أنترفون مدبلج

أعيش في منطقة في العاصمة، تحيا بدوامين منفصلين: فهي في الصباح، وبفضل ثكنة الجيش المجاورة والمستشفى العسكري وتعاونية الجيش، منطقة صاخبة ورخيصة وشعبية منوّعة اللهجات بتنوع أهالي العسكريين القادمين من مناطقهم لمرافقة مرضاهم، وبعد الظهر هادئة، غالية الثمن و«بتحكي فرنساوي».

البناية التي أعيش فيها أيضاً تؤوي نوعين من السكان: قدامى الحي الكبار في السن، كون الشباب هاجروا منذ زمن بعيد تاركين أهاليهم في شقق ضخمة لا تؤنس وحشتهم فيها إلا رفقة بعض الخدم، وهم في الأغلب مؤمنون، تراهم يوم الأحد يتوكأون على عكازاتهم وقد تأبّطوا أذرع زوجاتهم اللواتي حرصن على الذهاب عند الحلاق استعداداً للقدّاس، ووافدون جدد أمثالي، طبقة متوسطة، علمانيون، يفتّشون عن المناطق غير المفروزة طائفياً ليسكنوا فيها وإليها.
البناية، تشبه البلد كثيراً. جيراني العونيون ذوو الأصول الريفية، يُسمع من بيتهم مساءً إما صوت «أو. تي. في» أو.. «المنار»، خاصة عندما يطلّ السيد، أما بقية الأيام، فهم يذكّروني بطفولتي في عائلة لا يوازي كثرة أعداد أفرادها إلا قلّة ميزانيتها بالرغم من الركض المتواصل للوالدة والوالد لتوفير الأساسيات. أما ناطور المبنى فيقال إنه كان قوّاتياً مقاتلاً يقف على الحاجز، وهو لا يزال من قلّة نواطير لبنانيين في بيروت بعد أن صارت الزمالة في هذه المهنة للغالبية السودانية أو الكردية أو المصرية، وأخيراً السورية.

