«إن الدولة هي اللجنة التنفيذية للبرجوازية» (كارل ماركس)
منذ زمن بعيد لم يعد الكثيرون يعيرون الاهتمام لمقولة ماركس هذه التي كتبها في 1848، فالأنظمة السياسية تطورت منذ بدايات القرن العشرين باتجاه تعميق أكبر للديمقراطية عبر تمثيل أكبر للعمال واحزابهم في السلطة السياسية، والأهم عبر قيام دولة الرفاه الاجتماعي حيث تعمل الدولة على الاقتطاع، من خلال أنظمة ضريبية تصاعدية، من الوفر الاقتصادي المتمثل بالربح وإعادة توزيعه على شكل اجر اجتماعي يطال الصحة والتعليم والنقل، وأيضاً عبر مأسسة تحديد الاجور بواسطة العقود الجماعية التي تصحح الاجور ربطاً بالتضخم والانتاجية. كل ذلك ادى الى ارتفاع حصة الاجور الى اكثر من الثلثين من الناتج المحلي في الكثير من الدول الرأسمالية، واصبح العمال شركاء في السلطة السياسية وشركاء فعليين في الاقتصاد من خلال استحواذهم على الجزء الأكبر من الناتج الاقتصادي، وقبلت البرجوازيات بهذه الشراكة مختبئة وراء هذه التشكيلة السياسية ــ الاقتصادية الجديدة، وهو ما فعلته في بدايات الرأسمالية عندما اختبأت في المجال السياسي خلف طبقات قديمة متهالكة اقتصادياً. وانقسم العالم إلى عالم اشتراكي تحكم فيه الطبقة العاملة المجالين السياسي والاقتصادي وعالم رأسمالي تُشارك الطبقة العاملة في حكمه.
انهار هذا التنظيم الاقتصادي ــ السياسي العالمي بين بداية السبعينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، فمع اندلاع الأزمة الاقتصادية في الدول الرأسمالية في السبعينات بدأ التخلي عن السياسات الكينزية. وبدأ التحول بداية في العالم الثالث مع انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973 مروراً بوصول تاتشر ــ ريغان إلى الحكم في بريطانيا والولايات المتحدة وصولاً الى انتهاء التجربة الاشتراكية، وقد كان احد مفاعيل هذه المتغيرات اعادة تموضع رأس المال وهجومه المضاد على مستوى السياسات الاقتصادية وتعميق الاقتصاد المالي وتحرير الاقتصاد والخصخصة، مما أدى إلى عكس الكثير من المكتسبات الاقتصادية للعمال والموظفين وصل إلى حد أن يطلق الاقتصادي الشهير جوزيف ستيغليتز، كبير اقتصاديي البنك الدولي سابقاً والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، على حكومة الولايات المتحدة بأنها اصبحت «من الـ«1% للـ 1% وبواسطة الـ 1%»، في إعادة صياغة لمقولة ابراهام لينكولن «من الشعب وبواسطة الشعب وللشعب» التي أعلن فيها انبثاق عهد الحريات في الولايات المتحدة في خضم الحرب الاهلية الاميركية.
وهكذا عدنا في عام 2011 إلى عام 1848، إذ اصبحت الحكومات مُمثلة لأقلية تتحكم بمفاصل الاقتصاد ويعود لها الجزء الوازن من الثروة والدخل، وعادت «الحرب الطبقية»، كما سماها ستيغليتز أيضاً، إلى الواجهة في الولايات المتحدة وطبعاً إلى شوارع اليونان وأميركا اللاتينية واسبانيا واليوم إلى لبنان. فمنذ معركة الأجور الاخيرة في عام 2011 إلى معركة السلسلة اليوم، يتبين أكثر فأكثر ان الحكومة اللبنانية الحالية أصبحت تدافع عن مصالح الأقلية بوجه العمال والموظفين والطبقة المتوسطة وحتى الرأسماليين المنتجين، فأجهضت الزيادة على الاجور في عام 2012 وجعلتها هزيلة لا تتماشى مع نسب التضخم المتراكمة منذ عام 1996 خصوصاً على الاجور الوسطى، أي أجور الطبقة المتوسطة التي شهد دخلها تراجعاً كبيراً، واليوم تحاول الحكومة أن تمنع إقرار سلسلة الرواتب للقطاع العام والمعلمين خاضعة بذلك لضغوط هيئات اصحاب العمل والمصارف التي تبدو أكثر وأكثر كأنها الحاكم الفعلي للبلاد لا الحكومة نفسها المنبثقة عن الآليات الدستورية.
تدافع هيئة التنسيق النقابية اليوم عن حقوق الأكثرية الساحقة من اللبنانيين من أجل رفع حصة الأجور من الناتج المحلي التي تراجعت الى 25% وهي تجعل لبنان في مصاف الدول الأكثر فقراً، فعلى الرغم من زيادة الناتج الفعلي بنسبة 50% منذ عام 1996 وزيادة الانتاجية الفعلية بنسبة 75% إلا أن حصة الأجور تراجعت من 35% في عام 1997، أي إن هذه الزيادات ذهبت إلى زيادة حصة الارباح والريوع والفوائد التي اصبحت تستحوذ على 75% من الدخل الوطني أي تم تحويل حوالي 30 مليار دولار بين 1997 و2012 من الأجور نحو عوائد الرأسمال! فالسياسات الاقتصادية بدلاً من أن تستغل الزيادات في الناتج المحلي والانتاجية من أجل اعادة الاعتبار لحصة الاجور في الاقتصاد التي وصلت إلى 55% قبل الحرب، وبالتالي رفع مستوى معيشة غالبية اللبنانيين وجعل سوق العمل جاذبة للعمالة الماهرة اللبنانية بدلاً من طردها إلى بلدان الهجرة... قامت بعكس ذلك. اذ تم تجميد الأجور منذ عام 1997 وحتى عام 2008 بحجة الاستقرار النقدي (التي تستعمل اليوم أيضاً) وحجة التضخم (استعملت في عام 2011)، وعلى الرغم من إلزام القانون للجنة المؤشر الاجتماع دورياً من أجل النظر في تصحيح الأجور إلا أنه لم يتم ذلك لمدة 12 عاماً وهذا لا يحصل في الدول التي لديها ميكانيزمات مركزية أو قطاعية لتصحيح الأجور الذي يتم سنوياً.
هذه السياسات شجعت ايضا على اكتتاب المصارف واصحاب المداخيل العليا بسندات الخزينة اللبنانية منذ عام 1993 بفوائد مرتفعة، ففي ظل النظام الضريبي التراجعي تحملت الشرائح الدنيا من الدخل ثقل هذه السياسات، ما أدى إلى تحويل للثروة من دافعي الضرائب إلى حاملي سندات الدين. ولقد أدى هذا إلى تعميق الاقتصاد الريعي فارتفعت حصة الفوائد من الناتج المحلي من 5% إلى 10%.
كذلك قامت هذه السياسات على الاعتماد المتزايد على الرأسمال الخارجي الوافد وتحويلات المغتربين من اجل تحفيز الاقتصاد، ما ادّى الى خلل كبير في الاسعار بين السلع القابلة للتبادل وتلك غير القابلة للتبادل، فتركّزت الموارد في القطاعات المنخفضة الانتاجية المنتجة للأجور المنخفضة كالخدمات والتجارة، ودفعت في فترة ما بعد عام 2007 إلى فورة عقارية، اذ ارتفعت حصة قطاع البناء من 8.5% في عام 2006 إلى 13.5% في عام 2013، واللافت ان 20% من الزيادة في الناتج المحلي في تلك الفترة اتت من نمو هذا القطاع الذي يتمتع بدرجة عمالة منخفضة ومعدل مرتفع للقيمة المضافة الى العامل الواحد، ما ادّى الى تحويل الجزء الأكبر من القيمة المضافة الى الرأسمالين العقاري والمالي.
نعم إن ما يحصل اليوم في لبنان شبيه بما يحصل في اليونان ولكن ليس بسبب ما يروّج له منظرو الاقتصاد الريعي، الجيد منهم والسيئ، بل لأن الطبقة البرجوازية في البلدين تحاول أن تحافظ على هيمنتها الاقتصادية وتحميل العمال والموظفين وزر الازمات الاقتصادية الناتجة من سياسات هذه الطبقات المسيطرة، مما دفع بالعمال والموظفين والمتعاقدين إلى الشارع معلنين المقاومة، وهذا يذكّر بتوصيف الاقتصادي البريطاني الشهير جو مانيارد كينز للسياسات الانكماشية بعد الحرب العالمية الاولى: «إن الطبقات التي ستخضع أولاً لخفض اجورها ليس لديها ضمانات بأنه سوف يعوّض عليها بخفض مواز في اكلاف المعيشة أو ان هذا الخفض لن يكون لمنفعة طبقة أخرى. وبالتالي فإنهم محكومون بالمقاومة قدر ما استطاعوا. وستكون حرب حتى يتم تحطيم واخضاع هؤلاء الاضعف أقتصادياً»... لقد رفض كينز في يومه هذه الحرب وهذا الاخضاع واليوم فإن الشعب اللبناني مدعو لنصرة هيئة التنسيق النقابية في معركتها المحقة دفاعاً عن العمال والموظفين والمتقاعدين في وجه طبقة الـ 1%. فالمعركة واحدة من اميركا إلى اليونان إلى لبنان، كما كانت في 1848 ستكون في يومنا هذا.
* رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الاميركية