الموافقة فالمَيْل فالشغف فالوَلَه...ثمّة مَن عاقَب الإنسانَ سلفاً قبل المعصية. الله لا يعاقب. ليس بحاجة إلى الشرّ. مَن، إذاً؟ عوقب الإنسان إذْ خُلِق من طين. هناك مَن تسلّل وراء الله ودسّ في «التأليف» نشازاً. مجهول. المجهولُ كائنٌ ثالثٌ مخيف. هناك حروب وجرائم يقترفها مجهولون ويظلّون إلى الأبد مجهولين. لماذا لا يكون خالق الإنسان من طين عوَض الهواء أو النار فريقاً مجهولاً؟ إنّ إبليس نفسه استفظع الأمر. ما معنى أن تكون الكائنات الأخرى من هواء أو نار ويكون المخلوق الأحبّ، نظريّاً، الذي يقال إنّ الله خلقه على صورته ومثاله، من تراب؟ تراب الجماجم والأفاعي والديدان، التراب المُهدى للأقدام؟
... وأن تُصنعَ المرأة من ضلع الرجل إنّما هو وحلٌ يُصنعُ من وحل.

■ ■ ■


يا للحبّ! ماذا لا يفعل الإنسان بسببه! لو أحجم العاشق عن الانبهار بالمعشوق لما بقي إلّا مجاعات الشبق العمياء. لا أتكلّم على النواحي الجماليّة فحسب بل على الطباع، الأخلاق. يا ما أجوف الحبّ لولا لوعة المستحيل التي تخترقه!
في اللغة: بدايةُ المحبّةِ الموافقة ثمّ المَيْلُ ثمّ المؤانسة ثمّ المودّة ثمّ الهوى ثمّ الخِلّة ثمّ المحبّة ثمّ الشغف ثمّ التيتُّم ثمّ الوَلَه ثم العشق. هذا في «مجمع السلوك». وقد تبنّاه جميل صليبا في «المعجم الفلسفي». أمّا في «الكليّات» لأبي البقاء، على ما يورد «محيط المحيط» أيضاً، فأوّلُ مراتب الحبّ الهوى ثمّ العلاقة ثمّ الكَلَف ثمّ العشق ثمّ الشغف واللوعة واللاعج. وفي ختامها الوَلَه فالهيام.
أهمّ ما في هذه المراحل أنّ العاشق يجتازها دون أن يعرف.

■ ■ ■


يقول كاتب: «لولا هذه المرأة لما كتبت». هراء. تكتب لتغازلها، لتستدرجها، تكتب لتربح أنت. والأرجح أنّ الكتابات، التي ما كانت لتكون لولا هذه المرأة، كتابات مملّة. يكتب الكاتب لدوافع عديدة أهمّها غامضٌ عليه. وقد يكتب من أجل شخص وسوف تكون هذه أتفه كتابة. لنأخذ مثلاً: بين فولتير وروسّو مراسلة موجودة في كلّ المؤلّفات المتعلّقة بهما. كان فولتير قارصاً جارحاً مُرّاً هدّاماً، وفي رسائله الهجائيّة لروسّو كان فاشلاً وفي مستوى أيّ صحافي ساخر. وكان روسّو خارج رسائل ردّه على فولتير متلفلفاً بذواته الداخليّة حسّاساً كأوتار الروح جريحاً حتّى من الأوهام مُجلّياً في الحديث عن نفسه تجلّياً ما زال ظاهرة رائدة في الأدب. وفي ردوده الدفاعيّة على فولتير كان رخواً وسطحيّاً ونوّاحاً. ليت تلك المراسلة الشخصيّة لم تحصل، لبقي عداء الأوّل في مقام الأسطورة و«اضطهاد» الثاني في مرتبة الصَلْب.
لولا هذه المرأة لما تحرّكت فيك مشاعر التوق والرغبة في الإعجاب، وهذه كان يمكن أن تحصل أيضاً بسبب الشمس والبحر والعاصفة والموت. المرأة صورة. الطبيعة صورة، وإنْ أكثر ثباتاً. الفكرة صورة. الكتابة صورة عن الكتابة. شكلك صورة عن شكلك.
نحن عُبّاد صور. إذا كانت المرأة أكثر ما يحرّك خيالنا فلأنّها، بشبه غربتها الفيزيكيّة عن الرجل، تبعث فيه الأمل الخائب بأن تكون أجمل منه وأكمل منه وغير ذات عيب من عيوبه. تبعث فيه الأمل بأنّها حقّقت تلك المعجزة: معجزة أن تكون جسداً يؤكل وغير مجسَّدة في آنٍ واحد فتمتلئ بعوامل السحر وتخلو من كل نقيصة.

