كيفما دار العرب
هل ينفع كلامٌ من نوع: كان الله في عون الشعب الفلسطيني؟ في الحقيقة، لم يعد يصلح غيره. عدم المؤاخذة. الله، والشعب الفلسطيني نفسه _ ووحده _ ومنذ أربعينات القرن الماضي، وهو يتحمّل ناهشي لحمه من «الأشقّاء» العرب، فضلاً عن صالبيه من الصهاينة والغرب والشرق. وآخر وجبة طُبخَت من لحم الفلسطينيّين كانت في غزّة، غزّة المُفقّرة المخنوقة، لمصلحة المعسكر النتانياهي في الانتخابات المقبلة. وطبعاً سارعت «القوى» العربيّة والإسلاميّة إلى الانخراط في الصَّلْب، تحت ستار الجهاد الصراخي وسحب السفير والشكوى لمجلس الأمن والهرولة إلى غزّة، إلى آخره، ممّا لا آخر له من تمثيليّات لم تتجرّأ أيّ منها على نقض اتفاق كمب ديفيد أو التهديد _ على الأقلّ التهديد _ بإعلان الحرب العربيّة الشاملة على إسرائيل.

الحصيلة: زهاء العشرين قتيلاً في إسرائيل وأكثر من 160 قتيلاً في غزّة، وفوق الألف جريح وتدمير ما تبقّى من بُنى تحتيّة والفتك بالحياة النفسيّة والعصبيّة (العرب لم يأخذوا علماً بعد بوجود مثل هذا «الشيء») لعشرات ألوف الأشخاص في القطاع المستمرّ تمزيقه. نظرةٌ واحدة إلى عيون المسؤولين الإسرائيليّين تنبئنا بأننا في رأيهم حشرات، ولا نلومَنَّ إلّا أنفسنا ما دمنا في نظر حكّامنا وزعمائنا وأثريائنا أيضاً حشرات، وفي حالات الأكثريّة الساحقة نحن أيضاً في نظر أنفسنا حشرات. ألا يُحسَب قتلانا يوميّاً في سوريا وحدها بالمئات وكأنّهم حالةُ الطقس؟


■ ■ ■


كيفما دار العرب يستوعبهم أعداؤهم. ويديرونهم دون أن يشعروا. لا سوء فهم ولا سوء تفاهم، بل محض مدير ومُدار. وفوق هذا انغشاشٌ عربيّ بالذات، بدهاء الداهية الذي يلعب على حبال التوازن الدولي ويظنّ نفسه أذكى من المتلاعبين به. أذكى من شاربي مائه وسارقي نفطه والمقاتلين بِبَشَره والمقايضين ثرواته بأسلحتهم البالية.
«سوق»ُ تفاهمٍ بين ضحيّة مزمنة مدمنة وجلّادٍ لا غنى عنه...
وتنتهي الحروب ويموت مَن مات ويعيش مَن سيموت في جولةٍ أخرى.

■ ■ ■


الأحياء هنا أحياءٌ بالصدفة. القتل واجبٌ قوميّ وخدمةٌ عالميّة، إنْ لم يكن بالرصاص فبحوادث السير. أربع نساء نجونَ من المذابح السوريّة، وبعد أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة على وصولهنّ إلى لبنان، داستهنّ على أوتوستراد الناعمة ثلاث دفعاتٍ من السيّارات المستعجلة. إلى أين تركضون أيّها السادة؟ استعجالٌ للتّمتّع بماذا؟ بالمقاهي التي يخنقها الإفلاس بعد دخان الأراكيل؟ أم ببيوتكم الأكثر إملالاً من المقابر؟

■ ■ ■


الحروب والفواجع العامّة تُخجّلك بهمّك الشخصيّ، فتَفْطس أكثر ممّا أنت فطسان. ولا تكاد تلتقط أنفاسك بعد «الهدنة» حتّى تنفجر مصيبة قوميّة فادحة.
... ذات رسالةٍ خالدة.

■ ■ ■


أفهمُ نضالَ الشعب الفلسطيني، وأكاد لا أفهم سواه. ولكن، كيف يذهب شباب إسرائيل للقتال من أجل انتخابات حاكم مثل نتنياهو، ومشروعٍ مصطنعٍ كالمشروع الإسرائيلي؟
هل صحيحٌ أنّ عمر البشريّة ملايين السنين؟
وضروريّ كلّما أقبل جيلٌ «جديد» أن يعيدنا معه ملايين السنين إلى الوراء ليتعلّم، ثم يعقبه جيلٌ لم يتعلّم ويريد أن يتعلّم على حساب الذين شبعوا تعلُّماً؟
ما هذه البشريّة الغشيمة التي لا تضجر من تكرار تكراراتها؟


■ ■ ■


كان التلفزيون أمس يعيد عرض فيلم أميركي بعنوان «أهل المرّيخ يهاجمون الأرض».
لو فعلوا، سيبرهنون أنّ هناك في المجرّة الشمسيّة مَن هم أغبى من أهل الأرض.




كونوا غرباءنا

غَرِّبوا ولا تُشرّقوا.
لا تحكوا لغتنا، لا تلبسوا مثلنا، لا تأكلوا ما نأكل.
هذا النداء، الموجَّه إلى السينمائيّين والتلفزيونيّين والمسرحيّين، إلى النجوم، إلى «الآخر»، ليس دعابة. إنّه استرحام.
نهرب إلى السينما، إلى الآخر، لنغترب. لنكتشف المختلف. وها نحن لم نعد نقدر أن نتجنّب في الأفلام منذ سنين عرب المغارب في السينما الفرنسيّة وعرب لبنان وسوريا ومصر والخليج في أفلام هوليوود... وأمّا الشخص الآخر، المرأة المختلفة، فمسألةُ وقت للصحوة من الحلم!
ماذا فعلنا لنستحقّ هذه القسوة؟
رحمة السينما هي في نقلنا من واقعنا. السينما سحر. شذوذٌ واحدٌ عن القاعدة اسمه عمر الشريف، لأنّه مُغرّب إذا شرّق ومُشرّقٌ إذا غرّب. الآخرون أبناء حارتنا ولو غرّدوا بالياباني. والقريب إلى هذا الحدّ غير مُقْنع، حيطُه واطٍ مهما كان دوره عالياً.
الإنسان باحثٌ عن مجهول. المعلومُ طالقٌ بالثلاثة. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يكره جنسه، فكيف لا يكره المرايا التي تعيد له صور أنسبائه وأبناء بلدته وبنات عمّه؟ قد يهوى صورته في المرآة، لكنّه يمقت المرايا التي تعكس صور الذين يشبهونه.
جميع الفنون شرطها واحد: التغريب. والأفضليّة هي للتغريب الساحر لا الساخر، لميكل آنج ورافائيل لا لبيكاسو. شكسبير لا برنارد شو. هوغو وبودلير ورمبو، لا فولتير ولا موليير. الكمنجة لا الدربكّة. الناي لا الصفير. البهاء لا كزكزة العجز.

■ ■ ■


جزء من النفس يرتاح إلى العادات، وجزء يصبو إلى الجديد. الشمال لا يشتاق إلى الشمال، بل إلى الجنوب. توعكت السينما الغربيّة حين جاءت بمستَعْمَري الغرب السابقين وركّبتهم على شاشاتها.
لا تعجبني بنت بلدي سلمى حايك ولا زميلها في هوليوود ابن شلهوب. هذان طبيعي أن يستهويا الغريب، ونحن طبيعي أن يستهوينا الغريب. لا يشدّني أحدٌ من نجوم السينما الفرنسيّة الجزائريّين أو السنغاليّين. لا تعجبني السينما الصينيّة حيث لا تعرف أحداً من أحد، ولا أويّد الديموقراطيّة في الفنّ. السينما تهريب. تجلس أمام الشاشة لتدخل إلى السماء، لا لتحكي مع الجيران.




