طوال عقود، كان ايريك رولو الصحافي الفرنسي الأشهر في ما يتعلق بالشرق الأوسط. غطى حروب الـ 1967 و1973، وقابل جمال عبد الناصر، وأنور السادات، والعاهل الاردني الملك حسين، وياسر عرفات، ودافيد بن غوريون، وموشيه دايان، واسحاق رابين، وشيمون بيريز، وجميع القادة الذين كان لهم تأثير كبير في تاريخ هذه المنطقة. ارتبط رولو في وقت مبكر جداً بالزعيم العراقي الكردي مصطفى البارزاني، ويبقى دوماً حساساً تجاه مطالب هذا الشعب.
الكتاب الذي ينشره اليوم بعنوان «في كواليس الشرق الأوسط: 1952-2012» Dans les coulisses du Proche-Orient (منشورات فايار) شهادة بارزة على تاريخ هذه المنطقة، وخصوصاً على التحول الذي أحدثته حرب الـ 1967 وعواقبها على المدى الطويل. بالنسبة إلى كل الذين يريدون أن يفهموا، تمثّل هذه الشهادة مقدمة واضحة ومثيرة للاهتمام إلى التاريخ المعاصر لهذا الشرق الذي ندعي أنه معقّد جداً. بالنسبة إلى الشبان، سيكون هذا اكتشافاً. أما بالنسبة إلى الآخرين، فسيمثل ذلك انغماساً في ذكريات منسية أحياناً.
يشتمل هذا الكتاب الذي ألّفه صحافي تابع يوماً بيوم الأحداث التي شهدتها هذه المنطقة، على حقائق واكتشافات عدة، من بينها الطريقة التي اعتمدها الجيش الاسرائيلي ــ من خلال شبه انقلاب ــ كي يفرض على حكومته شن الحرب على مصر في 5 حزيران (يونيو) 1967. يروي رولو أيضاً موت جمال عبد الناصر، وتولي السادات زمام السلطة، والطريقة التي اتكأ بها هذا الأخير على الاخوان المسلمين لمحاربة اليسار والماركسيين.
بصفته دبلوماسياً مستقبلياً، لم يحصر رولو مهمته بدور المراقب. في نهاية الستينيات، حاول عبثاً تنظيم زيارة الرئيس الأسبق للمجلس اليهودي العالمي ناحوم غولدمان إلى القاهرة. قام عبد الناصر بدعوة غولدمان، لكنّ الحكومة الاسرائيلية رفضت اعطاء هذا الأخير الضوء الأخضر. لم يفوّت القادة الاسرائيليون يوماً فرصة لضرب بمسيرة السلام عرض الحائط... لقد كتبت مقدمة هذا الكتاب الصادر حديثاً، وأقدّم هنا بعض مقتطفاتها:
«في مطلع عام 1952 نُفِي ايلي رفول الذي سيصبح لاحقاً ايريك رولو، من مصر. غادر البلاد في الرابعة والعشرين من العمر حاملاً معه أمتعة قليلة ومتسلحاً بخبرة كبيرة. لم تُثبِط عزيمته سنةٌ من البطالة، ووجد في النهاية مكاناً له في قسم الاصغاء إلى الاذاعات العربية التابع لوكالة «فرانس برس»: في تلك الحقبة، كان مراسلو الصحف في الخارج قلائل والوسائل المتاحة لمعرفة ما يحدث قليلة. عليهم إذاً الاصغاء إلى الاذاعات المحلية ليتمكنوا من الاطلاع على آخر المستجدات.
في تشرين الأول (أكتوبر) 1954، حقق سبقه الصحافي الأول: أعلن أنّ الرئيس المصري جمال عبد الناصر نجا من محاولة اغتيال نُسِبَت إلى الاخوان المسلمين. وفي عام 1955، بدأ تعاونه مع صحيفة «لو موند»، ومرة أخرى، ها هي مصر والأزمة بين عبد الناصر والغرب تقدمان له فرصة توقيع أول مقالٍ له يظهر في الصفحة الرئيسة: «سيُشيَّد سد أسوان رغم كل شيء. هذا ما تؤكده القاهرة» (صحيفة «لو موند» بتاريخ 22-23 تموز (يوليو) 1956). بعد بضعة أيام، أي مساء 26 تموز (يوليو)، استمع لخطاب عبد الناصر الذي أعلن مقهقهاً، متفاجئاً ربما من جرأته، عن تأميم شركة قناة السويس، بغية تمويل بناء السد العالي في أسوان لأنّ الجهات المانحة في الغرب رفضت متابعة تمويل هذا المشروع. فوجئت إدارة «فرانس برس» بهذا الخبر، لا يُعقَل أن يجرؤ عبد الناصر على ذلك، وكتمته لبعض الوقت ولم تقرر نشره إلا عندما بدأت الصحف المنافسة بنشره».
(...)
«هذا الكتاب دليل أيضاً على فطنة هذا الصحافي الجيد الذي كان في كل لحظة على موعد مع التاريخ: في القاهرة في حزيران (يونيو) 1967، أثناء الاعتداء الاسرائيلي؛ في عمان عام 1970، خلال المجازر التي ارتكبها الجيش الاردني بحق الفلسطينيين؛ في القاهرة مجدداً، في 28 أيلول (سبتمبر) 1970، عندما توفي الرئيس عبد الناصر بشكلٍ مفاجئ، وفي نيقوسيا عام 1974عندما حدثت محاولة انقلاب ضد الرئيس، الأسقف مكاريوس (مقالة بعنوان «لطالما شكلت قبرص واليونان جزءاً من «امبراطوريته»» في صحيفة «لو موند» وذلك في إطار تصور بريطاني للشرق الأوسط الذي يضم اليونان، قبرض وتركيا في خندق واحد).
غالباً ما يحظى ايريك رولو بتكريم استثنائي. ينزل في أهم الفنادق حيث يجلس المسؤولون في غرفة انتظار ليقابلوه، يفضوا له بأسرارهم ويكشفوا له عن الحقائق التي يعرفونها، وهذا ما يثير غيرة بعض زملائه.
لكن دولة واحدة تخرج عن هذه القاعدة: إسرائيل. لا شك في أنّه استطاع كما يقول هنا، اجراء مقابلات مع دافيد بن غوريون وغولدا مائير وموشيه دايان واسحاق رابين وشيمون بيريز. بيد أنّ مناحم بيغن، الزعيم اليميني، أدانه بصفته «عميلاً مصرياً» رأي شاركه إياه «الاستابلشمنت». ويتذكر جان غيراس أنه في باريس، «قامت السفارة الاسرائيلية بمضايقته من خلال بعث رسائل يومية من «قرّاء ساخطين» إلى مدير صحيفة لو موند». بالنسبة إلى قادة «الدولة العبرية» خلال السبعينيات، فإنّ ايريك كان أكثر من مجرد عدو. إنه خائن تستوطن فيه «كراهية الذات». لا يستطيعون أن يفهموا أنّه على العكس، حمل هذا الرجل في نفسه تقليداً يهودياً يسعون هم إلى دفنه، تقليد ضرب عرض الحائط بالقومية الضيقة وأعرب عن تضامن مع المظلومين كلهم. انّ أحد أصدقاء رولو، شحاتة هارون، محامِ مصري يهودي رفض مغادرة مصر حتى وفاته، ونقش على شاهدة قبره:
«أنا أسود عندما يكون السود مظلومين.
أنا يهودي عندما يكون اليهود مظلومين
أنا فلسطيني عندما يكون الفلسطينيون مظلومين».
يحب إيريك أن يروي «عودته» إلى مسقط رأسه، إلى هيليوبوليس، في نهاية الستينيات. مع زوجته روزي، قرع جرس الباب واستقبله بلطف سكان المنزل الذين أخبرهم قصته. ويا للمفاجأة، رآهم يقهقهون: «إنهم فلسطينيون يحتلون منزله، وسخرية الوضع قد فاجأتهم جميعهم بشدة. ستربطه علاقة صداقة بهؤلاء المشرّدين، من دون منزل ولا وطن، ويشعر أنّه مقرب منهم».

