قد يختلف المؤرخون في تحديد تاريخ دقيق لانطلاق السينما المصرية، لكنّه تزامن مع انطلاق السينما في العالم في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ليس غريباً على مصر في تلك الحقبة التاريخية أن تتولّى مقاليد صناعة فنية هامة وحديثة لما تتمتع به من أهمية جغرافية وتاريخية حتّمت عليها أن تكون مركزاً وملتقى لحضارات مختلفة، وموقعاً منفتحاً بطبيعته على العالم، خصوصاً في مرحلة كانت الدولة المصرية امتداداً لدولة حديثة أسّسها محمد علي باشا تطمح أن تكون عالمية.
وفي جوهرها هي دولة مدنية عصرية احتوت شرائح مجتمعية مختلفة وأصحاب جنسيات وديانات عدة، كان اليهود جزءاً من النسيج المجتمعي المصري، سواء كانوا مصريين أو وافدين تمصروا أو أجانب آثروا أن يبقوا «خواجات». ولعل البحث في الجانب السينمائي قد يرصد مشاركة ومكانة اليهودي في المجتمع المصري آنذاك.
كان توجو مزراحي من أهم وأبرز الشخصيات المصرية التي أسهمت في الانتاج السينمائي وأسس شركة إنتاج تحمل اسمه في عشرينيات القرن الماضي. كان مخرجاً وممثلاً وكاتب سيناريو. أدخل دور اليهودي في أفلام عدة واستعان كثيراً بالممثل شالوم في تلك الأعمال منها: «خمسة آلاف وواحد» (1932)، «الرياضي» (1937)، «شالوم الترجمان» (1935). كان جلياً في أفلامه مدى الاندماج الذي عاشه اليهود في المجتمع المصري. نلمس وجود اليهودي حتى في بعض عناوين الأفلام المصرية مثل «فاطمة وماريكا وراشيل» (1949) و«حسن ومرقس وكوهين» (1954). قد يشعر المشاهد العربي اليوم بدهشة وغرابة لو رأى شريطاً سينمائياً مصرياً شخصياته هي شالوم واستر كفيلم «العز بهدلة» (1937) لتوجو مزراحي. يدور الحوار باللهجة المصرية الصميمة و«تردح» الممثلة اليهودية فيتوريا فرح: «ده شالوم نسيبك اللي بتحبو قوي! آه يا عيني عليكي يا بنتي يا استر!». ظهر ممثلون يهود كثر على الشاشة، بعضهم بأسمائهم اليهودية والبعض بأسمائهم الممصرة كراقية ابراهيم (راشيل ليفي)، نجمة ابراهيم، شالوم، أحمد المشرقي (توجو مزراحي)، منير مراد ومن أهمهم وأشهرهم الفنانة ليلى مراد. استمر هذا التجانس والتآلف حتى قيام الدولة العبرية الذي مهّد لبداية انسحاب اليهود من مصر بالذات بعد ثورة يوليو. تأكد ذلك بعد حرب 1956، وكثيراً ما مسّت قضايا الجاسوسية والتبرعات لصالح الدولة العبرية بعض الفنانين اليهود وشككت في انتمائهم لهويتهم المصرية. أثيرت شائعات نالت من ليلى مراد رغم اعتناقها الاسلام عام 1946، ما أدى الى منع عرض أفلامها في سوريا واضطرها الى نفي تلك الشائعات في الصحف القومية المصرية وتأكيد انتمائها المصري العربي. ولم تسلم الفنانة راقية ابراهيم التي هاجرت الى الولايات المتحدة الأميركية عام 1954 من شائعات تجنيدها لصالح قيام الدولة العبرية ووجهت اليها لاحقاً أصابع اتهام تدينها بضلوعها في مقتل عالمة الذرة المصرية سميرة موسى.
في فترة ما بعد الثورة وما قبل حرب 1967، لم يكن ذكر اليهودي أو الاسرائيلي وارداً بشكل ملحوظ في السينما المصرية، ولم تكن هناك حالة عداء كما وضحت بعد النكسة. بعدها كان واضحاً أنّ مصر تعرضت لعدوان حتى لو لم يذكر اسم الدولة العبرية، وآثر المخرجون انتقاد الأوضاع الداخلية التي أدت الى الهزيمة وإظهار آثار أضرار الحرب على أهالي السويس في بعض الافلام كـ «الخوف» (1972) لسعيد مرزوق، و«ثرثرة فوق النيل» (1971) لحسين كمال.
بعد حرب أكتوبر 1973، باتت الرغبة جامحة وقوية في توثيق العبور من مجتمع مهزوم الى متعاف، فكان فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» (1974) لحسام الدين مصطفى، و«الكرنك» (1976) لعلي بدرخان، وبدأنا نشهد أفلام الجاسوسية وأهمها فيلم «الصعود الى الهاوية» (1976) لكمال الشيخ المستوحاة قصته من وقائع حقيقية تتناول تجنيد طالبة مصرية في باريس من قبل عملاء الموساد. ونشهد تطورات ملحوظة سينمائية تناولت الشخصية الاسرائيلية كشخصية مكارة وخبيثة تغري البطلة بالجنس والمال والرفاهية. لكن يتغلب رجال المخابرات المصرية على عملاء الموساد ويوقعون بالبطلة (مديحة كامل) ويتم اعدامها. تم إدخال الأحرف العبرية على الشاشة أثناء المراسلات السرية للمرة الأولى في أحداث فيلم مصري. رسخ هذا التوجه لانتاج أفلام الجاسوسية على غرار «إعدام ميت» (1985) و«48 ساعة في اسرائيل» (1998) و«مهمة في تل أبيب» (1992) لنادر جلال الذي تم فيه تسطيح مسألة الاختراق لأجهزة الأمن الاسرائيلية، ويتم إظهار الجانب المصري أقدر وأقوى رغم ذكاء وخبث الجانب الاسرائيلي، مستخفاً بعقول الكثير من المشاهدين، فجملة «خالتي بتسلم عليك» تفتح جميع الأبواب الموصدة وتحل المشاكل الأمنية كافة!
