عندما يقول له الطبيب إنّه سيخسر شيئاً من جسمه، وإنّ بعض وظائفه ستتغيّر بعد عملية استئصال الورم، يكون ذلك إيذاناً بأنّ حياة الشيخ المعمّم مهدّدة بالتغيّر أيضاً. لا يوجد رابط إجرائي واضح بين الحدثين في رواية «لا طريق إلى الجنة» (الساقي)، لكنّ حسن داوود لا يتأخر في إرسال ذبذبات سردية توحي بأنّ مرض بطله هو حصيلة الحياة التي عاشها لا تلك التي أراد أن يعيشها.
على غرار روايتيه «أيام زائدة» و«لعب حي البيّاض»، يكتب المؤلف اللبناني بنبرته السردية المتأنية رواية الشخصية الوحيدة، ويجعلها بطلاً للرواية، وراوياً لها أيضاً. كأنّ المرض هو ذريعة لـ«فلاش باك» مرن يعود بالقارئ إلى ماضي البطل من دون أن يغادر الحاضر. لا يخبرنا المؤلف بذلك مباشرةً. الرواية مكتوبة بذلك المزاج السردي الذي اعتدناه في تجربة حسن داوود الذي يجعل زمن رواياته أبطأ من الزمن الواقعي كي يملأها بالتفاصيل والتأملات التي لا يسمح جريان الزمن العادي برؤيتها، بينما يكون على القارئ ألا يستعجل أحداث الرواية، بل ينتظر أن تُغرقه هي في مناخاتها. ربما يجد صعوبةً في البداية، ولكنه سيهتدي بسرعة إلى الإيقاع المطلوب، فتتساوى القراءة مع التأليف، ويصبح بطء السرد جزءاً من متعة القراءة.
باختياره لشيخٍ تخرّج في حوزات النجف، يصعِّب داوود على نفسه الكتابة، لكن الصعوبة تصبح فضاءً لإنجاز رواية مدهشة عن عالمٍ شبه مغلق. يؤنسن صاحب «بناية ماتيلد» بطله، ويصنع له سيرةً عادية يبدو فيها الشيخ معاقباً بحياةٍ لم يخترها. والده الذي ورث رتبته في السلك الديني من أسلافٍ توارثوا الأمر، يُجبر ابنه على إكمال السلالة، ويختار له ابنة أحد الشيوخ لتكون زوجة له بعد إنهاء دراسته في العراق. هكذا، يصبح بطل الرواية إماماً لجامع الضيعة الجنوبية، ومرجعاً لأحوال أهلها في الزواج والطلاق والوفاة، ولكن هذا ليس كل شيء، إذْ تبدو المرتبة الدينية مجرد قمة مرئية لجبل كامل من التفاصيل والوقائع التي تتحالف مع وظيفة البطل، وتنغّص عليه حياته. من الزوجة التي فُرضت عليه، يُرزق الشيخ بولدين مصابين بالبُكْم والصَّمم. العلاقة مع الزوجة نفسها تشكو من انقطاع وصممٍ آخر. الاثنان يفكران في حياة مختلفة بينما يواصلان تحمّل تربية الولدين والبنت (الطبيعية) الأصغر منهما. الأب الذي ينتظر موته في أي لحظة مقيمٌ عندهم في البيت. جوٌّ مثل هذا يطرد البطل إلى بداية علاقة مع زوجة أخيه المتوفى. علاقة تصبح متنفَّسه الوحيد في الأيام المتشابهة والمضجرة التي يقضيها بين البيت والجامع القريب.
حين تبدأ الرواية، تكون هذه الأشياء قد حدثت. المرض هو الذي يفاقم حضورها في السرد. كأنّ اقتراب لحظة الموت من الشيخ تزيد ثقل حياته، وتدفعه إلى طلب حياة أخرى يستمتع بها في ما تبقّى له من العمر. وهو ما يحدث فعلاً، ولكن بالبطء والتمهل الذي يحدث فيها سرد ذلك أيضاً. يموت الأب. يرضى الزوجان بأنّ ولديهما الأبكمين سيبقيان في البيت بعدما رفضت مدرسة بيروتية متخصصة قبولهما. تتطور علاقته بزوجة الأخ، لكنّها لا تذهب إلى ممارسة كاملة بسبب مرضه. بموت الأب، يغيب حارس السلالة الذي يعيب ابنه بأن بُكْمَ حفيديه أوصل العائلة المتديّنة إلى طريق مسدود. غياب الأب يسهّل على الابن التخلص من مكتبته ومخطوطاته بتقديمها هدية إلى الجامع الذي سينقطع عن إمامة المصلين فيه بعد اتخاذ قراره الجديد. قرار لا يُظهره بسعادةٍ صاخبة كالتي يتوقعها القارئ، فهو يقول: «لا أعرف إن كنتُ أستعد لأن أبدأ حياةً جديدة، أو أنني أُنهي فقط ما سبق من حياتي». كأنه عاش حياته السابقة متنكراً في زي رجل الدين، ومحبوساً داخل صورته في أذهان الناس، إلا أنه لا ينجو من إدانة نفسه وهو يقرر خلع الجبّة والعمامة. يدين كسله وضآلة طموحاته. يحسد شقيقه المتوفى لأنّه رفض أن يصبح رجل دين. لقد كان ضحية أبيه وضحية تردّده وجُبنه أيضاً. «ليس ذهابي إلى النجف ما جعلني مطيعاً ما كانوا يُملونه عليّ (..) ذلك، على أي حال، ما كنتُ سأفعله حتى وإن لم أرتدِ عباءة ولم أكن رجل دين». اعترافٌ يُحسّسنا بأن تخليّه عن صورته كرجل دين، لن يكفل له حياةً جديدة بالكامل، خصوصاً إذا ظلت هذه الحياة محكومة بزوجة لا يطيق وجودها، وولدين معاقين يمنعانه من الخفّة التي يتوقع أن يحصل عليها، ومرضٍ خبيث يمكن أن يعاود الظهور.
هكذا، يصبح بطل الرواية معاقاً من نوع آخر، ويذكّرنا ذلك ببطل رواية «غناء البطريق» التي برع المؤلف فيها في كتابة صفحات مرويّة بلسان بطلها المتخلّف عقلياً. براعة تدفعنا أخيراً للإشارة إلى أنّ «فن» حسن داوود موجود في كيفية كتابته للرواية، وليس فقط في الوقائع التي تعتني بها هذه الكتابة، وتحوِّلها إلى «قطعة» مكتفية بخلودها الأدبي.



مضاجعات «بكماء»

منذ باكورته «بناية ماتيلد» (1983)، اهتدى حسن داوود إلى نبرته التي أفردت له مكاناً على حدة في الرواية اللبنانية والعربية أيضاً. الروائي الذي يقول إنه ينتسب إلى ما قرأه وليس إلى جيلٍ أو موجة، لا يزال يظن أنّه قسا على نفسه وعلى القارئ بكتابة مفتونة بنفسها أولاً. روايته الجديدة «لا طريق إلى الجنة» هي التاسعة بين أعماله التي تُرجمت إلى لغات أجنبية عدة، وهي طبقة أخرى في عمارته الروائية التي تكاد تكون مؤلفة من جملة سردية واحدة. جملة لا تُختصر باللغة فقط، بل بتلك التوريات الشعرية والتأملية العالية الجودة، كما هي الحال حين يلمّح في روايته إلى أن بطله أنجب ولدين أبكمين بسبب مضاجعات «بكماء» مع زوجة كئيبة وصامتة لم يخترها ولم تختره.