عندما أصبح احتمال قيام شكل من أشكال النقل المشترك في بيروت ممكناً، ولو من دون رؤية تنموية، توقفت عقارب ساعة التنفيذ على كباش صلاحيات بين بلدية بيروت وبين مديرية النقل في وزارة الاشغال وروائح الصفقة المشبوهة. يتنازع الطرفان على حق إدارة هذا المشروع وتحديد معايير ومواصفات «الباصات» ومساراتها وأماكن توقفها، ما يجعل المشروع عرضة لتجاذبات لن يستفيد منها سوى «قبضايات» الشارع الذين يسيطرون على النقل الخاص بمساراته وباصاته ومواقفه... لتصبح المنافسة مع النقل الخاص المحمي حزبياً وسياسياً ومناطقياً وتجارياً، منافسة مؤجلة.
يمكن وصف لبنان بأنه البلد الأكثر تخلّفاً في مجال نقل الركّاب. هذا القطاع تحوّل إلى نسخة عن الفوضى المتغلغلة في النظام اللبناني حيث النقل الخاص يطبق على السوق ويسير على هواه بلا تنظيم ولا حسيب ولا رقيب. هذه الفوضى تغذّي منافع جمّة في سوق استيراد الوقود والسيارات الخاصة من كل الأحجام وقطع الغيار، وتسمح بتهميش الأجهزة الرقابية وتعطيل آليات تطبيق أنظمة السير أو تطبيقها انتقائيا، وتفتح الشهية على مشاريع البنية التحتية لإنشاء جسور وأنفاق باستحقاقات مالية ضخمة تمتدّ على مدى سنوات وبلا رقابة على الاشغال... كل هذه العناصر وغيرها تحقق نتيجة أساسية: ازدحام سير واختناقات مرورية أينما كان وفي أي وقت، وبكلفة باهظة للانتقال تترتب على ميزانيات الأسر والأجور والبيئة والصحة والاقتصاد عموماً. فأين النقل العام في ظل هذا المشهد؟ وهل يجب أن يبقى النقل متروكاً لـ«قبضايات» الشوارع والأحزاب والطوائف والسياسة؟
منذ 8 سنوات، وتحديداً في 19 آب 2004، برز إلى الواجهة مشروع «النقل المشترك» الذي أقرّه مجلس الوزراء لشراء 250 باصاً تخصص لبيروت والمناطق. هذا المشروع لم يكن تقدمياً وتنموياً، بل كان عبارة عن فكرة تُنفّذ من دون تخطيط جدّي لحجم الطلب على النقل في لبنان، ولا للوسائل والأدوات المناسبة لتلبيته. لعله كان عبارة عن تقاطع صراعات تدور بين رجال السياسة وسعي بعضهم إلى تمكين القطاع الخاص من الهيمنة على سوق النقل على حساب دور القطاع العام ووظيفته. في المجمل، كانت الجبهة الأولى تحقق تقدماً في هذا المجال، إذ كانت شعلة النقل العام تذوي مع تقلّص أعداد باصات النقل المشترك التي اشترتها الدولة في منتصف التسعينيات ضمن صفقة «مشبوهة»... حتى بلغ عدد الباصات العاملة أقل من 3 في نهاية 2010، فيما أصبح القطاع الخاص هو سيد الشوارع والنقل، وصار تنظيمه أمراً يفرض نفسه بقوة الواقع ويتحكم في تعرفة النقل، وأصبحت خريطة المسيطرين تتوزّع على 3 فروع: الشركات الكبرى، الاتحادات والنقابات والأحزاب، مواقف السيارات والباصات الصغيرة.
في هذا الإطار، كانت حاجة القطاع العام إلى شراء باصات جديدة ملحّة، بل كانت شرطاً للاستمرار في توفير خدماته وديمومة عمل موظفيه. وبصورة تلقائية، أجرت مديرية النقل المشترك وسكك الحديد دراسة عن شبكة النقل تحدّد فيها الخطوط التي يمكن تسيير باصاتها فيها والعدد المطلوب لتلبية الطلب على النقل في بيروت الكبرى وبعض المناطق، فتبيّن لها أن هناك حاجة إلى نحو 250 باصاً.
لم تكد هذه الدراسة تخرج إلى العلن حتى كشّف بعض السياسيين عن أنيابهم. كان أبرز المعارضين لهذا المشروع هو رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة منذ أن كان وزيراً للمال، وقد تمكّن من إبقاء هذا المشروع حبراً على ورق قرارات مجلس الوزراء، حتى أعادت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الأخيرة إقراره ووضعه مجدداً على السكّة، ولكن من دون تنفيذ!
على خطٍّ موازٍ، كانت مديرية النقل المشترك قد عمدت إلى صيانة عدد من الباصات المدمّرة، تمهيداً لوضعها في الخدمة ولإحياء عملها. أما وزير الاشغال العامة غازي العريضي، فقد عمد إلى شراء 20 باصاً جديداً بموجب صفقات بالتراضي أقرّها له مجلس الوزراء، ليعلن العريضي في مطلع آب 2012 تشغيل 45 باصاً على الخط.
هذه الباصات لم تكن سوى «بروفة» لشراء 250 باصاً. فمن أصل الـ45 باصاً وضع العريضي 6 منها على خطّ يربط الكولا بخلدة وببلدته بيصور. هذا الأمر وحده كان كافياً لإثارة التساؤلات عن مشروع النقل المشترك والأهداف التي تكمن خلفه، وهو يوحي بأن الأمر كان كناية عن مشروع مناطقي انتخابي وليس مشروعاً تنموياً. فهذا المشروع لم يجب عن أسئلة كثيرة؛ فهل باصات النقل المشترك كافية لتلبية الطلب على النقل في بيروت وضواحيها وفي المناطق أيضاً؟ هل تصل حاجة النقل في بيروت إلى إنشاء «تراموي» أو «مترو» يربط المناطق الأساسية ويؤدي وظيفة محورية في تقليص كلفة ازدحام السير على الاقتصاد وعلى البيئة؟ ألا يجب أن تربط المناطق بعضها ببعض من خلال شبكة سكة حديد وقطارات تلبي الطلب على الانتقال بين الارياف والمدن الأساسية؟ ألا يعدّ النقل جزءاً أساسياً من عملية التنمية ويعزّز وجود مؤسسات وأعمال خارج المدن؟
الإجابة الوحيدة عن هذه الأسئلة جاءت من خلال الدراسة التي وضعتها وزارة الأشغال العامة لخطة النقل في بيروت وضواحيها، والتي بدأت تطبيقها أخيراً. تتضمن هذه الخطّة شراء 250 باصاً لتلبية الطلب على النقل في بيروت الكبرى وفي بعض المناطق، وهي تلحظ وجود 911 محطّة باص والخطوط التي تتوزّع عليها هذه الباصات... لكن هذه الخطّة لا تتطرق إلى توظيف النقل العام في الاقتصاد الوطني، وهي خطّة ذات رؤية ضيقة ومتواضعة وقاصرة، سواء في خلفياتها أو أهدافها أو آلياتها... وهي لم تبصر النور بعد منذ 8 سنوات إلى اليوم!
في الواقع، إن أبرز قسم من هذه الخطّة، أي شراء باصات النقل المشترك، لم ترصد له الأموال إلا بعد «عشرات الاجتماعات وورش العمل التي عقدت مع الجهات المعنية، والتي أدّت إلى رصد الاعتمادات اللازمة لشراء الباصات» وفق ما ينقل رسميون في قطاع النقل. وخلال الأشهر الأخيرة، أضيفت عناصر جديدة إلى واقع شراء الباصات تجعل الطريق إلى إنجازه أمراً بعيد المنال. العنصر الأول هو أن بلدية بيروت ترفض هذا المشروع برمّته، وهي تحاول إخضاع الوزارة لمشروع جديد يكون تحت إشرافها وإدارتها بعدما رفضت طلب مديرية النقل البري السماح لها باستخدام حرم الطرق الواقعة ضمن نطاق بلدية بيروت لإنشاء محطات وقوف باصات. وبحسب محضر اجتماع المجلس البلدي في بيروت رقم 752، فإن المجلس وافق على توصية لجنة السير والنقل والإنارة في البلدية بتكليف شركة «تيم انترناسيونال» بمواكبة البلدية في تقييم خطّة إصلاح النقل العام وإعداد كلفة الدراسات اللازمة لإطلاق نظام متكامل للنقل العام والتنسيق بين البلدية والمديرية العامة للنقل البري والبحري وكافة الجهات العاملة على موضوع النقل لعام لمدينة بيروت وضواحيها ومداخلها...
