«لا مستقبل لأمة لا تتكلم لغة أجدادها»، كان هذا مبدأ اللغوي إليعازر بن يهودا، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وأسس لتكون العبرية لغة محكية توحّد اليهود في العالم. وها هم اليوم الموارنة، الذين يعيشون في الجليل يكررون التجربة، لكنهم استبدلوا العبرية بالآرامية، اللغة المحكية للسيد المسيح. لا يتجاوز عدد موارنة الجليل 7000 شخص، بمن فيهم الذين هربوا من لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، ويعيش معظمهم في قريتي جيش وإكريت. هؤلاء كانوا حتى الماضي القريب يمارسون عاداتهم وتقاليدهم، ويتكلمون العربية مع أولادهم. الوضع تغيّر في السنوات القليلة الماضية، عندما قرر عدد من كهنتهم وأبناء الرعية وأساتذة من الجامعات الإسرائيلية «العودة الى الجذور».
هكذا، ذهب الموارنة بعيداً في التاريخ، وقرروا أن يتعلموا الآرامية ويعلموها لأبنائهم، لأنها لغتهم الأم كمسيحيين، فتحولت دورات الآرامية، التي كان ينظمها كاهن الرعية كل ثلاثة أشهر، إلى قضية انتماء ووجود. وقرر أحد أبناء الرعية أن يوسع دائرة الدراسة لتشمل التلامذة والأطفال. وراح يفاوض السكان شهوراً طويلة، داعياً وزارة التربية الإسرائيلية إلى إدخال الآرامية في المناهج التعليمية في القرية، على قاعدة أنهم أقلية ويحتاجون إلى حماية هويتهم الثقافية والدينية. فكان لهم ما أرادوا، ودخلت الآرامية المناهج التعليمية لمدرسة جيش الرسمية، حيث تموّل الوزارة الإسرائيلية التعليم حتى الثامن الأساسي. في البداية، أبدى بعض الأهالي تخوفهم من تدريس الآرامية لأطفالهم، خشية أن تتحول إلى قضية قومية، لكنهم رضخوا في نهاية المطاف للواقع، بعدما أصبحت حصص الآرامية أساسية في المدرسة. وتقول مديرة المدرسة في حديث إلى جريدة «جيروزاليم بوست» إنّنا «نستورد كتب الآرامية من السويد، حيث توجد أكبر مجموعات سريانية بسبب الهجرة، وحيث تدريس اللغة جزء من المناهج المدرسية الخاصة بهذه المجموعات، ويجري أيضاً استيراد الكتب من لبنان بواسطة رجال الدين الموارنة».
هكذا، بدأ الأطفال يستخدمون لغة أجدادهم في حياتهم اليومية، ويقدر مهندسو هذا المشروع أنه في غضون 10 سنوات سيكون هناك 110 يافعين يتكلمون الآرامية بطلاقة كل
يوم!
إلى ذلك، لم تقتصر مسيرة شباب جيش في تعلم الآرامية على المدرسة، بل أنشئ «المركز الآرامي الماروني»، الذي يهدف الى إعادة إحياء الآرامية، كلغة محكية لتوحيد المسيحيين في المشرق «أمة واحدة قوية»، ونقل الموروث الثقافي، والتاريخ الآرامي إلى الأجيال الجديدة. وبعيداً عن الأمة المسيحية المشرقية، يجهد المركز في الدفاع عن حقوق المسيحيين في إسرائيل، والحدّ من هجرتهم.
يذكر أنّ تعلم اللغة في جيش يسير بسرعة قصوى بسبب سهولة المناهج المدرسية المستوردة من السويد وهولندا. ففي هذه الدول يعتمد تأقلم الأقليات المهاجرة إليها على مبدأ المحافظة على تاريخها وهويتها، فتنجز وزارات الثقافة منهجاً مدرسياً حديثاً وديناميكياً لتعليم أطفال الأقليات لغتهم الأم. الهدف من هذه المناهج هو مساعدة أطفال مسيحيي العراق (من كلدان وسريان)، الذين يهاجرون بكثرة إلى هذه الدول على صون إرثهم الثقافي، ما سمح لموارنة جيش بأن يحصلوا على منتج فكري ذي قيمة، يدعمهم في مسيرتهم السياسية، المنسوخة عن
اليهودية.
وفي السياق، يشدد أبناء جيش في مجمل المقالات المنشورة عنهم، على أنهم يعلّمون أولادهم الآرامية لا السريانية، وهم بذلك يبرزون الغرض السياسي من عملية التعلم هذه. فالسريانية هي اللغة الآرامية الرسمية، أو الآرامية الفصحى، وهي اللغة الطقسية لكنائس المشرق، والمارونية من بينها. لكن موارنة الجليل يريدون أن يميزوا أنفسهم عن باقي الموارنة والسريان في العالم العربي، عبر اعادة إحياء اللهجة الآرامية الفلسطينية، وإن كانت لغة ميتة، ليظهروا صورة ورثة المسيح في أرضه ومع أبناء شعبه: اليهود. وهم يعطون لأنفسهم بذلك بعداً زمنياً لا يعيشونه حالياً. كذلك يسعى موارنة الجليل إلى خلق هوية وانتماء جديد لهم. انتماء يقربهم من اليهود، بما أن الآرامية والعبرية لغتان متقاربتان تبعدانهم كل البعد عن الإسلام والفلسطينيين. ولن يتأخر تلامذة يهودا بن اليعازر عن التأكيد أنّهم هم من حافظوا على الآرامية، فيما ورثتها الحقيقيون هم مسيحيو العراق، الذين لم يتوقفوا طوال 2000 سنة عن استعمالها كلغة
رسمية.