طهران | ليس في يد حسن سيجارة يطفئها بهدوء في منفضة مليئة بأعقاب السجائر، أو فنجان قهوة أمامه قارب النهاية، لينبئنا أنّ الحديث بيننا أخذ من الوقت أكثر مما ظننّا. فقط قارورة غاز، شارفت على نهايتها، يقلبها على جنبها أرضاً كي تبقى النار التي نتدفّأ بها متّقدة. يخبرنا حسن، الذي يعيش في قرية «غادجسر» الواقعة شمالي طهران وفي الطريق نحو شمال إيران، قصصاً لا تنتهي عن البرد، والتاريخ والشاه رضا، وطبق الـ«آش رشته». في «غادجسر» التي ترقد بين أضلع جبال «ألبرز»، للبرد طعم خاص، يجعل معظم سكّان القرية يهاجرون مع بدء اصفرار أوراق الأشجار المعمّرة من حولهم إلى مناطق قريبة، أكثر دفئاً، ليعود عدد كبير منهم إليها في الصيف. إذ إنّ درجات الحرارة في القرية تتدنى في الشتاء إلى ما دون 20 درجة تحت الصفر. وفي ظلّ انتظار «غادجسر» مع قرى صغيرة أخرى وصول أنابيب الغاز، التي تعتمد عليها معظم المدن الإيرانية للتدفئة، إلى بيوتها، يعتمد سكّان المنطقة على المازوت أو قوارير الغاز. يقول حسن إنه طوال ستة أشهر في السنة، يحتاج إلى قارورة غاز يومياً، ليبقي منزل العائلة دافئاً. الأمر يرهقه، وخاصة بعد تدهور وضع العملة الإيرانية. فأسعار المواد الأوليّة كلّها ارتفعت تقريباً، وليس بمقدور حسن دفع 5000 تومان (حوالى دولارين) يومياً ثمن قارورة الغاز، ولولا مساعدة إخوته لما استطاع أن يتدبّر الأمر.
الطقس في «غادجسر» يجبرك على تفقّد نشرة الأحوال الجويّة قبل الانطلاق. وللوصول إليها، هناك طريق صعب وآخر أكثر سهولة، لكن في الحالتين عليك أن تمرّ بجبال ألبرز. في الطريق «السهل» سترى الوجه الأليف لألبرز. كأنّ الوحش في هذا الجانب يجلس ساكناً، سامحاً للناس بمداعبته. فيستغلّ الناس هدوءه ويستعملون «كعبه» لعرض منتجاتهم من اليقطين المحلي أمام المسافرين. فترى الجبل على طول الطريق كأنّه زيّن لـ«هالوين». كلّ خط يقطين في الجبل، يقودك إلى طاولة يعرض عليها المزارع إنتاجه. وإن نظرت أعلى في الجبل، حيث تعتقد أنّ المكان أصبح أعلى من أن تصله يد الباعة والتجّار، تقرأ «نون وماست» (خبز ولبن) وقد كتبت بالطبشور الأبيض أو الطلاء. هذا «الإعلان» يدلّ المسافرين على وجود محطة قريبة، محل يبيع الخبز واللبن للمسافرين ووصفات إيرانية أخرى بسيطة.
أمّا الذهاب من الطريق الصعب، فيجعلك ترى الوجه الحقيقي لألبرز، أو جزءاً ممّا يخفيه على الأقلّ. هنا يختفي الباعة والمزارعون عن الطرقات تاركين مكانهم أحياناً لخيم بعض المغامرين الذين يهوون التخييم في الجبل. فهنا لا يسمح الجبل بتربيت ظهره. ضخامته وحدها مخيفة، تجعلك تعتقد أنه إذا ما تمخّض ألبرز ولد جبلاً آخر.
رغم روعة المشهد، هنا تدخل في فم الجبل، ما يجعلك تحت رحمته تماماً. في العام الماضي، كان حظّ بعض المسافرين عاثراً. إذ أدّى انهيار ثلجي إلى احتجاز 40 سيارة على طريق الجبل، كان على السلطات إيجاد طريقة لانتشالهم بسرعة قبل أن تزرقّ أبدان أصحابها. تطلّبت حراثة هذا الجبل عشرات السنوات. عشرات السنوات لشقّ الطرقات فيه. لكنه لا يبدو متصالحاً أو متنازلاً عن أجزائه التي أخذت منه. ففي الأنفاق تشعر فعلياً بأنّك في باطن الجبل. الدخول فيه أشبه بالدخول إلى منجم في جوف الأرض، كما أنّ الهندسة لم تمنع مياه الثلوج من أن ترشح، على شكل قطرات مطر ثقيلة، داخل النفق.
كلّما تقدّمت ناحية الشمال لا تتغيّر فقط الحرارة، إنّما ألوان الجبل أيضاً! من اللون الصخري يتحوّل الجبل إلى اللون الأحمر القاتم ثم إلى الأخضر، وكأنّ طبقة خفيفة من العشب الأخضر نبتت على ظهر ألبرز. بالنسبة إلى من يسكنون المنطقة، هذه الصخور الملوّنة طبيعياً، هي أفضل طريقة لتلوين بيوتهم وجدران قراهم. بينما للمارّين فقط، قد تكون فتات هذه الصخور، أجمل ما يمكنك أن تحمله معك كتذكار من ألبرز.
وإن اخترت الطريق السهل أو الصعب فإنّ الـ«آش رشته» لن تغيب عن رحلتك. رغم أنّك لن تجد بين الجبال، مطاعم الوجبات الإيرانية التقليدية الخفيفة لتطلب منها الحساء الإيراني الشهير، إلا أنّك حتماً ستتلقى دعوة لتناوله، حول النار، أمام أكواخ العمّال الصغيرة.
في «غادجسر» يجلس حسن في المطبخ الكبير على سرير من طبقتين، وضعه مع أصدقائه الثلاثة الآخرين ليساعدهم في اجتياز الأيام الصعبة. فحسن يعمل في مطبخ متخصّص فقط بطهو الـ«آش رشته» من أجل المسافرين. المطبخ في «غادجسر» يرسل منتجاته إلى المحل على الطريق العام. في الشتاء يقلّ عدد المسافرين فينحصر عدد الزبائن في اليوم بـ 200 إلى 300 زبون بحسب حسن. أمّا في الصيف فتنشط الأعمال ليصل عدد طالبي الـ «آش رشته» إلى 5 آلاف زبون. في تلك الأيام يعمل حسن 24 ساعة متواصلة، من دون أن ينعكس ذلك زيادة على راتبه، فهو صيفاً وشتاءً يتقاضى سبعمئة ألف تومان. يقول حسن إنّ سعر الـ«آش رشته» ارتفع بصورة دراماتيكية خلال سنة. إذ كان سعر وعاء حساء النودلز الرفيعة مع الكشك والخضر ألفي تومان، اليوم يباع بثلاثة آلاف، بسبب ارتفاع الأسعار.
هذا المطبخ وإلى جانبه فندق «بارسيان غادجسر» هما مجالا العمل الوحيدان، إلى جانب تربية الدواجن لأهل «غادجسر». في حديقة الفندق، بيت صغير، لوناه الأبيض والأزرق يبعثان في نفسك الكثير من الراحة. مع ذلك في هذا البيت شيء من العظمة والجلال تبثّه الهندسة، يجعلك تسأل عن صاحبه. وما إن تسأل حتى يجلس سكّان القرية بسعادة ليخبروك القصة وسيلاً آخر من القصص عن الشاه رضا. منذ حوالى ثمانين عاماً، كان الشاه رضا، والد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي، مسافراً نحو الشمال لتفقّد مقاطعاته، حين غمرت الثلوج موكبه. لم يطق الحالة وأمر فوراً بشقّ طرقات المنطقة وببناء بيت خاص به يرتاح فيه خلال سفره. لم يعطِ الشاه المهندسين الألمان الذين كانوا ينشطون في المنطقة وقتذاك في بناء الأنفاق والجسور، الكثير من الوقت لتنفيذ الأعمال. فقط حتى الربيع وإلا «غرز خنجره في بطونهم». لا يزال سكّان المنطقة يضحكون عند ذكر الموضوع، فأوامر الشاه الديكتاتوريّة يمكنها أن تضحكهم الآن، ولا سيما أنّها عادت عليهم بالمنفعة. إلى جانب «بيت الشاه»، بنى الألمان مبنى آخر، كان يبيت فيه العمّال والمهندسون، تحوّل اليوم إلى مطعم للفندق الذي أضيف بعد ثلاثين سنة إلى المبنيين، في عهد الشاه محمد رضا.
يقول هجير، موظف الاستعلامات في فندق «بارسيان غادجسر»، إنّه خلافاً لما يسوّق، الفترة الذهبية للفندق كانت بعد الثورة الإسلاميّة. إذ ما قبل الثورة، كان يشغل الفندق، تسعة أشهر في السنة، موظّفو الدولة الذين يعملون في المنطقة، أمّا بعد الثورة فانفتح المكان للزوّار بحسب هجير. الشتاء هو الموسم السياحي وموسم العمل بامتياز في المنطقة، إذ إنّ السيّاح الروس خاصة والأوروبيين وحتى الأميركيين بحسب هجير، يقصدون ديزين القريبة الشهيرة بمواقع التزلّج فيها.
رغم ما يقال عن ظلم الشاه رضا، فإنّ العاملين في «غادجسر» لا ينسون حبّه إدخال كل ما هو جديد إلى البلاد. فكان الشاه رضا أوّل من أحضر معه من باريس كاميرا التصوير السينمائي إلى طهران. طلب عندها أن يتم تصويره بها، فكان موضوع أول فيلم إيراني صامت. وقف فيه الشاه رضا أمام الكاميرا يفتل بشاربيه تارة، ويتنزه في الطريق مع الناس والكاميرا تلاحقه تارة أخرى. ولكن قصص الشاه رضا لا تنتهي عند هذا الحد. فإذا بدأ الحديث عنه ستسمع حتماً قصة جسر «ورسك» (يلفظها الإيرانيون فِرِسك) القريب من القرية. الجسر يعدّ إنجازاً فنياً يصل جبلين بعضهما ببعض، وهو يصل بسكّته الحديدية طهران بمنطقة بحر قزوين. بنى الجسر في الحرب العالمية الثانية مهندس نمسوي يدعى والتر إينغر، يعمل لحساب شركة ألمانية. بعدما انتهت الشركة من بناء الجسر، وقبل أن يقطع القطار «ورسك» لأول مرّة، أمر الشاه رضا، إينغر مع عائلته بالنوم تحت الجسر ليكون أوّل من يموت تحته إذا كان عمله غير متقن. مرّ القطار حينها بسلام، ونجا إينغر من الموت تحت الجسر. لكنه قبل موته طلب إينغر بنفسه، هذه المرة، دفنه في المقبرة تحت الجسر، التي خصّصت لدفن العمّال الذين قضوا وهم يبنون «ورسك».
خلال الحرب العالمية الثانية، طلب هتلر من الشاه أن ينسف كل الجسور والسكك الحديدية في شمال إيران، ومن بينها جسر ورسك الذي كان يعرف بـ«جسر النصر»، كي يمنع وصول المؤونة إلى الروس، ووعد بإعادة بناء كل ما سيدمّر بعد انتهاء الحرب. لكن الشاه رضا لم يستجب لطلب هتلر، ويقال إنه لو رضخ لكانت خريطة أوروبا اليوم مختلفة.
في «غادجسر» بين سكون الجبال وقسوتها، كثيرة هي القصص التي ستسمعها. قصص عن الشاهات وقصص ما بعد الثورة الإسلاميّة. لا يهم حسن الغوص في جدل أيّ الأوقات أو الأنظمة كان أفضل، المهم بالنسبة إليه أن يفهم الناس في الداخل والخارج أنّ إيران «جمهورية إسلاميّة»، أي أنّ الحجاب والحشمة واجبان فيها.



«دماوند» الخرافة والتزلّج

بين قمم سلسلة جبال «ألبرز» تطلّ قمّة «دماوند» برأسها. على القمّة الأعلى في إيران (5,610 أمتار)، ولدت أساطير وروايات جعلت منها رمزاً لانهزام المحتلّ والطغيان في الأدب والشعر الفارسيين. فتقول الأسطورة إنّه على هذه القمّة، وقف «آراش» ليطلق سهمه الناري ويرسم به حدود إيران. وتروي أسطورة أخرى زرادشتيّة أنّ التنين «آجير دهاكه»، ذا الرؤوس الثلاثة، قُيّد إلى قمّة «دماوند» حتى نهاية العصور. ثم تناول بعدها الفردوسي في كتابه الشهير «شاهنامة»، الأسطورة ذاتها. وبعيداً عن أجواء الخرافات، تنشط حول «دماوند» وفي جبال «ألبرز»، سياحة التزلّج. هكذا يشهد موسم التزلّج اجتياح الطبقة العليا من الطهرانيين لمنتجعات التزلّج، الأمر الذي يهابه بعض أبناء الشمال، مثل حسن. إذ إنّ الطهرانيين، «الأكثر تحرراً» برأي حسن، يجلبون معهم الكثير من المشاكل.