ما أنفقته وزارة الأشغال خلال 30 شهراً مضت، يكاد يساوي كلفة خطّة الكهرباء بكاملها، و68% من هذا الإنفاق فقط يكفي لتنفيذ التغطية الصحية الشاملة خلال سنتين ونصف... ولا يغفل عن بال المتابعين أن الإنفاق العام منذ عام 2011 إلى اليوم بلغ 21172 مليار ليرة، أي أن نحو ثلث هذا الرقم ذهب إلى الطرق وصيانتها وبعض الإنشاءات الإضافية... لا بل إن ما يرويه متعهدو الأشغال العامة يشي بفضيحة أكبر، إذ إن هذا المبلغ كلّه ذهب إلى عدد محدود من المتعهدين المحسوبين سياسياً على هذا الزعيم أو ذاك، وأن هذا الأمر وحده كان كافياً لأن تلغي إحدى غرف ديوان المحاسبة إصدار تقرير يتحدث عن تزوير وغش وتلاعب في استدراجات العروض المحصورة التي لُزّمت على أساسها المشاريع وأنفقت الـ 6020 ملياراً.
آلية الإنفاق المذكورة لم تكن سريّة، بل كانت تجري برغبة الحكومة الميقاتية وعلمها. معظم هذه المبالغ خصّصها مجلس الوزراء ووزّعها على المناطق حسب انتماءات ورغبات الوزراء وزعمائهم السياسيين، ولم يكن الوزير غازي العريضي، للإنصاف، سوى أداة تنفيذ وإدارة وإشراف على هذا الإنفاق السياسي، وهو ما أوجب عليه الدفاع عن صلاحياته المذكورة أمام مجلس الوزراء والمطالبة بحصّة أكبر للإنفاق على قاعدة أنه يدير الحصّة الجنبلاطية من الجبنة اللبنانية. لكن الإنصاف نفسه يقتضي الإقرار بأن فترة وجود العريضي في هذه الوزارة هي فترة «زفت».
أربعة مليارات دولار أنفقتها وزارة الأشغال على استثمارات يفترض أنها في البنية التحتية، وهو مبلغ يمثّل إنفاق الوزارة الاستثماري الذي يُعرف بأنه «الجزء الثاني من الموازنة». لكن في وزارة الأشغال، عن أي استثمار يمكن الحديث؟ ليست هناك إجابات كافية أكثر من تلك التي قدمتها وزارة المال في بيانها أمس ردّاً على ما يشيعه العريضي ونواب 14 آذار.
فبحسب مصادر مطلعة، تردّد إلى مسامع وزير المال محمد الصفدي أن العريضي يلقي باللائمة عليه بسبب عدم صرفه الأموال اللازمة لتنفيذ أشغال كان يطالبه بها نواب المناطق وزعماء الزواريب السياسية. أيضاً تنامى إلى الصفدي أن العريضي يطلب من النواب والشخصيات السياسية التي تراجع بشأن تزفيت أو صيانة أو طريق أو أي حركة إنشاءات من هنا أو من هناك، بأن يراجع المطالبون وزارة المال. آخر هذه «الحركات» كان يوم الثلاثاء الماضي عندما زار نواب عكار: معين المرعبي، خالد زهرمان ونضال طعمة الوزير العريضي وبحثوا معه في وضع الطرق في منطقة عكار، ثم صرّح المرعبي في نهاية اللقاء بأن العريضي «متجاوب بالكامل، وأن مجلس الوزراء أقرّ مبلغ 50 مليار ليرة في 2012 مخصّصة لطرقات عكار، لكن أكثرية المشاريع توقفت، إنما كما يقول المثل «العين بصيرة واليد قصيرة»، وذلك نتيجة السياسة «التعيسة الخرقاء» التي يتبعها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المالية محمد الصفدي لرفضه دفع الأموال اللازمة، ما أدّى إلى التوقف الكامل عن تنفيذ المشاريع وتوقيعها وتسويتها».
سريعاً، ردّ الصفدي على هذا الكلام بالإشارة إلى أن وزارة الأشغال حصلت على اعتمادات بقيمة 6020 مليار ليرة منذ عام 2011 ولغاية الآن، ويعود لها أن تشرح للنواب وللرأي العام على أي مشاريع وفي أي مناطق أنفقت هذه الأموال». وأضاف بيان الصفدي إن «الوزارة ملتزمة بتنفيذ القوانين المعمول بها في فترة تصريف الأعمال التي لا يدخل من ضمنها إطلاقاً الإنفاق على مشاريع جديدة».
ولا يحتمل بيان الصفدي تأويلاً كثيراً، فبحسب مصادر مطلعة، كان يقصد الإشارة إلى أن الاعتمادات التي لُحظت لوزارة الأشغال العامة هي على شكلين: اعتمادات رصدت في مشاريع الموازنات ووزعتها الوزارة على المناطق وفق رؤيتها ومزاجيتها، واعتمادات أقرّها مجلس الوزراء بناءً على جداول واضحة للإنفاق في مناطق محدّدة.
هذا يعني أن الأموال كانت تنفق قبل حكومة تصريف الأعمال، وأنه قد أنفق الكثير منها... لكن اليوم في ظل استقالة الحكومة، فإن أي إنفاق جديد يكون مخالفاً للقانون، وهو «الأمر الذي ينطبق على كل طلبات العريضي للإنفاق الجديد» تقول مصادر وزارة المال.
رغم هذا التفسير الواضح، إلا أن مصادر مطلعة تؤكد استحالة مرور هذه الطلبات لدى وزارة المال نظراً إلى أمرين؛ الأول يتعلق بمراقب عقد النفقات الذي يوقع هذه الملفات ويضع عليها ملاحظاته سواء لجهة إنفاقها أو تنسيبها في الموازنة أو لجهة مدى قانونيتها... ورغم عدم اتساع صلاحيته، إلا أن مراقب عقد النفقة «إ. ح.» وضع ملاحظات واسعة على ملفات وزارة الأشغال، وقد حملت مبرّرات منطقية وقانونية لوقف صرفها، ما أثار حفيظة العريضي واستياءه فقرّر اللجوء إلى طريقة مختلفة لإجبار وزارة المالية على تمرير هذه الملفات.
أما الأمر الثاني، فهو يتصل بتعميم أصدره رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي، ويطلب فيه إلى الإدارات التي تريد الإنفاق خارج ما يحقّ لها ضمن حكومة تصريف الأعمال أن تطلعه على طلباتها خطياً لتقترن الموافقة عليها بتوقيعه وتوقيع الوزير المختص. ورغم ضعف القواعد القانونية لهذا التعميم الأقل تشدداً من القواعد المعمول بها في حالات استقالة الحكومة التي تمنع إنفاق أي قرش إضافي عن تسيير الأعمال، فإن طلبات الإدارات انهمرت بالجملة في إطار مخالف للتعميم!
ردّ الصفدي لا يمكن حصره بنواب عكّار، ولو أنه كان مخصصاً لهم دون غيرهم، بل هو ردّ يقدّم صورة واضحة عن كل الطبقة السياسية في لبنان وأذرعتها في وزارة الأشغال الذين لم يكفِهم مبلغ 1.6 مليار دولار سنوياً.