الأجانب في البناية ليسوا كثراً.. ثلاثة بيوت فقط من أصل 30 شقة: رجلٌ كهلٌ من أصل إيطالي، لكنه «بيحكي عربي أحسن مني ومنك»، سيدة أخرى نصفها لبناني ونصفها سويسري، وعائلة باكستانية يعمل «ربّها» على الأرجح في سفارة بلاده هنا.
وللبناية لجنة، «تبوّأت» رئاستها زوجة عسكري متقاعد. السيدة «شغّيلة»، وتريد أن تقوم بشيء ما لتحسين البناية، وهي لذلك استفتتنا، وقامت بالفعل بتحسينات جُلّى. لكن، وفي أحد الأيام، وبعد أن كنتُ قد شكوت لها أن الأنترفون «معلّق»، أي أني أسمع كل مَن يتحدث عبره دون أن أرفع السماعة كما لو كنّا في بثّ مباشر طوال النهار والليل، وبعد إلحاح، وأخيراً، قامت باستبدال الانترفون القديم بواحد جديد، لكن، وبدلاً من كتابة الأسماء عليه بالعربية، كتبتها، كلها، باللغة.. الفرنسية.
لمَ بالفرنسية؟ لا أعرف. لكني «انفردت» بتحمُّل معظم الآثار الجانبية لهذا التغيير. فكل عمال «الديليفري»، والتائهين في الحي، والكبار في السن والخدم والجُباة المختلفين، إضافة إلى مَن تيسّر من الزوار لعيادة في الطابق الرابع، ضاعوا تماماً. هكذا، وبدلاً من «البثّ المباشر» لكل ما يقال عبر الانترفون بسبب إشتراكات بين شرائطه، أصبحتُ هدفاً للرنّ المتواصل عليّ للاستفسار إن كنتُ قد طلبت من عند «بيتزا هات» أو إن كنتُ بيت «فلان الفلاني»، أو حتى إن كنت أنا الناطور، نظراً لقرب «زر الانترفون» العائد لي من يد مَن يريد الرنّ! لذلك، خططت اسمي واضحاً باللغة العربية ووضعته على الزر العائد لشقتي على أمل التقليل من الإزعاج.
لكن ما حصل كان عكس ذلك تماماً: فلأن اسمي كان مقروءاً بالعربية، أخذ الناس يستسهلون الكبس عليه. هكذا، استمر الحال: صبح وليل، ليل وصبح، «داخلة خارجة» على حدّ تعبير عادل إمام. «بالغلط ما تواخذينا مدام» كان عنوان المرحلة، ربما لأنهم ظنوا أنني اللبنانية الوحيدة «اللي بتحكي عربي بالمنطكة» أو.. لا أعرف، لكن النتيجة كانت هنا. «تررررن تررررن»، «نعم؟»، «هون بيت فلان الفلاني؟»، «لأ عيني. ليه شو مكتوب ع الزر؟»، «بس ما بعرف اقرا أجنبي»، «رنّ ع الناطور؟»، «ليه أيّاه الناطور؟».. كيف سأقول له أين هو زر الناطور؟ تذكرتُ أني اصطحبت صديقة فرنسية إلى منزلي، وحين كنت منهمكة بفتح باب البناية، إذ بها «تفقع» ضحكاً. التفتُّ إليها فوجدتها تشير إلى الانترفون.. «تضحكين لأن الأسماء مكتوبة بالفرنسية أيتها الاستعمارية؟»، قلت أمازحها، فإذ بها تشير إلى أحد الأزرار التي كُتب عليها: «con». ما الموضوع؟ السيدة رئيسة البناية لم يكفها أن تكتب الأسماء بالأجنبي، حين وصلت إلى الناطور، كتبت بدل «concierge»، واختصاراً: «con». لمَ الاختصار حين وصلت إلى البواب؟ لا أعرف. لكن من الواضح أن معلوماتها باللغة الفرنسية لم تتح لها معرفة أن الاختصار كما كتبَتْه يعني «مسّبة» من النوع الشوارعي الثقيل بالفرنسية.
المهم، بعد تكرار الأمر، وبعد أن تعبت من تكرار طلبي بأعادة كتابة الأسماء بالعربية على الأقل للعرب في البناية، يئست، فقرّرتُ أن لا أردّ على الانترفون بعد ذلك. «أصلاً ما حدا بيجي لعندي بلا ما يتلفن، وتانياً الناطور بيعرف كل العمال والجُباة الذين يمرّون على البناية، وبالتالي لن أردّ إلا إذا كنتُ أنتظر أحداً».
هكذا، وأنا جالسة في إحدى السهرات أمام التلفزيون، والانترفون يرافقني بصوت الرنين غير المتوقّع في أي وقت، وأحاديث الجيران عبره (لأن العطل لم يصلح بتغيير الانترفون).. وإذ.. بباب البيت يفتح عليّ! قفزتُ من المفاجأة وأنا أصيح«يه؟ مين؟»، وإذا بالوالدة، التي تملك مفتاح البيت، تُصدم هي الأخرى، وكانت قد وصلت لتوّها من طرابلس«إنتي هون ماما.. وقف قلبي» قالت! «أتاري» كانت الوالدة ترن على الزر لتنبّيهي، وأنا لا أدري. هكذا، تحوَّل الانترفون، الذي اعتبرته مسؤولة البناية جزءاً من برستيج السكان، إلى آلة ضدي بدلاً من أن يكون لخدمتي.
ولأيام خلت لم يتغيّر شيء. لذا، فكّرت وصمّمت وقلت لنفسي «طيب.. بما أن الزر بالعربية يحوز على كل هذا النجاح، فليس لي إلا أن.. ماذا؟ أكتب اسم مسؤولة البناية على زر أنترفونها وبالعربية، و«لمزيد من المعلومات» وضعت عليه نقطة بالأحمر.
هكذا، ومن الآن وصاعداً، سأستمتع وانا مرتاحة في كنبتي المسائية، بسماع السيدة تحتّج على عمال «الديليفري» والجُباة الذين يستمرّون بالرنّ عليها بصوت يغالب نفسه لكي يكون مهذباً «لأ يا عيني. إسأل الناطور»، والعامل يقول لها محتاراً «أياه زر الناطور مدام؟».