أطفال إلى المعتقلات

ذات صباح، رحتُ أتمشّى على الأرصفة المحيطة بمدرسة راهبات اللعازارية المحاذية لبيتي في الأشرفية.
كان الحيُّ هادئاً، تجتازه من وقتٍ إلى وقت لبنانيّات أو إثيوبيّات مصطحبات كلابهنّ. بعض هذه الكلاب صغيرة كدجاجة وأقل سُمنة. بعضها أشبه بزجاجة عطر لا بحيوان.
فجأةً، بدأت السيّارات تأتي بالأطفال إلى المدرسة. وكخزّان أولاد تَدَفّق، أطفالٌ محمولون حملاً كالنعاج إلى المعتقل.
صبيٌ لا يعدو الأربعة أعوام، يصطحبه أبوه، بدا لي كومةَ ريشٍ وبونبون. ماذا جنى هذا الملاك القاصر ليُساق كالمحكوم في السابعة صباحاً إلى صفّ سيلهو فيه مع ولدٍ آخر، أو يغفو معوّضاً عمّا حُرِم إيّاه كلّ يوم في سبيل «العلم»؟ وهذه الصغيرة التي لا تقوى سلطة والديها على إيقاف نوبات تثاؤبها حتى ليكاد ينخلع فكّها؟ ماذا سيدخل رأسها وهي تغالب النوم؟
منظرٌ يسلخُ القلب. أولادنا أشبه بمعتقلي الغولاغ الستاليني. ينتزعونهم من النوم في الفجر، ويحمّمونهم وهم يرتجفون برداً، ويروّقونهم وهم بعد نيام، ويُلبسونهم كما يُلبس الحرّاسُ المحكومَ ثياب المشنقة.
أدعو، باسم قيم الشفقة والرحمة والعدل والمنطق والإنسانيّة، إلى إلغاء هذا النظام المدرسي التعليمي المتوحّش وإبداله بألطف من نظام العمل، بنظامٍ أبسط هو فتح المدارس في العاشرة صباحاً، لا في الثامنة، وبدء التعليم من السنّ السادسة أو السابعة لتمكين الأولاد في سني عمرهم الخمس أو الستّ الأولى من أن يكونوا أولاداً، يكتشفوا بدايات أنفسهم قبل أن يبدأ تعليبهم وعسكرتهم، ويعرفون فضاءَ اللّا حشو، اللّا حفظ، اللّا أوامر. فضاءٌ هو ملْك الطفولة. ومن الإجرام حرمانها إيّاه باسم واجب المدرسة.
هؤلاء الأطفال المساقون إلى معسكرات الغولاغ سيخسرون فسحةً مقدّسةً من نموّهم، كما سيخسرون أغلى ما يخسره الولد: وهو الالتصاق بحنان والديه وعدم الشبع من سماعهما واكتشافهما والغَرْف من دفئهما. إنّهما مدرسته الحقيقيّة، الأولى والأخيرة، والمدرسة الأخرى هي منفاه.
عندما يكبر ويقسو قلبه، ليبقَ في المدرسةِ والمعهد والجامعة ما طاب له البقاء. ولكنْ ليشبع منه أمّه وأبوه قبل أن يغادر براءته، وليشبع هو من أبويه قبل أن يصبحا عبئاً عليه.
وتظلّ المدرسة المُثلى تلك التي ينهل فيها الولد الحبّ والمعرفة ممّن يحبّه ويعرفه. ومَن سيحبّه وسيعرفه أكثر من أبيه وأمّه؟
لو كانت لي الإمكانات في صباي لأتيتُ لابنتي وابني بمعلمين إلى البيت يعلّمونهما بعض الأسس والمبادئ الجوهريّة وبعض المواد الأدبيّة والحساب ولغتين أو ثلاثاً، في الأوقات التي «تريح» الطرفين، وبمنهجٍ يترك للولدين الباب مفتوحاً أمام اختيار ما يريدان متابعته والتخصّص فيه وما لا يريدان.
إلى أن يأتي وقتٌ يصبح فيه لكلّ كائنٍ هدفه المعرفي، كما أنّ لكلّ كائنٍ جيناته.