* صحافي فرنسي ومدير مساعد في «لو موند ديبلوماتيك»



النكسة التي غيّرت كل شيء

اريك رولو*
يرى بعض المراقبين أنّه في تلك المرحلة (أي ربيع 1967)، كان النظام الناصري يلفظ أنفاسه الأخيرة. عبد الناصر الذي كان أوضح الرؤيا، افتتح الاجتماع الأول لمجلس الوزراء في 19 حزيران (يونيو) معلناً بصوت مرتفع: «لقد انهار النظام، وقد ولد آخر اليوم». إلا أنّه تجاهل أنّ شهادة الوفاة تلك تعود إلى يوم 5 حزيران (يونيو) 1967. في ذلك اليوم، غرقت في العار والخزي كل القوى القومية اليسارية، الناصريون، والبعثيون، والاشتراكيون والشيوعيون، الذين اعتبروا مسؤولين عن هذه الهزيمة العسكرية، وفشل نظام سياسي. اختفاء هذه التيارات العلمانية عن الساحة السياسية ترك فراغاً مهولاً لم تلبث أن ملأته قوى الاسلام السياسي. هناك مشهد لا يفارق مخيّلتي عن تلك المرحلة: الإقبال الكثيف على الجوامع إلى درجة أنّ المؤمنين الذين ما كانوا قادرين على الدخول من كثرة الاكتظاظ، كانوا يمارسون صلاتهم على الأرصفة المحاذية وفي الشوارع القريبة، مفترشين سجادات الصلاة المترامية على مدّ النظر، ما سبّب أزمة مرورية خانقة وعرقل حركة السيارات والمارة على السواء. كانت تلك ظاهرة طبيعية جداً: الدين هو ملجأ الاشخاص المأزومين، يقدّم لهم الأمل. «الإسلام هو الحلّ»، ذلك الشعار الذي تبنّاه الاسلاميون لاحقاً، ما انفك يكسب أرضيةً. حتى أنّ بعض المسلمين الذين تحدثوا معي، عزوا النصر الإسرائيلي إلى تمسّك اليهود بتقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية، وإلى إيمانهم بالكتب المقدسة التي تشرّع وجود دولتهم في فلسطين. بحسب هؤلاء، فإنّ المسلمين خسروا لأنّهم ابتعدوا عن دينهم واعتنقوا الايديولوجيات العلمانية: الناصرية، والبعثية، والاشتراكية، والشيوعية».

مقتطفات من كتاب «في كواليس الشرق الأوسط» حول حرب الـ 1967 ونهوض الاسلام السياسي كنتيجة مباشرة للنكسة