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/24/2013 1:24:38 AM

هذا المقالة يمكن ان تقرأ كقصة رمزية تختزل كل ما هو خطأ في لبنان. وبما ان الاستاذ زياد رحباني يقول انه يحب ان يعمل مسرحية جديدة فان "انترفون مدبلج" يمكن ان يكون نواة مسرحية رائعة. صحيح ان الفكرة العامة تشبه "فيلم اميركي طويل" حيث يسكن العصفورية مرضى من مختلف "اطياف" الشعب اللبناني ولكن الفكرة ما زالت مناسبة وحان الوقت لتصوير المجانين خارج اسوار العصفورية. والمبنى الذي تسكن فيه الست ضحى بما فيه من سكان وزوار و عمال توصيل ومديرة فرنكوفينيئية وناطور\قناص او ميليشياوي وسكان لا حول لهم ولا قوة وهم الاغلبية الصامتة جدا. قد يشبه ذلك "سكان" مسرحية "نزل السرور" ولكن سواء اكان الناس يسكنون بار ومطعم او نزل او مصحة عقلية او كواليس خشبة مسرح كما في "شي فاشل" فان المجتمع هو نفسه ومشاكله لم تتغير. كان في مطعم بيبرم كقمة التطور حينها والان صار في انترنت وتلفون خليوي بيفتل ولكن الناس لم تتغير وهذا فيه ما يكفي من المادة لافلام ومسرحيات كثيرة. و لنعمل في عصر اميركا على الطريقة الاميركية حيث حين ينجح عملا فلا بد من "پارت تو" وبالطالع. حان وقت تجديد "فيلم اميركي طويل" ولكن هذه المرة ينتقل النزلاء من العصفورية الى السعودية. طبعا مع حجز مكان خاص لابو ليلى وعمر في قسم العجزة وهذه المرة يكون قسم العجزة في قطر. في عصر التلفون النقال والكومبيوتر النقال هناك ايضا المريض النقال من الحكيم للحكام. يا رب تعافينا. http://www.youtube.com/watch?v=HyvgRSI7akI ارجو اطلاع الاستاذ زياد على "انترفون مدبلج" لاخذ العلم وخبر. والعلم وخبر نور يا مستر نور. مسا النور (ابو ليلى) وعمر

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/20/2013 3:04:24 PM

خلافا لمعظم اللبنانيين، أنا من أصول إنجليزيه. لم أستطع النوم قبل فك رموز "con" لذلك وكالعادة، هرولت ل Google Translate... حتى الشيطان جوجل أحمرت وجنتاه من الترجمه.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/20/2013 2:40:09 PM

فهمنا أن الكاتبة ليست من أصول أجنبية أو مناطقية أو ريفية ولا في أصولها عسكريين قد تنعت بسببهم بالشعبية والرخيصة والحمدلله، ولا انتماء دينيا لها حتى لاتضطر الى تسريح شعرها عند ال"كوافeuر . يبدو أن لا أصول لها. هي "علمانية" "تحترم" "علمانيًا"كل من لا يمت الى "أصولها" بصلة.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/22/2013 2:49:16 PM

شو هالتعليق القوي. ليه يعني فهمت هالشي يا حلو؟ انا من أصول ريفية اولا ومن جبل لبنان تانيا وبيي عسكري متقاعد ثالثاً وبفضل الدولة اللبنانية تعلمت في باب التبانة تحديدا وعلمانية اكيد. نعم، وشو بتؤمرنا يعني؟ آه قلت انو يبدو انو ما عندي اصول؟ حاسة كتير بالإهانة ورح ابكي بس بعد الضهر.. ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/20/2013 12:25:06 PM

يعني إذا البنك بيتعامل إنكليزي وبعض اللبنانيون بيتعاملوا بالفرنسية وبعضهم الآخر يتعامل بالفنئية وآخرون بالعربية وزوار السفارة السعودية يتحدثون باللهجة السعودية الخ،عرفنا مكامن الخلل بعدم اتفاق اللبنانيون فيما بينهم هو فقدانهم للغة مشتركة،فيا حبذا لو نفرض اللغة الفينئية على الجميع وهيك منصير نفهم ع بعضنا والانترفون بيجي من الصين فينئي.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/19/2013 11:20:12 PM

فعلاً حسيت حالي عم إحضر "سكتش" ل سمير غانم أو عادل إمام! و المصيبة إنو أنا كمان عندي قصص مع الإنترفون بفرنسا و هيدي متل "حكايتي شرح يطول" على قولة حنان الشيخ! بس بيناتنا حسيتك "أنانية شوي" إنو بدك ترمي بلاكي على غيرك! بالنسبة للناطور أشكري ألله إنو ما بينقلّوا "الناطور المسكين" و إلّا كانت مسؤولة البناية كتبت "pauvre con" وساعتا كانوا الناس افتكروه ساركوزي! تمارا

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/19/2013 3:19:14 PM

من عرف لغة قوم أمن مكرهم

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم