قبل أيام قليلة، أحال منتحل صفة «أمين عام مجلس الوزراء» خلافاً للقانون، سهيل بوجي، كتاباً إلى أكثر من جهة حكومية ورئاسية، بعدما صدَّر صفحته الأولى بعبارة «عاجل جداً وفوري». في صفحات الكتاب مراجع كثيرة ووثائق وقوانين لبنانية وأخرى فرنسية، قبل أن تنتهي تلك الرزمة الثقيلة إلى نص مشروع قانون، يقضي بتعديل القانون 140/ 1999، المتعلق بصون الحق بسرية المخابرات. التعديل المطلوب يجيز فعلياً للأجهزة الأمنية أو سواها، التنصت على كل مقيم على الأراضي اللبنانية ورصد كل حركة يقوم بها في مسكنه أو عمله أو وقت فراغه أو جده، كما «تفييش» كل لقاء يعقده أو زائر يزوره أو نفس يتنفسه. ويوضح نص الكتاب صراحة أن المجزرة التي يُعدّ لها، معدّة مسبقاً مع رئيس مجلس شورى الدولة شكري صادر. ينطلق الكتاب من قرار مجلس الوزراء في 25 تموز الماضي إرسال وفد إلى باريس للاطلاع على الآلية المعتمدة فرنسياً لاعتراض المخابرات.
ثم يبني على التقرير النهائي الذي رفعه الوفد المذكور. وفيه أن سلسلة لقاءات عقدها المسؤولون اللبنانيون مع نظراء فرنسيين لهم في كل من الدوائر الرسمية الآتية: الجهاز المركزي للاستخبارات الداخلية (DST سابقاً)، «المكتب المركزي لمكافحة الجرائم المتصلة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات»، «اللجنة الوطنية للمعلوماتية والحريات»، «قسم التحقيق في الدائرة القضائية العبر _ مناطقية في باريس»، شركة «أورانج» لخدمات الهاتف الخلوي والثابت، «الهيئة الوطنية لمراقبة الاعتراضات الهاتفية ذات الطابع الأمني»، والمؤلفة من ثلاثة قضاة ونائب وعضو مجلس شيوخ.
وتأكد للمسؤولين اللبنانيين بنتيجة الزيارة أن التنصت على حياة الأفراد الخاصة لا يعني اعتراض المخابرات وحسب، بل يعدّ تنصّتاً فعلياً وتقنياً وعلمياً على كل من الأمور الآتية: حركة الاتصالات الشاملة، لائحة الفواتير الهاتفية المفصلة، وطبعاً الداتا الخلوية الكاملة. وهذه كلها مشمولة بحماية القانون الفرنسي، فلا تعطى إلا «بناءً على طلب محصور ومعلل تحدد فيه أسماء أو أرقام المشتبه فيهم كما نوع الجرم المنوي إسناده إليهم». أما إعطاء الداتا الشاملة فأمر غير وارد إطلاقاً في المفهوم الدستوري والقانوني والحقوقي الفرنسي، وهو المفهوم المستوحى منه القانون اللبناني ذي الصلة. وكما بات معروفاً ومنشوراً، ذكرت الخبرات الفرنسية للزائرين اللبنانيين أن ثمة ديكتاتوريات قليلة جداً في العالم لا تزال تنتهك هذا الحق الإنساني الطبيعي. منها بعض الديكتاتوريات العربية. أما في أميركا فقد أقرّ المبدأ لفترة وجيزة بعد أحداث 11 أيلول، بهدف التنصت تحديداً، وذلك نظراً إلى غياب قانون أميركي يجيز ذلك، في ظل التعديل الدستوري الأميركي الأول المتعلق بالحريات العامة. وهكذا ثبت للوفد اللبناني أن طلب الداتا، وتحديداً بصمتي IMSI و IMEI، الهدف منه لدى الأنظمة التي تقوم به هو ليس رصد حركة هاتف ما، بل التنصت فعلياً على مكالمات هذا الهاتف ومضمونها. ذلك أن الخبراء الفرنسيين أكدوا لضيوفهم ما يعرفه هؤلاء أصلاً، من أن «شركات أوروبية تعمد إلى تجهيز بعض البلدان ببرامج وتجهيزات تنصّت شاملة للمخابرات»، وأنه يكفي لمن يحصل على هذه التجهيزات أن يمتلك داتا الاتصالات، وخصوصاً البصمتين المذكورتين، ليصير قادراً على التنصت على مضمون كل المكالمات الحاصلة في نطاق عمله، أكان شبكة منطقة أم شركة أم بلداً بكامله، كما هي حال المطلوب لبنانياً.
