحتلال الصليبي الذي أقام فيها «إمارة شرق الأردن» أو Outre Jourdain وعاصمتها الكرك في القرن الثاني عشر والتي تربع على عرشها رينو دي شاتييون الذي قتله في ما بعد صلاح الدين الأيوبي. وبقي هذا اسم الدولة حتى ١٩٤٦ عندما قام الأمير عبد الله بتنصيب نفسه ملكاً على البلاد واسماها «المملكة الأردنية الهاشمية»، ومن ثم درج استخدام اسمها الجديد «الأردن».
وتبدّى ارتباك البريطانيين على أشده في ما يتعلق بتسمية سكان الدولة الوليدة، مما دعا ونستون تشرتشل إلى اقتراح تسميتهم بـ«فلسطينيي شرق الأردن» في ١٩٢٢، بيد أن الأمر حُسم بعدها بقرار البريطانيين منح السكان «جنسية شرق أردنية منفصلة». وكباقي سكان بلاد الشام، فقد كان لسكان هذه المنطقة هوياتهم الخاصة، التي تتدرج من هويات واسعة كالعثمانية والعربية والشامية وهويات دينية كمسلمين ومسيحيين، ومناطقية كبدو وحضر، وصولاً إلى هويات محلية منبثقة من بلداتهم وقراهم ومن وعشائرهم وقبائلهم وحمولاتهم، وبذلك لم يختلف سكان «منطقة الشرق العربي» عن غيرهم من سكان بلاد الشام في تعدد هوياتهم. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ حدود الإمارة الجديدة امتدت جنوباً وتوقفت شمال بلدة معان الحجازية، إذ كانت حدود الحجاز تحتوي داخلها كلّ المنطقة من معان إلى العقبة. وقد ضُم هذا الجزء الشمالي من الحجاز إلى الإمارة بترتيب بريطاني في ١٩٢٥.
وقد قُننت الهوية الأردنية الوليدة في ١٩٢٧ بإقرار دولة الانتداب البريطاني «قانون الأجانب»، ومن بعده أول قانون جنسية للسكان في ١٩٢٨ الذي أُقر في العام نفسه الذي أقر فيه البريطانيون أول نظام أساسي للبلاد. وأصر القانون الجديد على أنه سيسري بأثر رجعي حتى ١٩٢٣، وهذا عام مهم، إذ تم توقيع معاهدة لوزان فيه والتي تخلت تركيا بموجبها عن المنطقة لصالح بريطانيا. وهذه أيضاً فترة استقرار الهجرات التي نشطت في المنطقة بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وقد تم إقرار هذه القوانين في خضم حراك شعبي محلي مناوئ للاحتلال البريطاني ومطالب بتمثيل أكبر لأهل البلاد وبتغيير قانون الانتخاب غير الديموقراطي. تواصلت الانتفاضات والتمردات الوطنية ضد الاحتلال البريطاني دون هوادة في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات حتى تم إخمادها عن طريق القمع والاحتواء. ونتيجة رفض بريطانيا لأي تغيير في حكمها، رفض وطنيو الأردن (من أصول محلية وفلسطينية وعراقية وسورية) المشاركة في انتخابات ١٩٢٩. وبعد انقسامات عدة في ما بين الوطنيين، برز «حزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني» الذي دافع عن القوى الوطنية والذي حاربه الأمير عبد الله وكبار ملاك الأراضي الذين كانوا يدعمون الأمير. وقد قام هؤلاء بتأسيس «حزب التضامن الأردني» في ١٩٣٣ (وكان من بينهم مسيحيون وشركس وشيوخ عشائر) منادين بهوية أردنية منغلقة بخلاف حزب اللجنة التنفيذية الآنف الذكر، إذ أصروا في