على الرغم من الشهرة الواسعة لـ«سعودي أوجيه»، في الأوساط اللبنانية والسعودية واللبنانية، وحتى العربية والعالمية، تجد صعوبة في محاولة الإجابة عن الأسئلة الكثيرة لحقيقة ما تعيشه الشركة التي كانت سبباً في ثراء رفيق الحريري. وللدلالة على النفوذ الذي بلغته هذه الشركة، التذكير بأنه، بسبب تأخر دفع الرواتب في «أوجيه» يوماً، شهدت السعودية أول إضراب عمالي من نوعه في تاريخها في مجمع طباعة المصحف الشريف. «أوجيه» اليوم غير «أوجيه» الأمس القريب. لم يعد الأمر سراً. تحول الكلام الذي كان يقال همساً إلى حقيقة وجود شيكات متأخرة ورواتب لم تدفع ومستحقات يعاني أصحابها في تحصيلها وتسريح موظفين وتوقيف مختلسين.
منذ سنوات و«سعودي أوجيه»، الشركة الأم في إمبراطورية عائلة الحريري، تعيش تعثراً يدخلها في المجهول. أزمات وشائعات وتغييرات تنعكس يومياً على الكثير مما يرتبط بالشركة، سواء في داخلها، على صعيد الموظفين والعاملين، أو بالنسبة إلى محيطها الأوسع، أي المشاريع والالتزامات والشركات الأخرى، وصولاً إلى الحريرية السياسية.
كان من الصعوبة بمكان أن يتصور أحد أنه سيأتي يوم يكون فيه ابن رفيق الحريري مديناً لمحطة بنزين أو بائع مفرقعات أو معمل ألبسة وطنية. قبل سنوات قليلة، كان مجرد التفكير في هذا الأمر، ضرباً من الخيال. اليوم أصبح أمراً واقعاً، ومستمراً، من دون أن يلوح في الأفق حل لأزمة بدأت في الشركة الأم وطالت تداعياتها كل العائلة ومتفرعات إمبراطوريتها المالية والاقتصادية.

ثلاث قشات

منذ عام 1978، تاريخ تأسيسها، وحتى وفاة الرئيس الحريري، لم تمرّ شركة «سعودي أوجيه» بمراحل مفصلية حرجة كتلك التي تتخبط فيها منذ نحو ثلاث سنوات.
في «حكاية أوجيه»، يقول مطلعون إن هناك ثلاث قشات قصمت ظهر البعير.
الأولى تمثلت بالتأخير في تسليم مشروع جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الذي التزمته «أوجيه»، الأمر الذي فتح العيون وأطلق بداية الكلام العلني على أن الشركة تغيرت مع الابن كثيراً. كانت فلسفة الحريري الأب في العمل بمجال المقاولات تقوم على مبدأ العمل بمواصفات عادية، لكن التسليم قبل انتهاء المدة المتفق عليها، بهدف الإبهار، وهو ما حصل بالفعل في أكثر من مشروع كبير حقق للشركة مكان الريادة بين نظيراتها.
القشة الثانية التي كان وقعها أكبر، كانت التأخير في تسليم مشروع طريق الملك عبد الله، وهو المشروع الذي يحمل اسم الملك، والذي تأخر تسليمه لأكثر من 3 سنوات. يقول مطلعون إن انشغال الحريري السياسي في لبنان أدى إلى تفاقم موجة الفساد داخل الشركة، ولا سيما في أوساط مديري الصف الأول والحلقة المقربة من القرارات التنفيذية.
وبعد تدقيق أجرته سلطات الرقابة السعودية بسبب التأخير في تسليم المشروع، تبين أنه لُزِّم بالباطن لخمس شركات، لترسو المناقصة الأخيرة على شركة عمدت إلى التنفيذ بأقل من 20% من قيمة العقد الأولي الموقع مع أوجيه (20% تقدر هنا بنحو 500 مليون دولار أميركي). هنا شعر الكثير من السعوديين بالغبن، وأنهم لسنوات طويلة يدفعون زيادات كثيرة على أعمال وأشغال كان من الممكن إنجازها بأقل تكاليف. فتجمد الدفع في كل شيء.
أثار هذا الأمر، تزامناً مع لحظة سياسية ما، حفيظة الداخل السعودي الذي يشكو أصلاً قلة السعودة داخل الشركة الأكبر في المملكة. عندها تجرأت إحدى الصحف وكتبت في سابقة عدّت الأولى من نوعها عن استئثار شركة أو شركتين (أوجيه وبن لادن) بكل المناقصات المهمة في البلد. قبلها، كان لافتاً أن يتناول مفتي السعودية، أعلى السلطات الدينية الرسمية، الموضوع في إحدى خطب الجمعة مهاجماً المحسوبيات والفساد والرشوة في إشارة إلى القضية.
ومع أن التنفيذ من الباطن أمر متعارف عليه في الدورة الاقتصادية السعودية، إلا أن المبلغ كان كبيراً، والأزمات المالية العالمية دفعت بالكثيرين من أمراء النفط إلى إعادة النظر بالطرق التي كانت تدار بها الأمور سابقاً. فكان أن وُضع ضابط أمني وموظف تقني للاطلاع على مجريات الأمور داخل الشركة والتدقيق فيها. منظر كان سيهز كيان رفيق الحريري لو كان حياً.

سيجار وبورش... وأزمة

يقول متابعون للملف من داخل المملكة إن السلطات السعودية سلّمت ورثة الحريري شركة «نظيفة»، أي أنها لم تكن تعاني أية شوائب مالية. ويضيفون أنه كان هناك ما بين ثلاثة إلى أربعة مليارات ريال مجمدة لدى وزارة المال السعودية قبل مقتل الحريري سُوِّي أمرها مع الورثة. ومع قرار توزيع التركة، كان النجل الأكبر بهاء، الوحيد الذي باع حصته في أوجيه وغادرها.
وبعد تزايد الكلام وروائح الصفقات المشبوهة، وبدء التدقيق في آليات عمل «أوجيه»، تكشف الكثير من الملابسات التي بينت تورط العديد من مسؤوليها في قضايا اختلاسات مالية ورشى. وبالفعل، أُوقف عدد قليل منهم، وجرى التحفظ على آخرين، ثم أُطلقوا. إلا أن هذا الملف، بحسب مطلعين، جرت لملمته لأنه تبين أن وراء كل قصة فساد صغيرة، قصة فساد أكبر لا يعرف أحد إلى أين قد تؤدي بمتتبعها في بلد تكثر تعقيداته وخصوصياته وتناقضاته.
يروي أحد المطلعين أنه مع اشتداد أزمة نقص السيولة في أوجيه، طالبت هند شقيقها سعد بحصتها من الأرباح السنوية للشركة، فكان الجواب: قليل من الصبر للانتهاء من حل الأزمة. تزامناً مع هذا، اشترى أحد المديرين المعروفين في الشركة شقتين من طريق مقاول لبناني معروف (ع.ح.د.) في إحدى البنايات المملوكة لبهاء الحريري في وسط بيروت بمبلغ 4 ملايين دولار. عندها، سأل بهاء شقيقه: كيف تكون هناك أزمة مالية في شركة يشتري مديروها شققاً بملايين الدولارات ويسجلونها بأسماء زوجاتهم؟ لذلك،
تردد بقوة أن هند أبلغت سعد بنيتها تصفية حصتها في الشركة، وجارٍ إتمام الأمر.
وكرت السبحة. فكانت مفاجآت كثيرة، منها على سبيل المثال أن أحد الفيليبينيين العاملين في «أوجيه» ممن يزود الشركة بمادة القهوة، احتوى حسابه المصرفي الخاص على أكثر من نصف مليون دولار!
يقول مطلعون إن مديري الصف الأول في «أوجيه» هم أشبه بالأشباح في المجتمع السعودي؛ إذ نادراً ما يشاهدون في المناسبات العامة وحتى الخاصة. أما مديرو الصف الثاني والثالث، فكل منهم عبارة عن سعد حريري مصغّر. لا حديث لهم إلا السفر والسيجار الكوبي وآخر التعديلات على سيارات البورش العادية وذات الدفع الرباعي. كل ذلك في وقت تتخبط فيه الشركة في أزمة مالية لا يعرف أحد كيف ستنتهي، إلى درجة دفعت بأحد المسؤولين السعوديين إلى طرح سؤال: كيف يمكن سعد أن يدير بلداً، وهو غير قادر على إدارة شركة بمديرين كهؤلاء؟

موظفون وتسريح وقلق

يؤكد مصدر متابع أن هناك أكثر من 45 ألف لبناني يعملون في «أوجيه»، وأن أي خضة للشركة ستكون كارثة وطنية على صعيد آلاف العائلات اللبنانية. فمعظم العاملين في «أوجيه» اليوم يشعرون بقلق كبير على مستقبلهم في ظل ضبابية المرحلة المقبلة وكثرة الحديث عن سيناريوات محتملة، منها تأميم الشركة أو بيعها.
ومع أنه كان هناك شعور لدى كثيرين في بداية الأزمة بأن السعودية لا تتخلى عن سعد الحريري، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، إلا أن المرحلة التي انتظر كثيرون أن تنقضي لحل الأزمة قد طالت، وهي مرشحة لكي تستمر هكذا لسنوات، لمن يعرف العقلية الملكية السعودية في الإدارة والتخطيط ومدرسة «إن شاء الله خير».
اليوم تعمد الشركة إلى تسريح موظفيها الراغبين بترك عملهم طوعاً (بشروط منصفة كما يجمع الكل). وهي في ذلك تقدم لهم إغراءات مالية كتعويضات كبيرة تصل أحياناً إلى أكثر من 24 شهراً، إضافة إلى شهر عن كل سنة عمل، وذلك في مسعى لإعادة هيكلة الشركة والانطلاق بها انطلاقة جديدة بعد التضخم الكبير الذي أصاب فريقها البشري جراء سياسات التوظيف التي كانت متبعة أيام الرئيس الراحل.
في هذا المجال يسأل أحد المطلعين على بواطن الأمور في الشركة: كيف يمكن موظفاً لا يزيد راتبه السنوي على 40 ألف ريال أن يسكن في فيلا يبلغ إيجارها السنوي أكثر من 100 ألف ريال؟ أمور لا تراها إلا في «سعودي أوجيه».
ففي «أوجيه لبنان»، مثلاً، بلغ عدد الموظفين أكثر من 1000 موظف. أما اليوم فلم يعد يتجاوز 110 موظفين. سُرِّح عدد كبير ووُزِّع العدد الأكبر على الشركات الأخرى.
ويرى عارفون أنه لا يحق لأي موظف أن يشكو من الشركة؛ لأنها «مسلفة» لهم الكثير. ويتندر في هذا السياق بأن المشكلة عند موظفي «أوجيه»، في حال تسريحهم، هي في أنهم لن يستطيعوا العمل في مكان آخر بعدما اعتادوا نمطاً مريحاً جداً من العمل لا تجده إلا في الشركة نفسها.

أمل فإحباط

القشة الثالثة التي قصمت ظهر البعير كانت في 26/6/2011. في ذلك اليوم، وفي خطوة مفاجئة، وإن كانت متوقعة يوماً، أصدر الملك عبد الله قراراً بإعفاء الأمير عبد العزيز بن فهد (الملقب بعزوز) من منصبه رئيساً لديوان مجلس الوزراء، وضمه إلى الديوان الملكي.
لاحظ مراقبون أن القرار لم يأت بناءً على طلب الأمير المقال، كما يجري القول عادة في قرارات التنحية من المناصب بالنسبة إلى الأمراء من آل سعود، بل جاء بموافقة من ولي العهد سلطان والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير نايف. وهو لم يأت ضمن الصراع بين الأجنحة، بل أتى بموافقة جماعية يعزوها عارفون إلى التذمر من طريقة تسيير الأمور داخل ديوان مجلس الوزراء وتضارب الصلاحيات بينه وبين صلاحيات رئيس الديوان الملكي الذي يشغل منصبه حالياً خالد التويجري المقرب جداً من الملك.
وهكذا أصبح الديوان الملكي أكثر سيطرة على ما يعرض على مجلس الوزراء بدلاً من أن يتدخل فيه وزير من خارج دائرة المقربين من الملك. وكان الأمير عبد العزيز بن فهد قد سبق أن أُبعد عن صلاحيات كانت ممنوحة له من والده الراحل الملك فهد وأصبح خارج سيطرة ما يطلق عليه «جناح السديريين»، في خطوة لتحجيم نفوذه تدريجاً.
جاء إبعاد «عزوز» عن مصدر القرار ضربة قوية لـ«أوجيه» التي يملك حصة كبيرة فيها، ولسعد الذي فقد غطاءً سعودياً قوياً، باعتباره كان القناة التي من خلالها تُوزَّع المشاريع على الشركات، وفقاً لرؤية الأمير المدلل.
قبل قرار الإقالة بفترة قصيرة، حظيت «أوجيه» بباقة كبيرة من المشاريع التي تكفي أرباحها فقط لتغطية كل ما يمكن أن يقال عن أرقام في أزمتها المالية، لكن قرار التنحي جعل كل الأمل الذي عقد يدخل في المجهول أو أقله في مرحلة التجميد... إلى متى؟ لا أحد يعرف.
هنا، تقول مصادر مطلعة إن الحل الجذري لأزمة «أوجيه» اليوم تكمن في مسألة البحث عن بديل لـ«عزوز» الذي أوصى رفيق الحريري يوماً ابنه بملازمته وعدم الابتعاد عنه مهما يكن.