في 1923، قررت بريطانيا إطاحة حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، والمجيء بابنه البكر الشيخ حمد، وذلك على خلفية شكاوى المواطنين الشيعة من انتهاكات حقوق الانسان، والفساد المستشري عند طبقة الحكم. وقد عارضت الأطراف الرئيسية في العائلة الحاكمة ذلك التغيير، كما عارضته قبيلة الدواسر التي كانت تصنف على أنّها تعبر عن النفوذ السني، خشية أن تضع إطاحة الحاكم بداية لنفوذ البحارنة/ الشيعة في الحكم. ولجأت بريطانيا إلى تعيين الشيخ حمد (الأول) حاكماً فرضاً، وأجرت تعديلات إدارية اعتبرت مهمة حينها.وعند مناقشة مدى إمكانية تكرار سيناريو العشرينيات، أي استبدال ملك البحرين بابنه ولي العهد للخروج من الأزمة الراهنة، يمكن تسجيل عدة نقاط: أولاً، يمكن القول إنّ هناك قطاعات مهمة تطالب برحيل الملك حمد، وربما اسقاط النظام. بيد أنّ الفارق الأساسي بين الماضي والحاضر هو غياب إجماع الشيعة والمعارضة راهناً على رحيل الملك حمد. ففي العشرينيات من القرن الماضي أجمع البحارنة/ الشيعة على رفض بقاء الشيخ عيسى بن علي في الحكم، وذلك في الرسالة التي سلموها إلى المقيم السياسي البريطاني في البحرين الكولونيل «أي. بي تريفور» إبان اجتماعهم به في كانون الأول/ ديسمبر 1921، كما رفض الشيعة العريضة التي طلب الشيخ عيسى منهم توقيعها لتأييده حاكماً (1). أما التياران الشيعيان المعارضان حالياً (الوفاق، تحالف الجمهورية) فلا يطرحان فكرة استبدال الملك حمد بابنه ولي العهد. فـ«الوفاق» (كبرى جمعيات المعارضة) تدعو إلى تقليص صلاحيات الملك، فيما تحالف الجمهورية (المكون من حركة حق، وتيار الوفاء، وحركة أحرار البحرين) يطالب برحيل كامل للعائلة الحاكمة من سلطة القرار، والفارق كبير بين تقليص صلاحيات حاكم ورحيله، كما أنّ الفارق أكبر بين رحيل حاكم ورحيل عائلة.
يزداد هذا الوضع تشظياً مع وجود عوائل شيعية، رغم قلة عددها، تؤيد النظام وهي جزء من بيروقراطيته. فيما جمعية «وعد»، الحليف الرئيسي لـ«الوفاق»، وبعض أعضائها، مثل القيادية البارزة الدكتورة منيرة فخرو، تعتبر الحديث عن تغيير النظام إضراراً بالصالح العام. ما يعني أنّ قيادات «وعد»، المختلطة بين السنة والشيعة، تقف صراحة ضد أي حديث عن إطاحة الملكية، ولا تقترح استبدال الملك بابنه خياراً تسووياً.
إنّ غياب الإجماع في رؤية المعارضات يزيد من حالة التشتت والإرباك بين أطيافها، ويزيد من تذبذب الجماهير ويعمق تبايناتهم، ويوسع من مساحة المناورة لدى السلطة وداعميها الإقليميين والغربيين، ويمكنهم على نحو أكبر من اللعب على أوتار التباينات التي قد يعتقد أنّها ليست جوهرية، لكنّها في الواقع ذات أبعاد مهمة، لأنّ الوحدة بين أطياف المعارضة في مرحلة النضال الوطني أساسية لتحقيق انجاز تاريخي. ونعلم أنّ تجربة تأسيس مجلس للتنسيق بين أطياف المعارضة في الداخل والخارج باءت بفشل ذريع. والخلاصة: إذا كانت المعارضة لا تطرح خيار العشرينيات كبداية للتغيير الحالي، فإنّ العائلة الحاكمة وداعميها أولى بتجاهل سنياريو كهذا.
ثانياً، لا يتمتع ولي العهد سلمان بتحالفات داخل العائلة الحاكمة تؤهله لإقناعها بأن يكون بديلاً لوالده، إنقاذاً للوضع القائم. ولم يكسب ولي العهد المحافظين في العائلة الذين يقودهم رئيس الوزراء، والذين ينظرون إليه كغربي الهوى. بيد أنّ ذلك ليس إلا السطح، إذ إنّ الحرب بين الملك حمد ورئيس الوزراء الشيخ خليفة، حسمها الأول عبر تحويل الصلاحيات الاقتصادية إلى ابنه سلمان (2)، وهذا ما أدى إلى الزج بالأخير في حروب طاحنة مع رئيس الوزراء، ولوبي التجار، وحلفائهم من التيار الإسلامي السني، الذين عارضوا ـ عموماً ـ مشاريع الإصلاح الاقتصادي التي تبناها ولي العهد، ودشنها في 2003 بإصلاح سوق العمل (3)، الذي بات الآن بعيداً عن أهدافه الرئيسية التي تم اقتراحها بادئ الأمر.
ويبدو مثيراً للدهشة أيضاً أنّ ولي العهد يعاني كثيراً من التهميش من قبل اللوبي المحيط بالملك، والذي يسيطر على القصر بقيادة وزير الديوان خالد بن أحمد آل خليفة، وشكاوى سلمان والقريبين منه من ذلك طالما كانت مادة ساخنة للصالونات السياسية. ويخشى وزير الديوان أن يسحب ولي العهد البساط منه، وطالما حاول (وزير الديوان) الزج بناصر بن حمد، الأخ غير شقيق لولي العهد، في واجهة الأحداث، وإبرازه إعلامياً على أنّه الشخص الأقرب لأبيه، ولعله الشخص الأقدر على إدارة البلاد من بعد والده.
ولعله يبدو مفاجئاً للكثيرين القول إنّه لو لا وجود حلف غربي (أميركي ـ بريطاني) يدعم سلمان حاكماً بعد أبيه، والصورة المتشددة التي ظهر بها أخوه/ منافسه ناصر إبان الأحداث الأخيرة واتهامات التعذيب التي تنسب له، لربما وجدنا ناصر يشغل منصب ولاية العهد. ويظل هذا سيناريو وارداً على الدوام، خصوصاً إذا استبب الأمر للملك وقضى على الحركة الاحتجاجية. إن ضعف ولي العهد في منظومة الحكم، يواري فكرة استنساخ نموذج العشرينيات، واستبدال الابن بأبيه، كمدخل للحل يحفظ للعائلة المالكة توارثها الملك، وللشعب تطلعه لأن يكون مصدر السلطات.
ثالثاً، إن غياب الملك عن الاشتراك في صناعة القرار إبان ولايته للعهد (1969ـ 1999)، إذ كان رئيس الوزراء الحاكم الفعلي للبلاد، ساعد في أن تكون صورته (الملك) ضبابية عند الرأي العام والقادة الشعبيين، وقد مكّنه ذلك من تمرير مشروعه السياسي غير الديموقراطي بنجاح باهر في 2001 (نسبة ٩٨٪ في التصويت على الميثاق). ويشمل غياب الملك عن المشهد العام إبان ولايته للعهد غياب طاقمه الذي يدير البلد حالياً. فلم يكن وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد معروفاً عند الرأي العام قبل تولي الشيخ حمد مقاليد السلطة في 1999، كما أنّ قائد الجيش خليفة بن أحمد (شقيق وزير الديوان) يشتغل وكأنّه وزير دفاع مهني لا يزج بنفسه في براثن السياسة. أما ولي العهد الحالي ومستشاريه فهم منغمسون حتى أخمص أقدامهم في السياسات الجارية. ومنذ ٢٠٠٥ تصدر مستشار ولي العهد الأبرز محمد بن عيسى آل خليفة واجهة الحدث الاقتصادي، وشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية (المتحكم بالقرار الاقتصادي)، وترأّس مجلس إدارة مؤسسة «تمكين» (المعنية بدعم القطاع الخاص وتأهيل بحرينيين للانخراط في سوق العمل بميزانية قدرها). كما ترأس بن عيسى «كلية بوليتيكنيك البحرين»، التي سجل تقرير الرقابة المالية ٢٠١١ ـ ٢٠١٢ وجود شبهات فساد في كثير من أوجه عملها، كما ترأس مجلس إدارة بنك التنمية، وجميعها من مبادرات مشروع ولي العهد لاصلاح الاقتصاد الذي يتضمن ثلاثة أضلاع: إصلاح الاقتصاد، إصلاح سوق العمل، وإصلاح التعليم. وقد غادر محمد بن عيسى، في آذار/ مارس ٢٠١٢، منصبه في مجلس التنمية الاقتصادية، وعيّن مستشاراً لولي العهد للشؤون السياسية والاقتصادية، في محاولة متأخرة لتقليد نموذج والده في ثنائيته مع وزير ديوانه خالد بن أحمد، لكن فريق ولي العهد لا يزال يدير ملفات الاقتصاد والنفط.
ويتولى كمال أحمد وزارة الموصلات المعنية بإدارة شركة طيران الخليج (خسائرها اليومية تقدر بنصف مليون دينار بحريني (4)) ومطار البحرين الدولي وقطاع الاتصالات، كما يشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية منذ آذار/ مارس ٢٠١٢، وهو المسؤول أمام البرلمان عن شركة ممتلكات البحرين القابضة (بمثابة الصندوق السيادي البحريني/ الذراع الاستثمارية لحكومة البحرين في القطاعات غير النفطية)، التي تدير محفظة استثمارية حجمها ٨.٨ مليارات دولار.
ويشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة ممتلكات محمود الكوهجي، الذي يرأس أيضاً رئيس مجلس إدارة شركة «ألبا» لانتاج الألمنيوم (كبرى شركات البحرين)، التي تراجعت أرباحها «خلال النصف الأول من العام 2012 إلى نحو 57 مليون دينار، مقارنة بأرباح تبلغ 102.88 مليون دينار لنفس الفترة من العام 2011، وبنسبة هبوط تبلغ 44.63 في المئة» (5).
ويرأس زايد الزياني مجلس إدارة حلبة البحرين الدولية (لسباق السيارات) التي حققت خسائر سنوية متتالية (أكثر من ٨ ملايين دينار في ٢٠١١)، منذ تدشينها في ٢٠٠٤. وقد تم بناؤها بكلفة إجمالية بلغت ١٥٠ مليون دولار لأن ولي العهد يهوى سباقات السيارات، وليست لاعتبارات اقتصادية. وتسند مهام وزارة المالية إلى أحمد بن محمد آل خليفة، بعد إزاحة عبدالله حسن سيف المقرب من رئيس الوزراء في كانون الثاني / يناير ٢٠٠٥ في عملية شكلت ضربة قاصمة لتأثير رئيس الوزراء في القرار الاقتصادي (6). وقد أنيط بوزير المالية. في تموز / يوليو ٢٠١٢، إدارة شؤون النفط والغاز أيضاً، في ظل تخوف عن أن تصيبه عدوى الفشل في الشركات المشاريع الأخرى التي يرعاها ولي العهد (7).
إن تجارب ولي العهد غير الناجحة في إصلاح الاقتصاد (إصلاح سوق العمل، الفورمولا واحد، شركة ممتلكات البحرين القابضة، وطيران الخليج)، أجهضت أمل النخبتين الليبرالية والمعارضة المعتدلة في أن يكون الأمير سلمان بن حمد مشروعاً إصلاحياً للحكم الرشيد.
رابعاً، لقد فشل ولي العهد في تكوين علاقات متينة مع النسيج الاجتماعي التقليدي (العوائل الكبيرة)، على عكس والده الذي تمكن عبر أربعة عقود من إشرافه على بناء الجيش من تكوين عصبة حوله. وفيما غياب الملك عن المشهد العام إبان ولايته للعهد قلل من فرص وجود عداوات له في أوساط الرأي العام حين تسلم منصبه، فإنّ ولي العهد سلمان راكم أخطاء ضخمة في إدارة ملف الاقتصاد، وقد ينظر إليه كشخصية مستبدة، حين يكون مجلس التنمية الاقتصادية الذي يترأسه خارج المساءلة البرلمانية الهشة أصلاً، كما ينظر إليه كإداري طائفي حين يكون الفريق المتحولق حوله من طائفة واحدة (سنية).
وإذ يبدو موقف المعارضة إيجابياً من ولي العهد، فإن ذلك لا يخلو من قلّة الحيلة وضعف الخيارات، لأنّ المعارضين لا يعرفون مع من يتحالفون في السلطة الحاكمة، إنهم لا يجدون شريكاً داخلها. إنّه موقف يحمل في طياته الكثير من المجاملة، على أمل أن يتصدر ولي العهد المشهد السياسي عبر مواقف عمليه تدعم دعواته للحوار، وهي الدعوات التي أجادها، وقدمته شخصية معتدلة ومنفتحة، لكن تكراره الذي بات مملاً لمصطلحات الحوار بدون فاعلية تذكر، قد أضرت ـ في نهاية المطاف ـ بـ«تحالفه» الهش أصلاً مع المعارضة، التي باتت تشبّه سلوكه السياسي بأنّه أقرب إلى العلاقات العامة للعائلة الحاكمة. وتتهمه بعض أطراف المعارضة بأنه يعمل كمدافع عن النهج الحكومي المستبد بوجه ليبرالي، بل ويمكن أن يتحول إلى أداة في يد العسكر والمتطرفين، كما بدا حين قامت الشركات الكبرى التي يديرها فريقه بفصل نحو ألفي موظف بسبب مناصرتهم للمعارضة في الانتفاضة الراهنة.
إن خسارة ولي العهد للمعارضة أو عدم ربحه لها، لم تمكّنه من ربح الجماعات السنية الموالية التي تعده حليفاً لخصومها المعارضين، خصوصاً حين قدم خطة النقاط السبع (آذار/ مارس 2011) إبان اعتصامات دوار اللؤلؤة، والتي تقترح نظرياً التحوّل للديموقراطية، بما يعنيه ذلك من احتمالات تأسيس تأثير للشيعة في الحكم، وهو الأمر الذي تخشاه ـ عادة ـ الجماعات السنية الرئيسية.
وخلاصة القول، بأنّ موقف الشيعة غير المجمع على إطاحة الملك حمد، وموقف المعارضة الرئيسية الرافض لسيناريو من هذا النوع، أو عدم طرحه كخيار للخروج من الأزمة، إضافة إلي ضعف ولي العهد في منظومة الحكم، وضعف تحالفاته مع الموالاة، وعدم ثقة المعارضة في إمكاناته، يجعل فكرة إطاحة الملك حمد غير متداولة عند داعمي الحكم الخليفي (بريطانيا وأميركا). أما الراعي السعودي فمثل هذا السيناريو خارج تفكيره حالياً، مع أنّ السعودية كانت قد عزلت الملك سعود في 1963، حين شعرت بالحاجة إلى ذلك. ومع ذلك، فحين يكون على العائلة الحاكمة تقديم كبش فداء لإنقاذ حكمها، وحين لا تكون إطاحة رئيس الوزراء الضعيف أو وزير الديوان الملكي النافذ خالد بن أحمد كافية لإنقاذ الحكم الخليفي، فإن إطاحة الملك يصعب إزالتها من طاولة التداول غير المعلنة.
بيد أنّه يجدر التذكير بأن إطاحة الشيخ عيسى بن علي في العشرينيات كان قد عزز الحكم الخليفي وتحالفه مع الغرب من جهة، وأدى من جهة أخرى إلى تفريغ الاحتقان عند الشيعة الذين اعتبروا ما حدث انتصاراً بريطانياً لهم! لكن الواقع أنّ السيطرة الخليفية استمرت وتزايدت لأن المؤسسة الحاكمة لم يتم إعاد هيكلتها، بل تغيير وجوهها، الأمر الذين مكّن آل خليفة من الاستمرار في الاستفراد بالقرار السياسي والثروة القومية، فيما استمر البريطانيون يقولون للبحارنة/ الشيعة: لقد انتصرنا لكم وعملنا لكم جميلً! والحق أنّهم انتصروا لآل خليفة، وساعدوا في تثبيتهم حكاماً، بيد أن ذلك يعود أيضاً إلى أن الشيعة/ البحارنة ليسوا إلا «سكاناً محليين»، ولم يروا في أنفسهم بديلاً حاكماً، فضلاً عن عدم امتلاكهم قوة عسكرية ومالية كما تمتع بذلك آل خليفة وقبيلة الدواسر.
هوامش
(1) د. سعيد الشهابي، البحرين 1920ـ 1971: قراءة في الوثائق البريطانية.
(2) أنظر: الملك ورئيس الوزراء.. الصدام العلني، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن، ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
(3) لمزيد من التفاصيل عن المشروع، أنظر أسئلة عامة عن مشروع إصلاح سوق العمل في الوصلة التالية: http://portal.lmra.bh/arabic/faq/category/2
(4) صحيفة الوسط، ٧ يناير ٢٠١٢.
(5) صحيفة الوسط، ٢٩ يوليو ٢٠١٢.(
(6) الملك يخنق رئيس الوزراء في عرينه الدستوري، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
(7) عباس بوصفوان: إلى أين يقود ولي العهد قطاع النفط والغاز، مرآة البحرين، ٣٠ يوليو ٢٠١٢.
* صحافي وكاتب من البحرين مقيم في لندن (المقال جزء من تقرير موسع ينشره قريباً مركز البحرين للدراسات في لندن، وتنشر «الأخبار» التقرير على مدى الأسابيع المقبلة)