أول من أمس، عرضت قناة «الجديد» في نشرتها المسائية تقريراً استطلعت فيه آراء النازحين السوريين وما يلقونه من معاملة في لبنان. راوحت الإجابات بين نساء سوريات تحدثن عن عنصرية واجهنها في بعض المناطق اللبنانية، واستقبال حظي به آخرون في أماكن أخرى، فرأوا أنّ «الشعب اللبناني حبّاب». للوهلة الأولى، قد تخال أنّ التقرير أُعدّ في بلد آخر، لا في لبنان.
كأنّ «الجديد» أرادت الردّ على نحو غير مباشر على تقرير سابق بثّه الموقع الالكتروني لجريدة «النهار» الأسبوع الماضي، وكان عبارة عن دقيقتين محمّلتين بالعنصرية والشوفينية وقلة النضج. ذلك التقرير الذي استطلع آراء بعض اللبنانيين بوجود النازحين السوريين، كان كفيلاً للمرة الأولى بتوحيد أصوات الموالين والمعارضين للنظام السوري في لبنان، التي علت احتجاجاً على رفض كل هذه العنصرية والكراهية.
تقرير لم تشفع له بعض الأصوات المدافعة، التي رأت أنّ الأخير لا يفعل سوى عكس نبض الشارع وآرائه وانطباعاته حول ظاهرة تكاثر النازحين في لبنان. قد يبدو هذا الكلام صحيحاً، إذ يقع على مهمة الصحافي مواكبة هموم الشارع، لكن ما لا يمكن تجاوزه هو تلك الزاوية في المعالجة التي اتكأت بدورها على نية تحريضية وشارع من شوارع بيروت يتنفس بذات الموروثات الثقافية والاجتماعية، ويرى كل ما هو أجنبي وتحديداً سوري بمثابة «بعبع». التقرير الذي حذفه موقع «النهار» ظلّت أصداؤه تتردد في الشارع الافتراضي. من بين هذه الأصوات، برز الكاتب والصحافي السوري محمد علي الأتاسي، الذي دعا يوم الثلاثاء الماضي الى مقاطعة الصحيفة عبر حسابه على فايسبوك. تحت عنوان «دعوة إلى الكتّاب والمثقفين السوريين لمقاطعة صحيفة «النهار» اللبنانية»، تحدث الأتاسي عن تجربته في الصحيفة التي ناهزت عشر سنوات، مستذكراً مرحلة عمله هناك حيث «الأصوات الشوفينية والأخرى المعتدلة التي يمثلها الراحل غسان تويني والياس خوري وسمير قصير». توقّف الأتاسي عند الملحق الثقافي الخاص بالجريدة، الذي تحوّل إلى «باب مشرّع للكتاب السوريين المعارضين للنظام»، ومن خلاله «تتحدى الصحيفة النظام في عقر داره». ووصف ما يحدث اليوم في الصحيفة بـ «انقلاب على غسان تويني وميراثه»، ليعود ويتحدث عن انحدار «النهار» في خطابها تجاه اللاجئين السوريين، وخصوصاً في السنتين الأخيرتين. وأرفق الأتاسي المقال بدعوة إلى المقاطعة أثارت انقساماً وجدلاً واسعين سرعان ما انتقلا إلى العالم الافتراضي وتحديداً على صفحة الأتاسي الخاصة. انقسمت التعليقات بين مؤيد لهذه الخطوة ومعارض لها. الكاتب والروائي الياس خوري الذي عمل الأتاسي معه عندما كان يتولى إدارة «الملحق الثقافي» لـ «النهار» كتب «شي مخجل وحزين ويثير الغضب، تحيتي لقلمك الشجاع يا علي، وكل الحبّ للشعب السوري الذي يعلّمنا التضحية والصبر والحرية». صوت قابلته مداخلة لرئيس تحرير صحيفة «النهار» غسان حجّار، الذي علّق على المقال، قائلاً «يبدو أنّه لا فرق بين النظام السوري والقوى المعارضة، وجهان لعملة واحدة: سياسة التكفير والمقاطعة والإلغاء هي نفسها»، مذكراً الأتاسي بـ «أفضال» الجريدة عليه وعلى «أمثاله» في حمايته من «الاضطهاد الذي كان يتعرض له جراء كتاباته». كلام حجّار أثار حفيظة الأتاسي، الذي رفع السقف في مهاجمته، داعياً إياه الى ترك الصحيفة «لإنقاذ ما تبقى من ميراثها».
على أي حال، فإنّ «زلّة» موقع «النهار» تستدعي تفكيراً أشمل يشمل كيفية تعاطي الإعلام اللبناني مع قضية اللاجئين السوريين. ليس المطلوب إخفاء الحقيقة، بل تقديمها في إطار ينأى عن التحريض، وبمسؤولية، وخصوصاً أنّ المجتمع السياسي اللبناني برمته يفتقد هذا النضج... وإلا فكيف نفسّر إعلان الوزير جبران باسيل نقلاً عن وزير الداخلية اللبناني مروان شربل أنّ هناك «637 جريمة ارتكبها نازحون أو عاملون سوريّون»، مصوِّراً الأمر كأنّ الجريمة لصيقة بشعب دون غيره، ورافعاً عن الدولة المسؤولية الأساس في ضبط الوضع؟ لعلّ صعوبة دور الإعلام اللبناني مزدوجة هنا: المطلوب نضج واختيار دقيق للمصطلحات، وتقديم الحقيقة على نحو ينأى عن التحريض. ولعلّ تقرير «الجديد» أول من أمس محاولة موفقة في هذا الإطار.