لم يعد انهيار السدود المائية، وخصوصاً تلك المنشأة في مناطق ذات نشاط زلزالي عالٍ، مجرد احتمالات قد تقع وقد لا تقع، بل أصبح جزءاً من الواقع الجغرافي والتاريخي القائم في عالم اليوم. لقد انهارت سدود عدّة في السعودية والمغرب وسوريا، وإذا كانت هذه السدود من أحجام وخزانات مائية صغيرة أو متوسطة، فإنَّ سد الموصل في العراق، الذي كَثُرَ الكلام عن تأثّره بهزات أرضية ضعيفة ومتوسطة الشدة وقعت فعلاً، واحتمال انهياره، كان يستوعب أكثر من 11 ملياراً مكعباً من المياه، يعتقد البعض أنّها خفضت إلى ثمانية مليارات لتخفيف الضغط عن جسم السد خوفاً من انهياره. وتكرر انهيار السدود ووقوع الزلازل في الولايات المتحدة والصين والهند ومصر بعد إنشاء السد العالي، بسبب انشاء السدود كما تخبرنا دراسة علمية موثقة لباحث عربي هو د. طلال بن علي محمد مختار، أستاذ علوم الجيوفيزياء والزلازل في إحدى الجامعات السعودية، وسنتطرق له بعد قليل. وفي تركيا ذاتها، والدول المجاورة لها كالعراق، تتصاعد التحذيرات من انهيار السدود التركية لأسباب شتى. فهناك واقعة خطيرة اعترفت بها الحكومة ونقلها الإعلام التركي، حين امتلأت الخزانات والبحيرات الاصطناعية خلف السدود حتى أقصاها السنة الماضية (من جرّاء الأمطار الغزيرة، ووصل منسوب المياه في سد أتاتورك إلى 537.31 متراً، وفي سد كيبان إلى 844.61 متراً، وكان على المسؤولين اللجوء إلى فتح بوابات الطوارئ والفيضانات لو ارتفعت مناسيب المياه بمقدار 35 سنتمتراً آخر). وهذا يعني، أنَّ كارثة كانت ستقع لو انهار هذا السد أو فتحت بوابات الفيضان لتصريف المناسيب العالية ما سيغرق مساحات واسعة من الشرق الأوسط. أما إذا قررت تركيا قطع مياه دجلة والفرات لسبب ما، ولمدة أطول وامتلأت بحيراتها وخزانات سدودها، فهي تغامر بهذا القرار بتدمير أغلب السدود، محدثة بذلك طوفاناً هائلاً ومجزرة مائية بحق شعوب المنطقة قد تفوق في بشاعتها مجزرتي هيروشيما وناكازاكي. وفي تشرين الأول /أكتوبر 2011 أيضاً، أصدرت هيئة الأنواء الجوية العراقية تحذيراً خطيراً من أنّ «الزلازل التي تحدث في جنوب شرق تركيا قد تؤدي إلى فيضانات وكوارث طبيعية، وخاصة أن تركيا تقوم حالياً ببناء سد على نهر دجلة»، مبيناً أن «حدوث زلزال قوي في هذه المنطقة مع امتلاء السد بالمياه، سوف يؤدي إلى فيضانات وكوارث طبيعية قد تغمر إقليم كردستان بالكامل». بمراجعة كلام الخبراء والمتخصصين، نجد أنّ هناك الكثير من الأدلة والأسباب، التي تعطي لتحذيرات المسؤول العراق الاتحادي سنداً علمياً قوياً، فقد ربط باحث عراقي آخر، متخصص في تغيرات المناخ وهايدروليكية المياه، هو رمضان حمزة، بين استمرار تركيا في إنشاء السدود وحجز مياه دجلة والفرات وروافدهما، وبين تعرضها للزلازل. وقال حمزة إنَّ «المشاريع (التركية) أدّت إلى تكوين بحيرات اصطناعية، التي هي في حقيقتها تكوّن الهزات المجتثة، والأخيرة تساعد وتفعّل نقاط الضعف والتكسرات في الفوالق في المنطقة... ولمّا كان فالق الأناضول، الذي اتجاهه شرقي غربي يمر بالمنطقة، وكثرة الفوالق الثانوية في المنطقة، مع وجود هذه المشاريع المائية وأعمال مشروع استخراج النفط التركي في منطقة «باطمان»، كل هذه الأسباب تؤدي إلى زيادة فعاليات الفوالق والصدوع، وبالتالي زيادة الضغط على هذه الصخور، ما يتسبب في حدوث زلازل ويؤثر في المنطقة على نحو اقليمي». بالعودة إلى البحث الذي أنجزه الجيوفيزيائي العربي د. طلال بن علي محمد مختار، يكتب «من المعروف في الأوساط العلمية، أنّ إنشاء السدود العالية والكبيرة، يمكن أنْ يؤدي إلى توليد هزات أرضية. وقد لوحظت هذه الظاهرة في عدة مناطق من العالم، مثل الهند والصين والولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية والبرازيل وغيرها». ولكي لا يبقى كلامه مجرد إنشاء وعموميات يضرب الباحث عدة أمثلة موثقة منها:
- في 1 آب أغسطس 1975، وقعت هزة أرضية قوتها 5.7 خمسة وسبعة بالعشرة درجة في منطقة تبعد عشرة كليومترات عن سد «أوروفيل»، وهو أعلى سد في الولايات المتحدة، في ولاية كاليفورنيا. كانت هذه الهزة لافتة لنظر العلماء، لأنّها وقعت في منطقة قليلة النشاط الزلزالي، وبعيدة عن صدع «سان أندرياس» الزلزالي التكتوني غرب الولاية، لكن وقع الزلزال.
- في الهند، ولاية «ماهراشاترا»، جرى الانتهاء من بناء سد «كوينا» في 1962، ومُلئت بحيرة «شيفاجيزاجار» خلف السد بالمياه في 1963، ووقع زلزال بقوة 6.5 ستة وخمسة بالعشرة درجة، فقتل المئات وجرح وشُرد الآلاف. لوحظ، هنا أيضاً، أن الزلزال وقع مع ارتفاع مناسيب المياه في البحيرة خلف السد في موسم الأمطار.
- في جنوب الصين، وقعت سلسلة من الزلازل في منطقة لم تحدث فيها الزلازل قط. وبعد إنشاء سد «هيسينجفي نجكيانك» الخرساني في الصين، ضرب زلزال عنيف المنطقة حيث بلغت قوته 6.1، وأدى إلى تخريب جسم السد، ما يدل على وجود علاقة بين السدود والبحيرات ذات السعات التخزينية الضخمة وبين الزلازل المُسْتَحَثَّةُ.
- وبعد إنشاء السد العالي، وملء بحيرة ناصر بالمياه، ووصول المياه إلى أعلى مستوى لها في البحيرة، في 14 تشرين الثاني 1981 وقع زلزال بقوة 5.6 خمس درجات وستة بالعشرة، وكان مصحوباً بصوت دوي هائل كالمتفجرات، وقد شعر به سكان أسوان، إذ أحسّوا بالذعر وخرجوا من منازلهم، وقد تمكن الفنيون والخبراء من تحديد مركز هذا الزلزال تحت بحيرة ناصر بالضبط.
بهذه المجموعة من الأمثلة العملية الموثقة، ينجح الباحث السعودي في إقامة الدليل المادي على وجود علاقة سببية غير قابلة للإنكار أو التخفيف، بين إقامة السدود والبحيرات الاصطناعية ذات السعات التخزينية الضخمة وبين ما يسميه الزلازل المُسْتَحَثَّةُ.
قضية أخرى تزيد من خطورة احتمال انهيار السدود التركية ولا علاقة لها بالزلازل، وهي أنَّ المنطقة التي أقيمت فيها هذه السدود، تشهد حرب عصابات متصاعدة منذ ثلاثة عقود بين الجيش التركي والمتمردين اليساريين الأكراد. وقد قتل عشرات الآلاف من الطرفين في هذه الحرب، التي لا تبدو لها نهاية قريبة مع إصرار السلطات التركية على اعتماد الحل الأمني العسكري فقط. وقد قيل الكثير في وسائل الإعلام عن نوايا تركية لإنشاء سلسلة جديدة من السدود والبحيرات الصغيرة المترابطة بعضها ببعض، لتكون بمثابة حاجز مائي يفصل بين عمق الأراضي التركية وقواعد المتمردين الأكراد في تركيا، فهل سيتفرج المتمردون على هذا المخطط التركي، أم أنّهم سيبادرون إلى تدمير أحد أو أغلب هذه السدود، وربما يفكرون في تدمير سد من السدود العملاقة؟
لقد تجرأت مجموعة مسلحة في العراق في 2007 على تفجير سيارة مفخخة على جسر يقع على مسافة 200 متر من سد الموصل، ولحسن الحظ لم يتأثر السد بهذا التفجير لأنّه كان بعيداً نسبياً، وكان يمكن أن تقع الكارثة لو أفلحت المجموعة المسلحة في تفجير السيارة في جسم السد.
إنّ السدود المائية بطبيعتها أهداف سهلة، ويصعب الدفاع عنها من الناحية العسكرية، نظراً لحجمها الضخم ولموقعها الثابت والمكشوف ولمستوى الضغط الداخلي الهائل بسبب المياه المحجوزة فيها، ولأنها مقامة في مناطق مكشوفة يمكن لصاروخ واحد من نوع أرض أرض، أو جو أرض، أنْ يدمر أكبر سد في العالم لأنّ عملية التدمير ستستمر على نحو متصاعد مع حدوث أول صدع أو ثغرة في جسم السد، ولن تنتهي إلا بنهايته.
ومع كل الأمل بأنْ تجنح القيادات التركية إلى السلم واعتماد لغة الحوار وحسن الجوار والتخلي عن التفرد والدَوس على حقوق العراق وسوريا، فإنَّ الحاجة تبقى ماسة إلى وضع مخططات إنقاذ عراقية وسورية وحتى أردنية وخليجية لمواجهة كافة الاحتمالات بهدف تقليل الخسائر إلى أدنى حد، سواء حدث الفيضان نتيجة عمل تدميري لمجموعة مسلحة سرية، أو بسبب زلزال عنيف أو بسبب إجراء دفاعي يتخذه العراق أو بسبب إجراء انفرادي تتخذه تركيا لتفريغ أحد خزانات سدودها لسبب من الأسباب.
وأخيراً، فإذا قُدِّرَ لكارثة مأساوية كهذه أن تحدث، فسيكون من العدل تماماً المطالبة بتقديم الزعماء والقيادات السيادية في الدولة، أو المنظمة المسلحة، التي تسببت بها الى المحكمة الجنائية الدولية، لأنّها ستكون ضمن مشمولات البند الثالث من بنود ميثاق هذه المحكمة ونصه «إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً». كما يمكن اعتبارها ضمن مشمولات البند العاشر من الأفعال التي يشملها مفهوم ومصطلح «الجرائم ضد الإنسانية».
* كاتب عراقي