أن تكون فلسطينياً، يعني أن لعنة الأمة المهزومة من المحيط إلى الخليج ستبقى تطاردك في لجوئك ونزوحك، وستبقى تتفرّج على نومك بين القبور الصامتة وشواهد الموت. أن تكون فلسطينياً، يعني أن الحياة لا تليق بك. كتب عليك أن تبقى مشرّداً من خيمة في الوعر إلى مخيم محاصر بالنار. أن تكون فلسطينياً نازحاً اليوم من مخيمات الحزن في سوريا، يعني أنه ما عليك إلا أن تصنع من «مقبرة» أجدادك وأولاد أرضك المسلوبة، مخيماً جديداً للموت البطيء. لقد أصبح حلم الحاجة أم حسين (78 عاماً) الهاربة من الموت في مخيم اليرموك، نسمة هواء تنعشها في غرفتها الصغيرة في حديقة مخيم الجليل الخلفية جنوب مدينة بعلبك. حلم العجوز التي تعبت من الترحال هو حلم كل أقرانها في مخيم مقبرة الجليل الجديد.
اختنق مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بعلبك بقاطنيه. لم تعد غرفه ـ الزنازين، تتسع لرحيل جديد من أرض القهر في سوريا. ولم تعد مقبرة المخيم، وحديقة ما يسمى متنزه الجليل، تشكلان إلا موقعاً للجوء جديد. ستون عائلة فلسطينية تفترش أرض مدافن الجليل البعلبكي، اقيمت لهم على عجل 41 غرفة بين القبور. وحدها أم حسين تختصر المشهد وأمنية العودة الى مخيم اليرموك في دمشق: «مكتوب علينا يما نعيش متل اهل القبور»، و«محدّش بيسألهن شو مالكم... ولا إحنا كمان حد بيسألنا يما». أردفت وهي تستجدي بحبات مسبحتها ثواب الآخرة «تعال يمّا وشوف هالعيشة... يا ريت حدا يقدر يجبلي مروحة راح موت من الشوب». وتضيف ضاحكة: «إحنا يما عايشين بين القبور. احنا مش احسن من اللي ماتوا». تستغفر أم حسين الله وتدعوك للتفرّج على غرفتها «شوف يما هاي الغرفة متل القبر» تضيف: «أنت لسّا ما بتعرفش أم حسين. مش فارقة معايا أعيش بالغرفة او بالقبر المهم أرجع على فلسطين».
أكثر من 1600 عائلة فلسطينية نزحت من مخيمات اليرموك وخان الشيح وسبينة في سوريا، إلى مخيم الجليل في بعلبك. نزوح أرهق الجليل، إذ يقول عضو اللجنة الشعبية في المخيم عماد الناجي إن «قدرة الجليل على إيواء عائلات فلسطينية نازحة من سوريا أصبحت مستحيلة». ويوضح أن الإيواء هو «لبّ المشكلة التي نعاني منها»، وخصوصاً أن الواقع السكاني المستجدّ «بحاجة ماسة إلى تدخل سريع لتوفير المأوى والاحتياجات الأخرى الضرورية». ويلفت الناجي إلى أن أكثر من عائلة تعيش في غرفة واحدة، موضحاً أن إقامة مساكن سريعة للنازحين في مدافن المخيم كان «شرّاً لا بد منه». ويبدر أمله في أن تقوم «الأونروا» والمنظمات الإنسانية بالمساعدة على توفير مأوى للنازحين، مبدياً تخوّفه من ارتفاع أعداد النازحين في مقبل الأيام.
حركة حماس هي التي تشرف على أوضاع النازحين في مدافن مخيم الجليل، وقد أوضح أحد مسؤوليها أنهم اضطروا الى تشييد غرف صغيرة بين القبور وفي حديقة «الجبّانة» لاستيعاب العائلات النازحة. موضحاً أن الحاجة ألزمتهم بتنظيم إيواء لأكثر من ستين عائلة «كيفما اتفق». ويشير هذا المسؤول إلى أن هيئة الغوث الإنساني قدّمت كل ما يلزم لإنجاح فكرة الإيواء في حديقة مخيم الجليل وفي زوايا «المقبرة». لا تتجاوز مساحة الغرفة الثلاثة أمتار لكل عائلة. وإذ يعترف المسؤول بضيق المساحة، يلفت إلى حلّ يمكن اعتماد «أن يعمد الشباب إلى النوم تحت الأشجار في الحديقة». وكشف أن ضغط النزوح من مخيمات سوريا «ألزمنا بإلغاء مسبح أطفال المخيم (الجليل) والاستفادة من مساحته لتشييد غرف إيواء».
النوم تحت الأشجار وبين القبور لا يروق الفتى أحمد (14 عاماً) الذي تعب من كوابيس الخوف خلال نومه. أحمد الذي هرب مع أهله من مخيم خان الشيح في اطراف دمشق الى مخيم الجليل قبل ستة أشهر، يرهب أقرانه بكوابيسه. تتحدث والدته عن ليالي ابنها وخوفه الدائم من فكرة النوم على مقربة من الأضرحة. ابنة مدينة صفد التي ولدت في مخيم خان الشيح قبل أربعة عقود، تجد في اقامتها القسرية بين قبور مخيم الجليل «مكاناً آمناً» وأفضل من البقاء تحت القصف اليومي في سوريا. وتقول جارتها في غرفة ملاصقة شيدت قرب ضريح، ولد صاحبه في فلسطين سنة 1945 واستشهد في جنوب لبنان سنة 1981، انها كانت تتمنى لو بقيت في اليرموك ولم تسكن في مقبرة بـ«آخر هالعمر». وتختم أم عمر (47 عاماً) «تعبنا من المذلة يما. والمصحف الشريف تعبنا من المذلة».