■ ■ ■


وعظمة الصورة أنّها بلا نهاية. وما من صورة تشبه صورة. والخيال لا يرتوي. والقافلة تسير إلى الهاوية وفي الطريق تبتكر دروباً فرعيّة إلى السماء.

■ ■ ■


أكثر مَن لم يفهم المرأة هم الفلاسفة. أفكارهم مستحوَذٌ عليها في غير سياق وأهدافها غريبة تماماً عن مشاريعهم. كالعادة شذّ نيتشه وحده: «المرأةُ استراحة المحارب». رحمها وأجهز على الرجل، بخلاف ما تظنّ النساء. استراحة المحارب أمتع لحظة في لعبة الوجود. عندما يحارب الرجل، أي يعمل وينافس ويقاتل ويمارس ما يظنّها قواه في سبيل ما يظنّه الحياة، يعده الفيلسوف بمكافأة غير بعيدة عن فكرة حوريّات الجنّة. وهي إذْ تحصر الإمتاع بالمرأة تعطيها أقصى ما تطمح إليه خارج عنتريّات المساواة النسويّة، تعطيها تحقيق حلم الرجل بها دون خطر انقطاع الحلم، فما دامت استراحة المحارب فهذا معناه أنّ سلطتها السحريّة ستدوم دوام الاستراحة، أي دوام السراب، دون خضّات اليقظة.

■ ■ ■


وإذا كان الفلاسفة أكثر مَن لم يفهم المرأة، فإنّ أكثر مَن تَعَشَّقَها هم المراهقون والشعراء والفنّانون. وقد ظلموها في ذلك ظلماً فادحاً. بالإمكان القول إنّ شاعراً أو فنّاناً لم يستطع أن يحبّ امرأة حقيقيّة. وإنْ فَعَلْ فقد أحبّ إلى جانبها العديدات ليغطّي وَهْم واحدةٍ بوهم أخرى. خذ النساء من قصائد الشعراء وأغاني الفنّانين ولوحاتهم. بل خذهنّ فقط من الشعر. اللوحات قد تشطح إلى «الواقع» حتّى عند أكابر الفنّانين، وها هو ميكل إنج يُفتّل عضلات نسائه بما يجعلك تشعر كأنّه يريد أن يرى جمال الرجل في كلّ شيء.
الشاعر يعشق المرأة بملابسها والعامل بعريها. والمرأة مثل الغيم تتّخذ الأشكال تلو الأشكال.
لا أحد يكتب عن المرأة. نكتب عن عقائد لنا حول النساء. المرأة نظام توتاليتاري يتحكّم فيه عبيد.

■ ■ ■


أعرف كثيرات يَحسبنَ أنّهُنَّ يعرفنني. لم يعرفني إلّا اثنتان، وثالثة لم تعجبها معرفتي. أعرف كثيرات أظنّ أنّي أعرفهنّ. مَن أحببتهُنَّ عرفتُ منهُنَّ ما يحمي حبّي ولا يوسّع مداركي. المعرفة بين رجل وامرأة هي النظرة الأولى. لا تذهب أبعد. أبقِ المرأة غريبة.



غسّان تويني
ذكرى غسّان تويني (السنويّة الأولى لغيابه) يُستحسن الاحتفاء بها خارج جريدته. وبدون مشاركة موظّفيها. في «النهار» غالباً ما كانت كلماتنا عنه تفوح بالنفاق. صحيحٌ أنّه أحبّ أن يُمدح، ومَن لا يحبّ، وصحيحٌ أنّه كان يفضّل أن يخافه الآخرون على أن يستلطفوه، ولكنْ عند الكتابة عنه كان يبحث بظمأ عن عبارات الصدق، ولا أدري كم مرّة وجدها.
برز غسّان تويني في مرحلة من تاريخ لبنان الحديث كانت تغلي بالوعود. ولم يكن من منارة تجتذب هذه المراكب إلّا الصحافة. وتنافست «الجريدة» و«الحياة» و«النهار»، وتوزّعت عليها الأقلام اللامعة من مختلف حقول الكتابة، وصار سعيد تقيّ الدين يُصرّح بأنّ الحياة صراع على الصفحة الأولى وأمين نخلة يجتهد ويجاهد في سبيل إنهاء مقالة من عشرة أسطر وسعيد عقل نجم الصحافة الأدبي دون منازع. وشهدت تلك الحقبة التماعَ سيوف فؤاد حدّاد وفؤاد سليمان ورشدي معلوف ورفيق معلوف وميشال أبو جوده وباسم الجسر وجورج سكاف وجبران حايك ومارك رياشي.
اقتحم غسّان تويني الحلبة السياسيّة اقتحام الإعصار. لا يكاد يمرّ أسبوع إلّا يستثير حوله المعارك يخوضها بشراهة وضراوة، فما إنْ تنتهي معركة حتّى يستنبت أخرى. ورأى فيه الشباب (وكان أصغر نوّاب المجلس سنّاً) أملاً في التغيير. وساعده في مواقفه محبّون مخلصون أوّلهم وأهمّهم جهاز تحرير «النهار» وعلى رأسه والدي وثانيهم رفاقه السابقون (بعدما فصل من الحزب) في الحزب القومي. وفي ما بعد حلفاء أكثر براغماتيّة نسج وإيّاهم روابط متينة كان بعضها عرضة لتبدّلات الظروف كما مع كمال جنبلاط وكميل شمعون وبعضها الآخر ثابتاً لا يتزعزع كما مع ريمون إدّه.
لم يعرف غسّان تويني الصوت الخفيض إلّا في المسارات الحميمة. وفي الحزن. كانت مقالته تُجلجل وتُدَرْبِك الصخور. وفي أواخر عهده بالكتابة أصبح يضيق خلقه فيقاطع نفسه صائحاً بالقارئ: «مفهوم!؟ معلوم!؟».
خير مَن عرفه وعرف الكلام عليه زوجته ناديا. كانت مأخوذةً به على الوجهين: معجبة بقوّة شخصيّته وطاقاته وإمكاناته الخلّاقة، ومتبرّمة من كونه لا يُختصر الّا يظهر من محلٍ آخر مفاجئ، فضلاً عن مهارته الفائقة في «إدارة الرجال». كثير منها استقرّ فيه وكثير منه بقي لغزاً بالنسبة إليها.
صان غسّان تويني نرجسيّته فوق ما أحببناه. وكنّا حوله حاسدين أو مقلّدين. وكان يستلذّ ذلك متظاهراً بعدم الانتباه.
كانت افتتاحيّته حجراً في بركة. خاطَبَ الحكّام كأنّهم تلامذة في مدرسته. وبرع في ابتكار المعادلات. «رئيس مع سوريا لا رئيس منها». كانت المرحلة الزمنيّة تسمح لكنّه كان هو أحد صانعي تلك المرحلة.
برع في السباحة بين التيّارات ليبقي لـ«النهار» حيّزها من الحريّة في أحلك الظروف. لأجل ذلك لم يدّخر وسعاً في الإفادة من رصيده المعنوي لدى أطرافٍ ما كان يجمع بينهم، «في حرب الآخرين على أرض لبنان»، شيء غير الكراهية، وصوت فيروز، وهيبة «النهار» وصاحبها.
لو كان حيّاً ماذا كان فعل بـ«النهار»؟ ربمّا الخبر اليقين عند مروان حماده. لعلّه كان سيفتح صفّاً لتذكير معظم الأساتذة بالفرق بين مقال الرأي (كمقال جهاد الزين وعبد الوهاب بدرخان وأحياناً راجح الخوري وسابقاً سمير قصير) والمقالات التي يعرف القارئ سلفاً ما ستقول. (وما نقوله عن «النهار» نقوله عن «الأخبار» وعن سائر الصحف). صحيح أن صحافة الغد صحافة رأي، وإلّا فلا مكان لها، على أن لا نخلط بين الرأي الذي هو في الحدّ الأدنى فكرة خلّاقة، والتعليق «اللاحق» بالحدث وما هو بأكثر من صدى عادي.
كان يجب أن يحب المرء غسان تويني ليتعلّم منه، ولم يكن جميع الذين يكرز فيهم يحبّونه. نرجسيته المتكبّرة. ودائماً ذلك الانطباع أنه «يديرك».
رحم الله جبران وغسّان وجبران. رحم الله ناديا ومكرم ونايلة الصغيرة الأولى. عائلة منوّرة حصدتها الظلمات. بصرف النظر عن الصحافة، عن الماضي والحاضر، أنظرُ إلى صورة عروس «النهار» نايلة تويني على غلاف «الأخبار» وأقول: ليت الجمال يكون دائماً الوارث الوحيد.