إن مواجهة الحقائق القديمة ليست قدر النظام الأردني فقط، بل هي كذلك ما يمكن أن يكون بانتظار «الإخوان المسلمين» الذين يمارسون حضوراً ملحوظاً من خلال الغياب والمقاطعة عن الانتخابات التي تجرى اليوم. فهم يصرّون على تجاهل بعض المعطيات، ومنها أن الحكومة، رغم ضيق وقتها وضيق الشارع بها، قد تمكنت من توجيه المواطنين نحو تثبيت أسمائهم في سجلات الناخبين واستخراج البطاقات الانتخابية، ولقيت استجابة من مليونين وربع مليون مواطن.
وفي الحقيقة، لطالما تمكنت الحكومات الأردنية من الحشد للانتخابات، حتى في الأوقات التي كان فيها «الإخوان» يقاطعون. ولكن هذا لا يجعل من الأمر طبيعياً ومعتاداً، إلا إنه يبقى من اللافت هنا، أن هذا الرقم لا ينسجم مع صورة الحكومة التي تعيش مأزقاً في العلاقة مع الشارع وسمعة المجالس النيابية السيئة والمثيرة للإحباط. وهو لا يمكن فهمه خارج الهزات التي تعرضت لها شعبية «الإخوان المسلمين»، لأسباب داخلية تتعلق بمحاولتهم الهيمنة على فعاليات الحراك الشعبي وتجييرها لصالحهم، ونشوء أجواء الشك والريبة حولهم، على ضوء ما جاءت به تطورات الأحداث العربية وانعكاس أداء الإسلاميين فيها.
وبهذا، فإن اليوم التالي للانتخابات لن يأتي بمتاعب أقل بالنسبة إلى «الإخوان المسلمين»، الذين يتأثرون بالانعكاسات السلبية التي تثيرها تجربة أقرانهم في بلدان «الربيع العربي»، بالتشارك مع الموقف من تداعيات الحلف التركي القطري المصري. وهم على الأرجح سيجدون أنفسهم أمام الموقف الحائر ذاته ما بين انتظار إمكان استثمار وضع إقليمي يمنحهم الفرصة بالتساوي مع بقية أقرانهم الإسلاميين في الخارج، أو انتهاز الفرصة بإمرار صفقة مع نظام لن يغلق الباب في وجوههم.
وفي السياق، ستجد بقية القوى، سواء تلك التي تحالفت مع النظام أو تلك التي ناصرت «الإخوان»، أن موقعها في المشهد العام لا يزال كما كان قبل الانتخابات، محكوماً بالمنحى الذي تأخذه العلاقة بين اللاعبين الرئيسيين، الممثلين بثنائية «النظام _ الإخوان».
وبما لا يقل أهمية عن ذلك، فإن القوى التي شاركت على اعتبار أن هذه الانتخابات ستقود إلى التأسيس لحكومة برلمانية، ستجد أن الفرص الوحيدة الممكنة والواضحة لتحقيق ذلك هي الالتحاق برجال النظام، الذين غادروا سفاراتهم ووزاراتهم ومقاعدهم البرلمانية السابقة، ليوجهوا اهتمامهم نحو تشكيل الكتل للمنافسة على القائمة الوطنية. ومن نافل القول إن أغلب المقاعد السبعة والعشرين المخصصة للقوائم العامة ستذهب إليهم. بطولة مطلقة
اعتادت الحكومات الأردنية، منذ بدء الحياة التشريعية في عام 1928، لعب دور البطولة المطلقة في الانتخابات أياً كانت؛ والأمر هنا لا يتعلق بتهمة التزوير (الثابتة والمعترف بها في بعض المرات)، لكنه يتعدى ذلك إلى السيطرة على مسار الانتخابات من خلال القانون الناظم لها. لذا، فخلال نحو تسعين عاماً، هي عمر التجربة البرلمانية في البلاد، استدعى الأمر نحو عشرة قوانين انتخاب أساسية، بينما كل انتخابات تفرض بدورها تعديلاتها الخاصة.
وفي مراحل معينة، استدعت الحاجة إلى البطولة المطلقة من الحكومات، عبر الاعتداء على الحياة النيابية بالحل وتعطيل عمل البرلمانات، وحتى بالاستغناء عنها واستبدالها بمجالس استشارية، يتم تشكيلها من أعضاء معينين من قبل الملك. ويقود هذا كله، إلى استحالة الحديث عن حياة برلمانية في البلاد، التي تسوّق لها حكوماتها باعتبارها واحة الأمن والاستقرار في المنطقة.
معالجة هذه الحال، كانت على رأس التزامات النظام في عام 1989 في سياق تعامله مع الوضع الناشئ على أثر «هبة نيسان» (احتجاجات شهدها الأردن) من العام نفسه، غير أن الأمور لم تذهب بعيداً، إذ نشأ واقع جديد في عام 1994 بتوقيع اتفاقية وادي عربة، التي أضحت الحجر الأساس للسياسة الأردنية، بينما تراجعت الحياة البرلمانية في قائمة أولويات الحكومات، لتصبح حصراً مجرد أداة لتنفيس الاحتقانات التي خلفتها المعاهدة وتوفير حماية لها.
ومنذ ذلك الحين، بدأت «حاجة» الحكومات الأردنية للبطولة المطلقة في معاودة الظهور بصورة متزايدة، إلى أن أضحت سمة أساسية لدى حكومات الملك الحالي، بحيث افتقدت الانتخابات النيابية حالة الإجماع على المشاركة، وأضحت تأخذ، هي نفسها، طابع الأزمة السياسية، بدلاً من أن تكون بوابة لانفراج ما. والانتخابات الحالية ليست استثناء.

إرث ثقيل

في اليوم التالي للانتخابات سيستيقظ الأردنيون على برلمان جديد، يراد له ومنه أن يلعب دوراً رئيسياً في إحداث اختراق جدي في الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد منذ سنوات، أو أن يكون على الأقل عنوان انفراج. غير أن من الصعب تصور أن يتمكن برلمان، جاءت به انتخابات كانت هي نفسها موضع خلاف وانقسام، من لعب مثل هذا الدور.
والأقرب للواقع، والأكثر مراعاة للحقائق، هو أن هذا البرلمان الجديد نفسه، سيصبح عنواناً جديداً للأزمة، وجزءاً منها. فالمعتاد أن الأزمة السياسية التي تتحول في لحظة لتتركز على قانون الانتخاب، تتحول في اللحظة التالية فور إجراء الانتخابات لتتخذ من البرلمان الجديد عنواناً لها.
وفي الحالة الأردنية، فإن الأمر يتحدد بعامل بالغ الوطأة، وهو هنا إرث النظام (ولا سيما خلال العقدين الماضيين) في التعامل مع الحياة النيابية من خلال السعي إلى فبركتها حماية للمعاهدة؛ وها نحن اليوم، في هذه اللحظة التي يجد فيها النظام نفسه أمام حاجة لفرض تسويات داخلية تمنحه مروراً آمناً عبر هذه اللحظة العربية الحرجة، لكنه سيواجه بحقيقة مرّة، تتمثل في أنه قادر على تحييد لاعبين أساسيين وإثبات قدرته وقوته أمام «الإخوان المسلمين» ومجموعات الحراكيين والناشطين. إلا أنه في المقابل سيكتشف أنه ضعيف ولا حول له أمام إرثه الخاص، الذي سيأتي له بمجلس نيابي لا يستجيب لطموحاته هو نفسه في مغادرة المربع الأول الذي يقف فيه منذ عامين، فضلاً عن تلبية طموحات الشارع الساخط.

بورصة صفقات

ما يتم نسيانه في السياق هو أن الملك الأردني انعطف العام الماضي بشكل حاد في تعامله مع الوضع المتفاقم في البلاد، لجهة اعتبار أن الانتخابات النيابية هي الأولوية القصوى وعنوان وأداة الإصلاح المنشود الأساسية. ولم يكن ذلك، في الحقيقة، ترجمة لتفاهم داخلي ما. بل فعل ذلك بعد مطالبات أوروبية حادة ومحرجة، دفعته إلى إعلان عزمه على إجراء الانتخابات قبل نهاية العام (الماضي).
والمشكلة التي تمثل هنا، تتلخص بأن الانتخابات التي كان يراد منها أن تكون بوابة للحل، اقتضت لدواعي الاستعجال تغييب وتحييد المعطيات الداخلية على نحو متعسف، للتعامل مع حرج يتعلق بالعلاقة مع شركاء خارجيين. وقد لا يزيد المردود العملي لهذه الانتخابات على خطاب قصير يثير الاستحسان في البرلمان الأوروبي أو غيره من المحافل، بينما في الحقيقة سيعود الملك والحكومة والقوى السياسية إلى مواجهة ما كانوا يواجهونه ما قبل الانتخابات.
والطرف الوحيد الذي يملك أملاً قابلاً للتحقق هو «الإخوان المسلمين» وحلفاؤهم، الذين يحدوهم الأمل بأن تسهم نتيجة الانتخابات، أو على الأقل أداء البرلمان الجديد، في استعادة نفوذهم الذي تراجع في الشارع؛ غير أن هذا الأمل لن يؤدي إلى أكثر من صفقة، تم تداول الأفكار حول مضمونها باكراً، بالإشارة إلى أن الملك يمكنه في ظرف ما أن يضمن لـ«الإخوان» فرصتهم في المشاركة من خلال منحهم عدداً مناسباً من المقاعد في مجلس الأعيان أو إشراكهم في حكومة مقبلة.
ومن المرجّح أن البحث عن صفقة ما، لن يقتصر على النظام والإخوان المسلمين، ففي اليوم التالي للانتخابات الأردنية تنشط القراءات وعمليات التنقيب عن الفرص في المعطيات الجديدة.

ساهم في إعداد الملف:
محمود منير وياسر قبيلات