ميثاقهم التأسيسي على أنه يجب على منتمي الحزب أن يثبتوا أنهم من سكان شرق الأردن من قبل ١٩٢٢. لم يطل عمر هذا الحزب البورجوازي طويلاً، إذ لم يحظ بشعبية كبيرة بين السكان وإن كان سيلحق بركبه شوفينيون شرق أردنيين بعد عقود عديدة. حاول هذا الحزب وغيره من أمثال «حزب اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشعب الأردني العام» (الذي حاول انتحال اسم «حزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني») إزالة الشرعية عن «حزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني» الذي ثابر على تحديه للدولة الأميرية ــ الانتدابية وللإجراءات التعسفية لرئيس الوزراء (الفلسطيني الأصل) إبراهيم هاشم، حليف الأمير والبريطانيين. ونتيجة القمع، انحل الحزب كما انحلت الأحزاب الأخرى في ١٩٣٤. أما إبراهيم هاشم الذي نُصب مرة أخرى في ١٩٥٧ رئيساً للوزراء تحت الحكم العسكري بعيد انقلاب القصر بالتحالف مع السفارة الأميركية على وطنيي الأردن في البرلمان والجيش، فقد قُتل في بغداد في ١٩٥٨ أثناء قيامه بزيارة رسمية للبلاد والتي تزامنت مع قيام الثورة التي صفّت العائلة المالكة وزائرها الأردني ــ الفلسطيني. تصوروا لو قام اليوم يساري أردني ــ فلسطيني مدفوعا بعدائه للشرق أردنيين بإعادة تأهيل إبراهيم هاشم كيساري، محاكياً إعادة تأهيل وصفي التل وهزاع المجالي كيساريين!
نشر حتر مقالاً مهماً في هذا الصدد في جريدة «الحدث» الأردنية في ١ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩٥ بعنوان «من هو الأردني؟». والأردني كما عرفه حتر دون مواربة «على وجه الدقة والتعيين والتحديد هو غير الفلسطيني». ويستغرب حتر في مقاله كيف أنّ أحداً لا يخلط ما بين السوري والمصري واللبناني بينما الوضع في حالة الأردني مختلف. ولحتر كل الحق في استغرابه، إلا أن ما يتجاهله هو حقيقة أن الأردن بالفعل يختلف عن مصر وسوريا ولبنان وذلك نتيجة الهجرات المتعددة لأراضيه منذ القرن التاسع عشر على الأقل والتي ضمت عددا من المهاجرين فاق عدد السكان الأصليين. ولا نعني بذلك فقط هجرات الشركس والشيشان الذين استوطنوا عمان وجرش ومناطق أخرى من البلاد، أو حتى المصريين الذين أسسوا بلدة سحاب في القرن التاسع عشر فحسب، بل أيضاً السوريين والفلسطينيين والعراقيين والحجازيين واللبنانيين والأرمن والأكراد والأتراك الذين وفد بعضهم إلى البلاد منذ أوائل القرن التاسع عشر، فضلاً عن بعض العائلات التونسية والمغاربية. وهذا عدا تنقل العشائر البدوية المستمر (وكان جزء كبير من سكان الأردن في ١٩٢١ ــ يقدره البعض بنصف السكان ــ من البدو الرحّل) بين الأردن والحجاز وسوريا وفلسطين والعراق، فضلاً عن التنقلات الداخلية التي لم تقتصر على البدو، بل شملت أيضا عائلات مسيحية نزحت عن الكرك وأسست مدينة مأدبا في أواخر القرن التاسع عشر. وكل هذه الهجرات والتغيرات السكانية جرت قبل تهجير الشعب الفلسطيني في ١٩٤٨.
ما لا يستطيع حتر والشوفينيون الشرق أردنيين تقبله هو حقيقة أن العدد الصغير للسكان الأصليين للأردن وكثرة الهجرات إليه منذ القرن التاسع عشر هما ما يجعله مختلفا عن جيرانه في تعددية هويته الوطنية. وهذا لا ينتقص من الأردنيين بل يثري هويتهم التي يصر الشوفينيون على نقائها وكأن هذا التنوع في الأصول عامل تلوث. وفي سياق الانتقاص من أردنية الأردنيين ــ الفلسطينيين، يصر البعض على أن للفلسطينيين الذين هُجروا إلى الأردن في ١٩٤٨ وفي ١٩٦٧ انتماءات لفلسطين تحول دون انتمائهم للأردن‪.‬ لكن لا يبدو أن انتماءات سوريي الأردن وعراقييها وشركسها وشيشانها لبلدانهم الأصلية ينتقص من أردنيتهم عند أولئك، فضلاً عن الكثير من الرمثاويين الذين كانوا في الخمسينيات عندما يعارضون قمع الدولة يزيلون نقطة الحدود بينهم وبين سوريا ويضعونها جنوب البلدة ليفصلوا أنفسهم عن الأردن ويرفعون الأعلام السورية. وكذلك بعض المعانيين الذين لا يزالون في تظاهراتهم المناهضة للدولة يشهرون أعلاماً سعودية أحياناً. فهل يجرؤ أحد في الأردن على مساءلة أي من هؤلاء عن أردنيته؟ فكل هؤلاء ينتمون إلى الأردن وإن كانت هوياتهم مركبة.
يقدم حتر العديد من المزاعم والأرقام على أنها حقائق موضوعية بينما هي في حقيقة الأمر اجتهادات شخصية محضة. فلا أحد في الأردن يعرف التعداد السكاني الحقيقي للأردنيين من أصل فلسطيني ولا للأردنيين من الأصول الأخرى إلا السلطات. وهذه الأرقام برمتها من أسرار الدولة (فضلاً عن ماهية المنهج الإحصائي الذي تستخدمه الدولة أصلا في تحديد هده الأصول والأرقام). أما النسب والأرقام الديموغرافية التي يقدمها حتر، فضلاً عن نسب ملكية الثروات في البلاد، فهي أرقام ونسب أيديولوجية لا سند لها، ولا أدل على ذلك من زعمه أن هناك مليون فلسطيني في الأردن أتوا إليها بعد ١٩٨٨ وهو زعم يجب أن يسنده مصدر موضوعي. أما ما يبعث على الدهشة حقا فهو إزالته لصفة الأردني عمن تجرده الدولة من جنسيته. فإذا كان تعريف الأردني هو أصلا تعريفاً قانونياً، في حين تجري عملية تجريد الجنسيات من الأردنيين من أصول فلسطينية دون سند قانوني، فإلام يستند حتر في تجريده صفة الأردنية عن هؤلاء؟ أم هي معايير النقاء الوطني؟ يصعب التصديق بأنه يمكن لمفكر يساري ينادي بالعروبة ويُتوقع منه أن يحارب الشوفينية أن يستند إلى تلك المعايير الشوفينية في تحديده للهويات. وفضلاً عن هذا التناقض الأيديولوجي الصارخ، فإن هذه الأيديولوجيا توقعه في مطبات تاريخية وجغرافية. ففي مقالته المعنونة «من هو الأردني؟»، يعرّف حتر الأردني على أنه من كان من سكان المتصرفيات العثمانية الثلاث التي يسميها «المحافظات الثلاث التعسة» التي فصلت عن سوريا. لكن هذه المتصرفيات تضمنت أجزاءً من فلسطين وسوريا ولم تكن جنوب البلاد من معان إلى العقبة جزءاً منها عند إقامة الدولة!
وأخيراً، وهنا تكمن دوافع حتر المعلنة، إذ يزعم بإن ادعاءاته المستمرة منذ عقدين من الزمن ضد الأردنيين ــ الفلسطينيين هي دفاع عنهم وهجوم على الصهيونية. وأنا لا أشكك بصدقية هذه الدوافع بل أرد على تهافت منطقها. ففي حين اعتبر حتر في مقالته في «الأخبار» الأردنيين ــ الفلسطينيين الذين وصلوا إلى البلاد في ١٩٤٨ و١٩٦٧ ونسلهم أردنيين واستثنى فقط فلسطينيي الضفة ومن أتى منهم منذ ١٩٨٨ إلى الأردن، فقد سبق له أن استثنى في مقالته «من هو الأردني؟» كل من وصل من الفلسطينيين إلى البلاد بعد ١٩٤٨. بل إنه أصر على أن بقاءهم في الأردن (وكأن هذا خيار لهم) بمثابة نصر للصهيونية، وطالبهم بالرحيل إلى بلادهم حيث إن «حق الفلسطينيين ــ لاجئين ونازحين ــ وواجبهم أيضا هو العودة إلى أرضهم وديارهم». تجدر الإشارة هنا إلى إن موقف حتر هذا هو موقف بشير الجميل وحزب الكتائب نفسه المطالبين بـ«عودة» فلسطينيي لبنان إلى ديارهم. وهنا يذكرني حتر (مع الفرق في التشبيه) في رفضه لحقوق الأردنيين ــ الفلسطينيين في الأردن ودعمه لحقوقهم في فلسطين باللاساميين الأوروبيين الذين حاربوا ويحاربون الوجود اليهودي في بلادهم، لكنهم يساندون بقوة المشروع الصهيوني في فلسطين و«حق» اليهود باستيطانها. بل إنه لا يختلف في هذا عن صهاينة ولاساميي أوروبا الذين كانوا يعتبرون يهود أوروبا شعباً «بورجوازياً» بينما كان معظم يهود أوروبا يرزحون تحت نير الفقر (وقد عرف أبو الصهيونية ثيودور هرتسل نفسه الشعب اليهودي بأنه شعب «بورجوازي»). وهو يصور الفلسطينيين في مقالته في الأخبار بـ«أغلبيتهم» كالتالي: «تحوز الفئات البورجوازية والبورجوازية الصغيرة منهم ٦٥ بالمئة من ثروات البلاد، بينما تتكفل فرص العمل الثانوية في العاصمة وحوالات المغتربين في الخليج بتوفير هامش مرن للمناورة الاجتماعية في صفوف جماهيرهم»؛ ونتيجة ذلك، حسب حتر، فلا يهم الأردنيين ــ الفلسطينيين بمجملهم لا الحراك الشعبي ولا الفقر ولا ما يحزنون!
يصر حتر على أنّ قبول الأردنيين ــ الفلسطينيين بحقوق متساوية في الأردن يعني بالضرورة تخليهم عن حق العودة، وهذا افتراض ينافي التاريخ، إذ استمر الأردنيون ــ الفلسطينيون بالمطالبة بحقوقهم المسلوبة في فلسطين دون هوادة منذ ١٩٤٨، رغم قمع الدولة الأردنية لجهودهم تلك وإصرارها على أردنتهم قصراً (بمعنى أنّ عليهم طمس فلسطينيتهم التي لا يمكن أن تتعايش مع أردنيتهم) ومحو اسم فلسطين واستبداله بـ«المناطق الغربية» ومن ثم بـ«الضفة الغربية»، وهو ما قامت به في عامي ١٩٤٩ و١٩٥٠ قانونيا. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل الدولة، فإنها لم تقلل من تصميم الأردنيين ــ الفلسطينيين على المطالبة بحقوقهم في فلسطين وفي الأردن على حد سواء والتي لا ينفكون يطالبون بها حتى اليوم. والأمثلة على ذلك كثيرة وتتضمن منذ السبعينيات، على سبيل المثال لا الحصر، تطوع أردنيين ــ فلسطينيين (وشرق أردنيين أيضا) لمحاربة إسرائيل في لبنان في ١٩٧٨ و ١٩٨٢، وقد منعت السلطات الأردنية الكثير منهم من وصولها بل وقتلت رتلاً منهم في ١٩٧٨، كما اعتقلت المتطوعين في ١٩٨٢ وصادرت جوازات سفرهم. فضلاً عن قمع السلطات في الثمانينيات للنشاطات الثقافية والتراثية التي تحتفي بالإرث والفولكلور الفلسطيني، واعتقالها نمر سرحان الذي نظم بعضها ومصادرتها جواز سفره وطرده من وظيفته. فإن كانت إسرائيل حرمت وتحرم الأردنيين ــ الفلسطينيين من حقوقهم في فلسطين، فإن حتر يصر على أن الطريقة الوحيدة لاستردادهم هذه الحقوق هي حرمانهم من حقهم في المساواة في الأردن!
وبينما يتهمني حتر بالعنصرية تجاه الشرق أردنيين لقولي في مقالتي: «ينتشر العداء للأردنيين ــ الفلسطينيين في الأوساط الشوفينية من الشرق أردنيين (من اليمين واليسار على حد سواء) على نطاق واسع»، وذلك لأسباب كثيرة كنت قد ناقشتها في كتابي «آثار استعمارية: تشكل الهوية الوطنية في الأردن»، ويدّعي تعسفا بأني (لا سمح الله) شملت كل الشرق أردنيين على اعتبار جيني في حكمي هذا، وهو ما يجافي حقيقة ما قلت، فإن حتر، بخلافي، هو من يعتبر جميع فلسطينيي الأردن من قاطني المخيمات دون غيرهم على أنهم تحت سيطرة «قوى الإسلام السياسي المتعدية للحدود (السلفية الجهادية، السلفية الوهابية، والإخوان المسلمين المتشددين) وخصوصاً بالعلاقة مع الصراع الدائر في سوريا». وكأن كل الشرق أردنيين، بخلاف الأردنيين ــ الفلسطينيين، هم علمانيون ويساريون فضلاً عن موقفهم التقدمي المزعوم من الصراع في سوريا! ولا تقف تعميماته على الأردنيين ــ الفلسطينيين (والشرق أردنيين) عند هذا الحد، بل نجده يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يصور الأردنيين ــ الفلسطينيين على أنّهم شعب ــ طبقة، وعلى أنهم المستفيد الوحيد من التحول النيوليبرالي في البلاد. مما لا شك فيه أن المشروع النيوليبرالي يعود بمكاسب وأرباح طائلة على البورجوازية الأردنية، وهي طبقة غير مقصورة على التجار ورجال الأعمال الأردنيين ــ الفلسطينيين فحسب، كما يحاول أن يصورها، بل تشمل الشرق أردنيين (عدا السوريين والعراقيين)، تجارا كانوا أو مديري بنوك، أو بيروقراطيي دولة تركوا مناصبهم (أو حتى احتفظوا بها) ودخلوا في عالم التجارة في العقدين الأخيرين. فبيروقراطيو الدولة الشرق أردنيين (من مسلمين ومسيحيين ومن عرب وشركس)، مثلهم مثل نظرائهم في البلاد الأخرى التي تحولت اقتصاداتها إلى النيوليبرالية، انخرطوا في هذا المشروع بكل ما أوتوا من قوة ونفوذ، وبعضهم اليوم ولأسباب تنافسية هو من يمول الحملات الشوفينية في البلاد ضد الأردنيين ــ الفلسطينيين.
أما الدولة ومؤسساتها القمعية والأيديولوجية التي لعبت الدور الأكبر في هذا الشحن الشوفيني منذ نهاية الستينيات، فتستمر في استخدام مسألة الهوية لمنع أي إصلاح سياسي حقيقي في البلاد، متبعة استراتيجيات تستقطب الشعب الأردني حسب أصوله كي تمنع توحده في نضاله من أجل الديموقراطية. وهذا يعود بالضرر على أغلبية الشعب الأردني من جميع الأصول.
على الأردنيين جميعاً أن يعوا اليوم أنّ منابتهم وأصولهم، وإن اختلفت، فإنها لا تستحق أن تكون مصدراً لاستعدائهم بعضهم بعضاً، بل أنّ أعداءهم هم الطبقة التي تنهش ثروات البلاد وتفقر هذا الشعب في جنوب البلاد وشماله وفي بلداته ومخيماته. وهذه الطبقة الفاسدة والمتآمرة على الشعب الأردني والمتعاونة مع الصهيونية وإسرائيل والراعي الأميركي لا تقتصر على منبت وأصل واحد بل هي، مثلها مثل الشعب الأردني، من شتى المنابت والأصول.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك