تعز | «مهمشون كلاس»، بهذه العبارة اختصر أحدهم مدينة الوفاء، حيث تعيش مجموعة من المهمشين في مدينة تعز. فليس متاحاً لجميع المهمشين في اليمن، الذين يتخطى عددهم المليون ونصف المليون، الحصول على مسكن لائق. تصادفهم يعيشون في «عشش» صغيرة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة ويطلق عليها اسم المحاوي، كما ترى بعضهم يتوزعون في الشوارع على مقربة من أكوام النفايات، لتكون السماء وحدها غطاءً لهم.يؤدون مختلف المهن التي يسمح لهم بها، من جمع النفايات، تفريغ المراحيض، اصلاح المجارير، تلميع السيارات وصولاً إلى التسول دون أن يكترثوا للنظرة الدونية التي يتسبب بها إقبالهم على هذه الأعمال دون غيرهم من الناس. شكواهم واحدة؛ المواطنة المتساوية وعلى نحو خاص المساواة في العمل، لعلّهم يحصلون على وظيفة ثابتة تؤمن لهم ضماناً صحياً وتخفف من وطأة الفقر والتمييز الذي يقاسونه.
الأمثال الشعبية التي تتطرق إلى المهمشين في اليمن أبلغ دليل على مدى هذا التمييز، ولعل أقساها تلك القائلة «من ساير الخادم بات «نادم»» أو«إذا لعق كلب طبقك فنظفه، لكن إذا مسّه خادم فاكسره».
لا يشعر قاطنو مدينة الوفاء في تعز بوجود تمييز ضدهم في داخلها، فالوضع مختلف قليلاً، اذ إن غالبية ساكني المدينة من المهمشين. المدينة السكنية التي يعود بناؤها إلى بضع سنوات فقط، أنشئت بالشراكة مع البنك الدولي بهدف نقل مجموعات من المهمشين إليها، بعدما كانت السيول تهدد «عششهم» التي يقيمون فيها، لكن المنازل الصغيرة الحجم، والمؤلفة من ثلاث غرف، تبدو رغم حداثتها غير صالحة للسكن، نتيحة الإهمال الذي أصابها فضلاً عن متوسط عدد الأشخاص المقيمن فيها، الذي لا يقل في معظم الأحيان عن ٧ أشخاص ليصل في أحيان كثيرة إلى ٢٠.
عبده قاسم غالب، من جمعية الوفاء المعنية بالاهتمام بشؤون المهمشين، أكد وجود ٢٤٤ مسكناً في المدينة، فيما عدد السكان لا يقل عن ألفين، لافتاً إلى أن معظمهم من عمال النظافة، بينما قلة منهم تعمل في إحدى الشركات الخاصة.
غالب الذي يفاجئك أنه يعيش في المدينة إلى جانب ١٠ أسر أخرى، بالرغم من عدم انتمائها إلى المهمشين، حمّل السلطات اليمنية مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الفئة الأكثر فقراً في اليمن. وأكد على أهمية تحسين الرواتب التي يتقاضاها المهمشون، لأنهم لا يزالون يعملون بالأجر اليومي ودون تثبيت، منبهاً إلى أن معظم المهمشين حين يتعرضون لحادث صحي أو حتى وفاة يجدون أنفسهم مجردين من أي حقوق.
الربوعي عبده سعيد، من بين هؤلاء، لم يبد ارتياحه للاقامة في المدينة التي يسكنها من عام ٢٠٠٥. مطلبه الوحيد التساوي في المعاملة. بمرارة، أوضح أن العلاقات مع باقي اليمنيين تقتصر على العمل، قائلاً «في العمل عائلة واحدة، لكن ما أن ينتهي العمل حتى تتم معاملتي على أني مهمش».
سعيد، الذي تتألف أسرته من ٢٠ شخصاً، شكا من قلة الراتب ومحدوديته. وفي محاولة للتحايل على هذا الواقع المرير، روى سعيد كيف اشترى ثلاجة كهربائية بـ ١٣٠ ألف ريال بالتقسيط ثم عمد إلى بيعها بـ ٧٠ ألف ريال مباشرةً ليحصل على أموال نقدية لتسيير أمور حياته، كما تحدث عن توقف أطفاله عن التوجه إلى المدرسة بسبب عدم القدرة على تأمين تكاليف الكتب والزي المدرسي الموحد.
أما سلامة سنحان، التي تقيم إلى جانب زوجها وأطفالها الستة في أحد منازل المدينة، فشكواها الرئيسية كانت من عدم القدرة على تحمل تكاليف الاقامة لجهة دفع فواتير المياه والكهرباء. وهو ما يجعل العائلة محرومة منها في كثير من الأحيان، لتعتمد على ما تقدمه إليها احدى المنظمات من قارورة مياه تحتوي على ٢٠ ليتراً يومياً للعائلة الواحدة. وأرجعت سبب التمييز إلى العنصرية من جهة، وعدم الاحتكاك بين المهمشين وباقي اليمنيين على نطاق واسع.
بجوار هذه المنازل، أقيمت «عشش» من الصفيح تقيم فيها مجموعات من المهمشين، الذين لم يسعفهم الحظ في الحصول على منزل داخل المدينة التي يمثل الأطفال النسبة الأكبر من قاطنيها. سناء تعيش إلى جانب ستة من أفراد أسرتها، بينهم متزوجون في إحدى هذه «العشش» المؤلفة من غرفتين. الفتاة العشرينية شكت من المياه التي تتسرب في الشتاء إلى الداخل وتسببها في مرض الأطفال، كما شكت من غياب المراحيض في العديد من «العشش»، فضلاً عن عدم توافر الوحدات الصحية، مختصرةً مطالبها بمساعدات تعينهم على الاستمرار في الحياة، وتأمين الطعام لأطفالهم.
الواقع المؤلم، الذي يعيش في ظله المهمشون، أرجعه الروائي علي المقري، إلى مجموعة من الأسباب «أبرزها النظرة العنصرية تجاه أصحاب اللون الأسود، الذين يعتبرون من خلال هذه النظرة ناقصين وفي المستوى الأدنى اجتماعياً».
المقري، صاحب رواية «طعم أسود... رائحة سوداء» التي تطرقت إلى المهمشين، تحدث لـ«الأخبار» عن أسباب تاريخية أيضاً، موضحاً أن «اليمنيين عادة يتساءلون عن أصول هذه الفئة، ويعتبرونهم دخلاء جاؤوا من أفريقيا»، لكن المقري يرى أنّ «هذا القول فيه الكثير من عدم الدقة»، قبل أن يضيف «حتى إذا افترضنا أنهم كذلك، أليس لهم حق المواطنة بعد مرور مئات السنين على وجودهم في اليمن».
المقري يرى أن «الأخدام ممقوتون أيضاً بسبب سلوكهم الغجري في المجتمع اليمني المحافظ»، في ظل الاعتقاد السائد بأن أصولهم تنحدر من الحبشة (إثيوبيا حالياً). وأسوأ ما في الأمر، من وجهة نظره، أن «المجتمع والسلطة السياسية إذا ما حاولا أن يعملا على إدماجهم، فإن ذلك يجري بأدوات وأساليب عنصرية أيضاً، أي إنه يُطلب منهم الاندماج والتعايش مع المجتمع نفسه الذي يهمّشهم بدون التغيير في الثقافة العنصرية التي يحملها هذا المجتمع ضدهم، وبدون احترام ثقافة الأخدام السلوكية». ونبه إلى أن «ثقافة الأخدام الجمالية الغجرية القريبة للحس الفني دائماًً ظلت مستهدفة ومحل استنكار».
ووفقاً للمقري فإن «معظمهم تميّز بالعمل في الموسيقى والغناء والرقص، وهو ما صار غير مقبول منهم هذه الأيام»، خاتماً حديثه بالقول «من الصعب أن تندمج هذه الفئة في المجتمع من دون أن ينظروا إليها كما هي لا كما يريد المجتمع الذي همشهم طويلاً».



الزواج المختلط ممنوع

يرى المهمشون أن أكثر الحقوق المحرومين منها هي الحق في الوظيفة العامة والسكن والتعليم والزواج المختلط. ويروون كيف أنه من شبه المستحيل أن توافق أسرة يمنية على تزويج ابنتها من مهمش، لكن قد يحدث أن يقوم شاب يمني بالزواج من فتاة مهمشة، مع العلم أن هذه الخطوة ستعرضه للنبذ من قبل أسرته، حيث سجلت العديد من الحالات حرم هؤلاء الشباب من الميراث بسبب قرارهم غير المعتاد في المجتمع. هذا الواقع المرير ظن المهمشون أن الثورة اليمنية التي اندلعت عام 2011 ستمثل أولى خطوات الخلاص منه. وسجلت الثورة خروج المهمشين عن صمتهم للمطالبة بمساواتهم، كما شهدت ساحتا التغيير والحرية في صنعاء وتعز مشاركة أعداد من المهمشين في التظاهرات التي كانت تطالب بإسقاط النظام. ولعل من أبرز مكتسبات الثورة اليمنية اتخاذ المهمشين قراراً بتشكيل حزب سياسي لتمثيلهم في محاولة منهم لوضع حد لعملية الاقصاء التي يواجهونها في المجتمع.
وبانتظار تحقق هذا الأمر وتخلي المجتمع عن معاملتهم كمواطني درجة ثالثة، يملك المهمشون قصصاً كثيرة عن محاولات حزبية للتغلغل في وسطهم كسباً لأصواتهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.