ويقصد المجلس البلدي بالمواكبة، بحسب تفسير رئيس البلدية بلال حمد، أن يحصل «تكليف شركة تيم انترناسيونال بطريقة الاتفاق الرضائي سنداً إلى البند الخامس من المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية لوضع دراسة تحدّد عدد الباصات التي يجب إدخالها إلى بيروت وحجمها وعدد ركابها والمسارب التي ستخصص لها ومحطات الوقوف وأي الشوارع يمكن مرور الباصات فيها... وكل التفاصيل المتصلة بهذا المشروع». ويضيف حمد، إن فكرة مشروعنا لا تنحصر في الباصات، بل نحن نريد تنفيذ مشروع «تراموي» يكون تجريبياً بين «وسط بيروت» ومنطقة «بلس».
والسبب الثاني هو أن المناقصة التي أجرتها مديرية السكك الحديد والنقل المشترك فشلت في استقطاب عارضين مطابقين للمواصفات المطلوبة.
لكن مشروع البلدية «الرضائي» لم يجد طريقه إلى التنفيذ، إذ قرّر «محافظ بلدية بيروت ناصيف قالوش ردّ المشروع بعد ستة أشهر من إحالته عليه بحجّة أن الاتفاق بالتراضي لا ينطبق على تكليف شركة تيم، لكننا مصرّون على قرارنا وأعدناه إليه للتنفيذ»، يلفت حمد.
وبحسب المعلومات المتداولة بين الجهات المعنية، فإن ردّ المشروع جاء بعد «اتفاق» بين قالوش والمدير العام للنقل البري والبحري على السير بمشروع المديرية الذي بات قيد التنفيذ وتحطيم أي مشروع للبلدية.
هنا يمكن التطرق إلى السبب الثاني الذي يدفع هذا المشروع بعيداًً عن التنفيذ، أي المناقصة العمومية لشراء 250 باصاً. خلال الاسابيع الماضية، انفرط عقد المناقصة للمرّة الأولى بعدما فشل العارضون في تقديم عروض تتناسب مع المواصفات المطلوبة في دفتر الشروط، إلى درجة أن بعض المحنكين في القطاع وصفوها بأنها عملية «مدبّرة» لشركة معيّنة. لا يمكن الجزم بهذا الاحتمال، لكنه يبقى أمراً ممكناً في ظل الفساد المنتشر في إدارات الدولة. فمن أصل 38 شركة كبرى متخصصة في مجال النقل البري، قدّمت 5 شركات فقط عروضها وهي: شركة باذرجي وكيلة «SUBARU»، لكنها قدمت العرض بوكالتها عن شركة صينية لم تستوف الشروط، شركة «أبو عضل» بوكالتها عن ماركة «VOLVO»، شركة رسامني بوكالتها عن ماركة صينية أيضاً غير مشهورة، شركة «أوماترا» بوكالتها عن «Iris Bus»، وهناك شركة صينية مغمورة قدّمت عرضها أيضاً... وبحسب مصادر لجنة فضّ العروض، فقد استبعدت 4 شركات عن المشاركة في المناقصة بسبب عدم استيفاء الشروط، ولم تبق شوى شركة رسامني.
الخبيثون يقولون إن دفتر الشروط كان يلحظ أمراً مهماً يتعلق بمواصفات الوقود المطلوب استخدامه في الباصات المنوي شراؤها، إذ كان يجب أن يكون استهلاك الوقود (المازوت) على أساس تقنية «EURO 5»، وهو أمر تصعب تلبيته، إذ إن المازوت المسموح استيراده إلى لبنان يمكن أن يتوافق مع معايير «EURO 3» كحدّ أقصى... ولهذا السبب، فإن الشركات التي اشترت دفتر الشروط مثل «مرسيدس» و«رينو» وسواها من الشركات التركية والتشيكية والأوروبية لم تشارك في تقديم العروض. وبعض المطلعين يقول إن دفتر الشروط لم يقدّم أي ضمانات للشركات لدفع ثمن الباصات بطريقة مباشرة، رغم أن الشركات الأوروبية المتخصصة في هذا المجال تطلب ضمانات بالدفع لم توضع في دفتر الشروط، ما جعلها تستبعد نفسها عن العروض.