دمشق | ما أن تُغادر البوابة الرئيسية للباب الشرقي في السور الأثري للعاصمة دمشق، حتى تتجّه مباشرة إلى جرمانا، باعتبارها أولى بلدات غوطة دمشق الريفية. القرية، التي كانت صغيرة وتُعدّ بالآلاف في الماضي البعيد، أصبحت مع نهاية الثمانينيات مدينة صغيرة على تخوم العاصمة، بعدما استقر فيها سكان من الجنوب السوري.
اللافت في جرمانا التكوين الاجتماعي المميز، الذي يرسم صورة جليّة للتنوع الديني والفكري لأطياف المجتمع السوري، أو كما يحلو للبعض أن يسميها «سوريا مصغرة من الفسيفساء الاجتماعية». مع تقدّم السنوات، شهدت المدينة نهضة عمرانية كبيرة جذبت إليها سكان المناطق المجاورة من الريف والعاصمة لتتحول شوارعها الرئيسية إلى أسواق تجارية ومقاهٍ ومطاعم.
في العقدين الأخيرين، صارت جرمانا مدينة لا تنام. يزيد عدد سكانها اليوم على 500 ألف نسمة. وعلى عكس أخواتها في الريف الدمشقي، احتضنت جرمانا حراكاً اقتصادياً اجتماعياً جمع ما بين الديانتين الرئيسيتين، المسيحية والإسلام، منذ ما قبل الأزمة السورية، يضاف إلى ذلك احتضانها لعشرات آلاف العراقيين من مختلف المذاهب منذ عام 2003.
لم تدخل جرمانا خارطة الأزمة السورية لجهة التوتر الأمني أو إبداء الرأي طيلة 15 شهراً من عمر الأزمة. لم تنجر إلى أي نزاعات رغم أهميتها كصمام أمان للريف الدمشقي. هذا لا يعني أنها خارج حسابات الأزمة، لكن الجميع يراها وسطاً آمناً ومتوازناً.
«هنالك أكثر من 200 ألف مهجّر جاؤوا إلى جرمانا هرباً من الموت، لكن لا مكان آمناً بعد الآن»، يقول بائع المعجنات ميشيل في حي الجناين، لكن منذ ما يقارب الأربعة أشهر أُدخلت جرمانا في حسابات العنف الدامي عبر سلسلة تفجيرات إرهابية وسيارات مفخخة وعبوات ناسفة استهدفت أماكن سكنية لإقحامها في الطاحونة الأمنية مقابل أي ثمن. وتناول الموت الممنهج أشخاصاً محددين بحجة أن بعضهم يعمل مع الدولة وآخر من طبيعة دينية يدعو إلى نبذ «الإرهاب باسم الحرية»، تماماً كما حدث في التفجير الذي ضرب حي الوحدة مطلع أيلول الماضي. ويقول أبو مدين صاحب محل خضار بالقرب من الحي الوحدة، ذي الطبيعة المسيحية، «قالوا إن قاضياً يقطن هنا وعليه أن يستقيل من منصبه، وقد هدّدته الجماعات المسلحة التابعة لعناصر الجيش الحر بالرحيل أو القتل وهو في منزله، ونفذت المخطط».
لا يختلف ذلك التفجير كثيراً عن التفجير الذي استهدف في أواخر تشرين الأول الماضي شارعاً من المتاجر والمطاعم في حي الروضة، الذي يزدحم بالسكان والعابرين ممن رفضوا وصاية السلاح على حياتهم، وأصرّوا على مواجهة التطرّف ورفض فرض الرأي بالقوة، إضافة الى مجموعة أخرى من التفجيرات مثّلت صدمة كبيرة لدى الأهالي. اهتز الخوف ونشر رائحته في كل مكان. دخلت جرمانا حيز الرعب فجأة وخلال وقت قياسي. كان الهدف من ذلك تهديم آخر معاقل الحياة والأمان في أقرب نقطة لدمشق. «هربنا من الموت إلى هنا، لكن الموت لحق بنا»، يعلق أحد سكان زملكا من الوافدين إلى جرمانا بعدما قضى ابنه في التفجيرات الإرهابية الأخيرة التي ضربت المنطقة. لم يعد الاستياء فقط علامة المدينة، التي باتت تنام في الثامنة مساءً، بل غاب ضجيج الحياة إلى جانب إغلاق منافذها الأخرى على المناطق المجاورة بسبب توترها الأمني. توضح منى، الفتاة الجامعية التي تسكن في جرمانا بعيداً عن أهلها من أجل الدراسة، «حسابات جرمانا معقّدة، وضرب استقرارها تطرف مؤلم بين أبناء البلد الواحد، لقد بتنا نشاهد هذا الأذى في كل مكان».
حركة الناس في الشارع تتناقص مع حلول الليل. لا تكاد تنقضي الساعة العاشرة مساءً، حتى تنتشر مجموعات من اللجان الشعبية لمراقبة الشوارع خوفاً من دخول غرباء تابعين للعناصر المسلحين من بلدتي بيت سحم وعقربا القريبتين، أو من بلدة المليحة في نهاية جرمانا أو من أمكنة أخرى. بعض هؤلاء الشبان لا يحمل سلاحاً، إنما يكتفي بالوقوف على مفارق الحارات الرئيسية كـ«حراس للأمل». المفارقة المؤلمة أنهم في الماضي القريب، كانوا يسهرون بحثاً عن الأوقات الجميلة، لكنهم اليوم يسهرون لكبح جماح الخوف. يعلق فادي، الشاب الجامعي المناوب ليلاً عند حارته، بالقول «أحلامنا مؤجلة حتى يعمّ السلم الأهلي. لا بد للحياة أن تعود ولو بعد حين. نحن هنا لا نسهر لنتابع هدوء ورومانسية المساء، إنما خوفاً من تسرب الموت».
رغم الترقب والحذر، وهدير القصف في محيط المدينة، إلا أن الجميع يراهن على صعوبة وقوع جرمانا في شرك التوتر المسلح. تقول ريم، التي تقضي وقتاً قبل المغيب في أحد المقاهي، «جرمانا خط أحمر يطوّق أبسط شروط الحياة، وهو الأمان، كما أنها لا تمثل طيفاً واحداً ولا خصوصية لأي طرف».
مشاهد جرمانا اليومية تعيش قلقاً من عبوة ناسفة قرب مدرسة عند الصباح، أو من قذيفة هاون عمياء تسقط غضباً وسخطاً على من لم ينخرطوا في المواجهات المسلحة. لا أحد يعرف في أي لحظة تنشب الكارثة مخالبها في الشارع، معلنةً سيلاً جديداً من العنف والإرهاب بالتزامن مع أصوات الانفجارات اليومية خارج جرمانا، التي تتناهى إلى مسامع سكانها على نحو واضح على الرغم من بعدها نسبياً، كأنها تنبئ بقرع طبول الرعب والرحيل في كل لحظة.
رغم كل ذلك، لا تزال القلوب تؤمن بديمومة واستمرار الحياة تحت ضوء الشمس. الوجع يعمّ كل شيء، والنزف الحاد في الشتاء لا يوقف رئتي المدينة، طالما يمكن مشاهدة رواد المقاهي والمطاعم يعودون تدريجياً، وبائع الفول النابت في ساحة الروضة يشعل شمعاته للعابرين بعد انقطاع التيار الكهربائي. هي الحياة التي يمكنك مشاهدة أثرها واضحاً في صباحات الأشجار الصغيرة على منصفات الشوارع، يشذبها بستاني البلدية، ثم يسقيها بدفق أحلام مرسومة في عيون ووجوه بريئة لتلاميذ يتحدّون الموت بفطرتهم.