لا تُحدَّدُ قيمة الكتاب، أي كتاب، في أثناء قراءته. تكمن قيمته لحظة الانتهاء منه ومكوثه فوق رف المكتبة، فيلازم قارئه وهو بعيد منه، ويصبح غيابه عن مكانه لافتاً أكثر من وجوده، وخصوصاً عندما تعشش قضايا التي يطرحها في تلافيف الدماغ مساهمةً في تغيير مسارات القراء وحيواتهم. تضعهم عراة قبالة مراياهم ووجهاً لوجه أمام حقائقهم التي حاولوا بوعي ودونما وعي إخفاءها وطمس وجودها. هذا ما ينطبق على رواية جبور الدويهي «شريد المنازل» الصادرة في طبعتها الثانية عن «دار الساقي». يحملنا الدويهي على متن روايته عائداً نصف قرن الى الوراء، معتمداً زمناً سردياً تتابعياً، قلّت فيه الخلخلة الزمنية التي غالباً ما نراها في روايات شبيهة مضامينها بمضمون هذه الرواية التي يمتد زمن القصّ فيها إلى 1952، عام ولادة البطل الرئيسي «نظام العلمي» أو «نظام أبو شاهين»، وصولاً الى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.
بين هذين التاريخين، يعرض جملة من القضايا الاجتماعية والسياسية على صعيد الأمة، وخصوصاً لبنان، وما شهدته تلك الحقبة من تحولات بعد انهزام الحلم القومي، متمثلاً بمرحلة عبد الناصر.
لم يكن اختيار اسم البطل «نظام» اعتباطاً من الروائي، وخصوصاً أنّه يلمّح في الرواية الى اختيار الأسماء تيمّناً بمن حملها، فـ«نظام» تراوح حياته بين الشخصية والعامة. وفي حين نتفاعل معه كشخصية درامية مأزومة، نرى أنفسنا مشدودين إليه لما يمثله من جيل شبه محايد يعشق الحياة، فتُفرض عليه الحرب ويدفع ثمنها باهظاً. نظام المسلم في الولادة، والمسيحي في الإقامة والرعاية، يختزل وطناً أو حلماً ببناء وطن لا تجني على مواطنيه هوياتهم. إنه جيل يحلم بقطع الحواجز الطائفية، جيل يرسم معالم العلمانية التي تحتاج إليها الأجيال القادمة، وخصوصاً أجيال اليوم التي تعيش فوق أتون من البارود المذهبي والطائفي المنتظر ساعة صفر شبيهة بساعات صفر سبقت حروباً أهلية غزت لبنان مراراً منذ عام 1860. إنّه الحلم بنظام شبيه بحياة «نظام» التي رأى فيها بعضهم «نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه المواطن اللبناني في مرحلة أولى تقوم على تجاوز الأديان والعصبيات، من دون إنكار وجودها، في الطريق الى بناء المجتمع العلماني القائم على المواطنية الصرفة». لكن عدم الوعي والتقدير جعلا هوية اللاانتماء التي يتفاخر بها «نظام» تجني عليه كأنّ الطرفين المتحاربين قد جعلاه عدواً مشتركاً. وبينما تدخّل القدر لينقذه من يدي الحاجز اليميني المسيحي الذي كاد حراسه أن يقتلوه ويرموه فوق غيره من الجثث انتقاماً من اسم ابيه محمود، نراه يموت على يدي الجهة الوطنية اليسارية أو المسلمة لأنه يحمل اسم جوزيف خطأ، فأردوه دون تريث في التحقيق معه.
ما يميّز هذا النص الروائي أنّ أيديولوجية الكاتب لم تظهر منحازة لطرف دون آخر. كانت عدسة تصويره موضوعية في نقل مشاهد الحرب في بيروت، حيث المدينة المنكوبة المفجوعة بأبنائها، بعدما كانت منارة وحلماً لـ«نظام» وكل من جايله عمراً وأحلاماً. لم ينكشف موقف الكاتب إلا بعد موت البطل عندما حمّل رجال الدين مسؤولية قتل هذا الجيل الحلم، وأكثر ما ظهر ذلك في قيام «ميسلون» أخت القتيل بطرد الشيخ إبراهيم الذي كان جارحاً في إطلاق مواعظه، وهو الذي ينبغي أن يصلّي على الميت، ويقابل هذا التصرف ما يشبهه من خلال قيام «توما» والد القتيل الثاني بطرد الناس من داره وإغلاق الباب في وجه الخوري «جبرايل»...
لقد استطاع الكاتب توظيف معظم تقنيات الرواية، مشيّداً عالماً بصلصال خاص، يشكل معادلاً موضوعياً لما هو مرجعي في تلك الحقبة أو لما نحن عليه اليوم. كانت بيروت وبعض المناطق اللبنانية مسرح الأحداث الأساس، تخترقه شخصيات ورقية استطاع الكاتب أن يجعلها على صلة قوية بما هو واقعي وحقيقي، بالإضافة الى اللعبة الزمنية التي أشرنا إليها سابقاً... كل ذلك جاء على يد راوٍ عليم جعل الأحداث والعناصر الروائية الأخرى تحت رحمته. غالباً ما كان يحرم الشخصية من التعبير عما يدور في خلدها، فكان يطلق بنفسه أفكارها، حارماً إياها من حق الحوار الذي قلّ بصورة لافتة في النص، ما جعل السرد الأكثر حضوراً. وهو سرد متسارع ينتمي الى ما يعرف بالحوار المجرد، ولولا الوقفات الوصفية ذات النفس الشعري، لهلكت الشخصيات الداخلية من جهة وانقطعت أنفاس المتلقي من جهة ثانية.
يمكننا القول إنّ الكاتب يتخذ من روايته منبراً ليعلي صوته عالياً، قارئا بياناً مهماً، يدعو فيه الى أخذ العبرة مما كانت عليه الأحوال قبل نشوب الحرب نظراً الى التشابه الكبير بين الأمس القريب وما يحصل اليوم من اصطفافات طائفية ومذهبية.