ورغم أن الخبرة الفرنسية أوضحت للبنانيين أن الاستثناء لهذه القاعدة الحقوقية لا يحصل إلا لدى ديكتاتوريات محدودة، ولا يطلب إلا بهدف التنصت الفاضح، تمت صياغة هذه الفكرة في التقرير المرفوع بطريقة ملتبسة، وكالآتي: «لمسنا تفهماً لجهة إمكانية تعديل المادة الأولى من القانون 140/1999، بحيث يتم استثناء حركة الاتصالات الشاملة من نطاق أحكامه، لما تمثله من أهمية بالنسبة للأجهزة الأمنية اللبنانية»... وهي الصياغة التي انطلق منها كل من بوجي وصادر لتدبيج مشروع قانون جديد يستبيح كل حقوق الحياة الخاصة وحرمتها وسريتها. فيبيح للأجهزة الأمنية، رسمية كانت أو بوليسية، الحصول الدائم والكامل على كل ما يأتي: اسم المتصل واسم المتصل به. نوع الاتصال، عادي أو خلوي. التاريخ والساعة ومدة الاتصال. الموقع الجغرافي للمتصل والمتصل به. حركة الاتصال عبر SMS وMMS. بصمة IMEI وبصمة IMSI. على أن يكون هذا الانتهاك شاملاً لكل مقيم على الأرض اللبنانية وبشكل دائم وأبدي.
إزاء هذه المذبحة تطرح الأسئلة الآتية:
أولاً من الجهة الحقوقية الإنسانية، هل يعتقد بوجي وصادر أنه بعد كل الضجة التي أثيرت في لبنان حول حركة الاتصالات وحول الخطوط المزدوجة (Co – Location) هل يعقل لنشال صغير ألا يكون قد أدرك بعد ضرورة عدم حمله لهاتف خلوي أثناء قيامه بأي جرم؟ فلماذا الإصرار على الداتا الكاملة بعد كل حملات التوعية التي أطلقت لتنبيه المجرمين والجناة، إن لم تكن للتنصت على المواطنين؟ ثم ألا يعرف بوجي وصادر أن هذا ما يحصل اليوم مع الكثير منا ومنهم ومع هواتفنا وهواتفهم؟ هل يريدون أدلة وقرائن؟؟ لو أن الأمانات تسمح...
ثانياً، من الناحية القانونية، وبعدما ثبت علمياً وتقنياً وبشكل قاطع أن الداتا تعني التنصت لا رصد الحركة وحسب، يصير المشروع المقترح من قبل بوجي وصادر إلغاءً كلياً للقانون 140، لا مجرد تعديل له. وهو ما يفرض تحليهما بصراحة الطرح على الحكومة والمجلس النيابي تعليق العمل بقانون حرياتنا العامة، لا التحايل عليهما وعلينا بذريعة التعديل.
ثالثاً من الناحية الدستورية، إن هذا الأمر يشكل خرقاً صارخاً لأحكام الدستور اللبناني في الفقرة «ج» من مقدمته الميثاقية (احترام الحريات العامة) وفي مادته الثامنة (صون الحرية الشخصية) والمادة 14 (حماية حرمة المنزل).
فضلاً عن أن مصادرة بوجي وصادر لصلاحية دستورية معهودة إلى الوزير المختص تشكل انقلاباً على جوهر ميثاقي أساسي من أسس وثيقة الوفاق الوطني ودستورها، وتعدّ اغتصاباً للمادة 66 الميثاقية.
ما العمل حيال مذبحة كهذه؟ بداية أن يتحمل كل من الوزيرين نيكولا صحناوي وشكيب قرطباوي مسؤوليتيهما في الدفاع عن الميثاق والدستور والقانون والحريات العامة، ومن ثم كل النواب والوزراء، ونجيب ميقاتي ونبيه بري وميشال سليمان، وإلا... كل اللبنانيين.



حيث يحترم الإنسان

يقوم تشابه كبير بين القانون اللبناني 140/1999 المتعلق بصون حرية التخابر وبين القانون الفرنسي الموازي 646/1991. وهو ما سهل عمل الوفد اللبناني حيال مهمته. فبمقارنة بسيطة بين النصين تبين أن المشكلة هي ليست في النصوص بل في النفوس، لمجرد أن في فرنسا دولة تحترم الحقوق والحريات والإنسان، وتحدد مثلاً أن الأسباب الموجبة للسماح بالتنصت على هاتف واحد أو أكثر هي حصراً ما يأتي: الأمن القومي، مكافحة الإرهاب، مكافحة الجريمة المنظمة، مكافحة التجسس الصناعي والعلمي، إعادة تنظيم جمعيات تم حلها لمخالفتها الانتظام العام.
لكن هذا التحديد لا يكفي. فعمد الفرنسيون، وخلافاً لحرفية قانونهم، وضماناً لمزيد من صون حقوق الإنسان، إلى تطبيق عرف يفرض على رئيس الوزراء، رغم صلاحياته المطلقة في هذا الشأن، إحالة كل طلب تنصت يتلقاه من وزيري الداخلية أو الدفاع على الهيئة الوطنية لمراقبة الاعتراضات، لأخذ الموافقة المسبقة قبل تنفيذه. لا بل تبلور فرنسياً عرف قانوني ثابت آخر، نظراً إلى مرور أكثر من 20 عاماً على القانون المرعي، يقضي بحق الهيئة في مراجعة الجهة المتنصتة بعد تنفيذ مهمتها، والطلب إليها إيداع الهيئة الوطنية نتاج تنصتها، لتتأكد الهيئة مما إذا كان التنصت قد أدى الدور القضائي المفترض له، أو جرى استغلاله في غير إطاره الحقوقي.