ممنوع على القاضي أن يتكلّم. هو صاحب سلطة، بحسب القانون. لكن، وبحسب القانون أيضاً، عليه أن يكون أخرس! لطالما لمع سيف «موجب التحفّظ» فوق رؤوس القضاة. لطالما لوّحت لهم عصا «التفتيش القضائي» بالعقوبة إن تكلموا. قلّة من القضاة كسروا القيد، سابقاً، فما كان إلا أن سُحقوا. أن تكون قاضياً لبنانياً، من دون ظهر سياسي يحميك، فأنت مسحوق لا محالة إن تفوّهت علناً بشكاية ظلم ألمّ بك. اليوم تكسر القاضية غادة عون هذه القاعدة. فعلتها وأطلقت صرختها. لقد فشل مجلس القضاء الأعلى في صياغة تشكيلات «إصلاحية». صارح وزير العدل الرأي العام بهذا القول. تلته نقابة المحامين التي انتقدت بدروها «فقدان الإرادة» لدى قضاة المجلس.
شاهدت عون كل هذا، وهي القاضية المستشارة في محكمة التمييز، فكتبت في رسالة جريئة: «أتوجّه إلى الضمير الإنساني والمهني لكل قاض في لبنان، لكل قاض أقسم على أن يقوم بوظيفته بمنتهى الإخلاص والتجرّد، وأن يكون عادلاً بين الناس، وأن يتصرّف تصرّف القاضي الصادق الشريف، لأسأل علّني أجد الجواب الشافي: كيف يمكن الوفاء لهذا القسم وتوزيع العدل بإخلاص وتجرّد بين الناس، إذا لم يكن العدل موجوداً بين القضاة أنفسهم وفقاً للأسس المشار إليها؟ من قال إن الدور الطليعي لمجلس القضاء الأعلى، الذي أكنّ لأعضائه كل احترام، يحول دون حق أي قاض، أمانة لقسمه، أن يرفع الصوت عالياً للمطالبة بإصلاح المؤسسة القضائية بشتى الطرق والوسائل؟».
أذنت القاضية لـ«الأخبار» بنشر رسالتها. يبدو أنها ما عادت تخشى سطوة «المفتشين». أكثر ما يمكن أن يفعلوه هو الطرد، وبالتالي: «أهلاً وسهلاً... ليكن». تشكر عون وزير العدل شكيب قرطباوي على ما تراه موقفاً مشرّفاً، إذ أعاد مشروع التشكيلات القضائية إلى مجلس القضاء الأعلى، وذلك لعدم تماشيها مع النهج الإصلاحي. تتوجه إلى زملائها القضاة، قائلة: «الغريب أن لا تأتي هذه الصرخة من القضاة أنفسهم، إذ من الأولى منهم بالمطالبة بالإصلاح وبتقويم المسار القضائي بما يتناسب ومعايير الشفافية والنزاهة والموضوعية، وإجراء التشكيلات القضائية تبعاً لها».
تنتقل القاضية إلى النقطة التي يخشى أكثر القضاة الخوض فيها في العلن. إنها المحسوبية أو التبعية السياسية. تقول عون في رسالتها: «أيعقل أن نستمر في النهج نفسه، أي في تقييم عمل القاضي على أساس من تكون له حظوة أكثر في استمالة رضى هذا النافذ أو ذاك، أو هذا الرئيس أو ذاك، فيحظى القاضي المحظوظ بكل الفرص والمناصب، بينما يهمّش الآخر الذي لا يتقن ربما لغة الممالأة والمحاباة؟». لقد قرأت القاضية، خلال السنوات الأخيرة، ما يكتب عن القضاة في سائر الدول، ومنها الدول العربية. تستوقفها جداً تجربة قضاة مصر مع السلطات المتعاقبة. تشعر أن من حقها أن تغار من تلك النماذج الإيجابية، من قضاة يصفهم الدستور بأنهم أشخاص سلطة، ويمارسون سلطتهم بكل واقعية وثقة. حظ قاضيتنا العاثر أنها في لبنان، في البلد الذي باتت تندر رؤية ملامح الدولة فيه، الدولة التي يعلم الجميع بأن من أسس إنشائها واستمراريتها القضاء العادل والمستقل. تتوجه عون في رسالتها إلى قضاة لبنان: «صدقوني إننا في هذا المضمار من أكثر الدول العربية تخلّفاً. فإذا راجعتم قوانين هذه الدول من المغرب حتى الأردن، فستجدون أن معظمها لحظ معايير محددة لتشكيل القضاة». وتضيف في سياق سردها لأسباب ما يعانيه القضاء اليوم من تخبط، أن «من غير المقبول أن يكون في القضاء فئتان: فئة المحظوظين على الدوام، الذين لم يسبق لهم أن تولوا ولا مرة وظيفة مستشار، وفئة المغضوب عليهم على الدوام، الذين حرموا من تبوّء أي مركز حساس، ليس لأنهم غير أكفاء أو جديرين بذلك، بل لأنهم، ويا للأسف، لم يجدوا السند الكافي لدى أصحاب النفوذ لترفيعهم، ولم يسعوا لإرضائهم، ولم يحاولوا استمالتهم». القاضية عون من فئة المغضوب عليهم. هي كذلك بشهادة الكثير من القضاة الذين تحدثت إليهم «الأخبار». هي ليست محسوبة على فريق سياسي.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن من يقفون على رأس القضاء عادة، أو من بيدهم الأمر، يرددون غالباً أن «المراكز غير مهمة في القضاء». نجدهم يقولون هذه الجملة ما دام الضرر لم يلحق بهم شخصياً. يحاولون «الأستذة» أو ممارسة «الطوباوية» على من دونهم من القضاة، الذين لا حول لهم ولا قوة، خاصة ممن لم يرفع في يوم من الأيام سياسي هاتفه للتوصية بهم. يبدو أن القاضية ملّت هذه العقلية، وما عادت تنطلي تلك الكلمات المنمقة ظاهرياً عليها، فتقول في رسالتها: «إن المداورة لا تتناقض بتاتاً مع مبدأ عدم جواز نقل القاضي، لأن تطبيق المبدأ المذكور (أي عدم نقل القاضي) لا يمكن أن يستعمل ذريعة تبيح لأصحاب النفوذ التسلط والاستئثار بالسلطة. فعدم جواز نقل القاضي يعني بالتحديد عدم جواز نقله لأسباب استنسابية لا علاقة لها بأدائه المهني، والتي قد تحصل أحياناً بقصد الانتقام منه دون أي مبرر موضوعي لذلك، لا عدم جواز نقله ضمن أطر محددة وضعها القانون احتراماً لمبدأ الإنصاف بين القضاة». النماذج على ما تقوله القاضية كثيرة، وأهل قصر العدل يعرفون كيف كان يعاقب بعض القضاة بعد إصدارهم أحكاماً لا تروق كبار القضاة، ممن بيدهم الحل والربط، أو بالأحرى لا تروق الجهات السياسية والحزبية والمذهبية التي يتبعون لها. وقد تكون مسألة القاضي جون القزي، صاحب حكم منح المرأة لأولادها الجنسية اللبنانية، خير دليل على تلك العقلية الإقصائية. فبعد ذاك الحكم، أبعد القزى عن قوس محكمته، ونقل إلى محكمة أخرى بـ«رتبة» مستشار.
وبعيداً عن رسالتها، وفي معرض تعبيرها عن امتعاضها من الحالة التي وصل إليها القضاء، توجّت عون في حديث خاص: «تحية إكبار وإجلال لقضاة مصر الذين فهموا جيداً معنى الرسالة القضائية، التي هي أولاً وآخراً الدفاع عن حقوق المجتمع وصون حرياته، ومناهضة الظلم ومناصرة المظلوم. الذين عرفوا أن دورهم في المجتمع ليس فقط إصدار الأحكام، بل أيضاً صون المجتمع وحمايته من تسلط السلطة على حساب دولة القانون... يا ليتنا نتعلم منهم».
أما الرسالة، التي قلما خرج من القضاة من يكتب بجرأتها، فتختمها القاضية عون بالقول: «فيا قضاة لبنان، ومع محبتي الخالصة لكل منكم، أرجوكم أن تقفوا وتتأملوا قليلاً في هذه الطروحات، وأن تستعيدوا ربما إنجازات زملائنا قضاة مصر، هؤلاء الشجعان الذين لم يخافوا الاضطهاد والسجن وجور السلطة وتعسفها، بل وقفوا وقفة مشرفة في كل الأزمنة والعهود دفاعاً عن مؤسسات الدولة وإعلاءً لسيادة الحق والقانون، فاستحقوا بجدارة لقبهم وأصبحوا محط أنظار الأمة جمعاء، أفلا يجب أن نغار منهم؟».



«لسنا صندوق بريد»



ليست القاضية غادة عون (الصورة) الوحيدة في حسرتها على السلطة القضائية في لبنان. ربما وصل بها الضيق إلى حد الانفجار، فكتبت ما كتبت. لكن ثمة قضاة في لبنان نقلوا إلى «الأخبار» ضيقهم، واليوم يتحيّنون الفرصة للإفصاح عن آرائهم و«ليكن ما يكون». هذا ما يتوقع من مجلس القضاء الأعلى أن يقرأه جيداً، وقبله ربما هيئة التفتيش القضائي. قد تنفجر القضية على نطاق واسع. ولكن في المقابل يمكن أن تؤخذ هذه الصرخات على محمل حسن وتدرس جيداً، وهي كثيرة، والمعنيون في القضاة يعرفونها ويعرفون أصحابها جيداً. المتابعون يتوقعون التفهّم من المعنيين، والعمل على الإصلاح، بدل اللجوء إلى خطوات عقابية. هكذا قضاة يصرخون من أجل العدالة لا يتوقع أن يتركهم الرأي العام يواجهون وحدهم. ثمة تجارب سابقة، متسرّعة، من جانب التفتيش، أدّت إلى «أسطرة» بعض القضاة، فنالوا من الشهرة رغم إرادة المسؤولين. كل ما تريده القاضية عون، ومن مثلها من القضاة، على قلتهم ربما، أن تكون سلطتهم سلطة، لا صندوق بريد لسياسي من هنا أو نافذ من هناك.