ولا يفوتنا أنّ فيلم «حب في طابا» (1992) لأحمد فؤاد يطرح قضية إفساد الشباب المصري في المناطق السياحية المصرية من قبل الاسرائيليين عبر ترويج الدعارة ونشر الايدز، وكذلك «فتاة من اسرائيل» (1999) لايهاب راضي الذي تناول قصة حب تتطور بين فتاة اسرائيلية وشاب مصري يرفض في نهاية الفيلم كل عروض الاغراء التي يقدمها والد الفتاة (يظهر بصورة شيطانية تسير في نفس نسق الصورة النمطية للاسرائيلي) كأنّ شغل اسرائيل الشاغل هو استيعاب الشباب المصري الى داخلها.
ولعلّ أوجه المحاولات التي طرحت قضية معاهدة السلام بين مصر واسرائيل من جهة والرفض الشعبي من جهة أخرى هو فيلم «السفارة في العمارة» (2005) للكاتب يوسف معاطي الذي طرح القضية بشكل أقرب إلى الواقع من غيره عندما يفاجأ البطل شريف خيري (عادل امام) العائد الى مصر بعد غياب 20 عاماً أنّ جاره هو السفير الاسرائيلي الذي يحاول بمختلف الطرق أن «يتواصل» معه في إشارة الى أهمية التطبيع للجانب الاسرائيلي. لكن يبقى نبض شريف خيري معبّراً عن نبض الجماهير رافضاً للتطبيع، متعاطفاً مع القضية الفلسطينية. وتهتف الجموع في أحد مشاهد العمل: «مش هنسلم مش هنبيع مش هنوافق عالتطبيع!».
أما آخر الأفلام المصرية التي تناولت شخصية اليهودي والاسرائيلي، فكان «ولاد العم» (2009) لشريف عرفة الذي اعاد تقديم الشخصية الاسرائيلية النمطية. ركّز على إبراز ملامح الشر والمكر والعنف في شخصيات عدة في الشريط أهمّها شخصية البطل المصري اليهودي الذي عمل كرجل مخابرات يصل به الأمر الى التخلي عن زوجته، ولم يتوان عن محاولة قتلها رغم أنّها أم أطفاله، والجارة اليهودية التي ينقلب حالها من امرأة طيبة الى متآمرة تحمل السلاح في وجه جارتها المصرية الموجودة عنوة في اسرائيل، لكن في نهاية المطاف ينتصر جهاز المخابرات المصري وينقذ البطلة.
لا ينفي ذلك وجود رؤى سينمائية محتضنة لليهودي، مستذكرة ماضيه كجزء من الإجماع المصري العربي حتى لو لم يكن المحور الرئيس في الاحداث. نرى ذلك في فيلم «اسكندرية ليه» (1979) ليوسف شاهين الذي يعرض قصة حب في الأربعينيات من القرن الماضي بين شاب مصري وفتاة يهودية لم تتكلل بالنجاح لقرار والدها الهجرة من مصر في دلالة على بداية هجرة اليهود من مصر، و«هليوبوليس» (2009) لأحمد عبد الله الذي يعرض بين قصصه قصة عجوز يهودية تتكلم عن ذكرياتها الجميلة في مصر مقارنة بحالها اليوم، إذ تفضل أن يعرفها الناس «خواجاية» مخفية يهوديتها أمام المجتمع.
قضية اليهودي في السينما المصرية خير تعبير حي وموثّق لتنوّع وتجانس مجتمع عربي احتضن اليهودي كجزء منه. وفي هذا الشرق، كان اليهودي فناناً ومبدعاً ومشاركاً في صناعة السينما في أيام كان يعاني من ويلات العنصرية والملاحقة والقتل في أوروبا. انقلبت أحوال هذه الألفة والقبول مع قيام الصهيونية باحتكار اليهودية وايجاد المبررات الدينية لاقامة الدولة العبرية على أنقاض مجتمع فلسطيني عربي، مدّعيةً أنّها واحة من الديموقراطية!
قد يكون للتصوّر السينمائي المصري اخفاقات أحياناً، وقد بعد عن رصد واقع المجتمع الاسرائيلي بدقة. أمر من الممكن تطويره لاعطاء صدقية أكبر من خلال الاستعانة بخبراء وإجراء بحث جدي في هذا المضمار. لكن في المجمل، يمكن القول إنّ التعبير السينمائي المصري فصل بين اليهودية والصهيونية، ولم يقع في فخ الكراهية العمياء لكل ما هو يهودي، ويعود ذلك إلى الإرث المشترك. ويبقى مستقبلاً أن نرى هل من تغيرات سياسية مفصلية لها أن تؤثر على التصورات السينمائية المقبلة؟
* كاتب فلسطيني